هل تصمد صناعة الخيزران في غانا أمام تحديات السوق؟
تاريخ النشر: 3rd, April 2024 GMT
غانا- تشتهر أفريقيا -ومنها غانا– بخيزرانها الذي يعد من أجود الأنواع في العالم، واعتمد الأفارقة بشكل عام على الخيزران والقش والقصب في صناعة المفروشات التقليدية من أسرّة وطاولات وكراسي، لكن هذه المهنة تتراجع تدريجيا لأسباب عديدة.
يعمل "أليكس" في هذه المهنة منذ زمن طويل، وقد ورثها عن أجداده وحاول أن يطورها لتواكب العصر، على حد تعبيره، من خلال تنفيذ تصاميم حديثة.
لكنه لا يزال يرتطم بحائط من الخيبة يحول بينه وبين تطويرها، ويقول "مهنة مفروشات الخيزران عريقة وقديمة ورثناها عن أجدادنا ونحاول التمسك بها، بعد أن تخلى عنها كثير من الصناع المهرة ومن الزبائن أيضا".
ويضيف أليكس "بعض الناس من طبقات معينة من المجتمع لم تعد تلائمهم مفروشات الخيزران التقليدية، واتجهوا نحو ما هو أحدث باقتناء المفروشات المستوردة ولا سيما الصينية منها لأنها أرخص ثمنا".
ويتابع "أصبحت المنافسة شديدة بسبب اهتمام الصين بهذه الصناعة وإغراق السوق العالمية بها، بينما نحن ما زلنا نعمل بأدوات بدائية وعلى الأرصفة".
تواجه مهنة صناعة مفروشات الخيزران تحديات أخرى تجعل منها مهنة تلفظ أنفاسها، وفق تعبير "آيزك" أحد العاملين فيها. ويرى أن استغلال الحرف الفنية -لمجرد أنها يدوية الصنع في أفريقيا- ما زال يعترض طريق التراث الأفريقي الغني نحو الأسواق العالمية.
ويقول آيزك "يأتي أحيانا بعض التجار ويشترون منتجاتنا بأبخس الأثمان، لكن الحال لم يعد كما كان في السابق، فاليوم حتى المواد الخام التي نعتمد عليها ونقطع مسافات طويلة للحصول عليها، أصبحت غالية الثمن بسبب استغلال التجار بحجة قلة المحاصيل وانتشار العمران".
ويضيف "كما أن الحكومات لا تعتني بالحرف اليدوية ولا تحافظ عليها ولا نتلقى أي دعم منها. نعمل لنؤمن قوت يومنا، وفي موسم المطر نعاني لأنه يعيق عملنا، وأحيانا قد يكون السبب في فقدان قطع ومواد عديدة، فمياه الأمطار تجعل بعض الأخشاب رطبة وغير صالحة للاستخدام".
ساعدت البيئة الطبيعية في خلق ذاك الحس الفني الفطري عند بعض الحرفيين، ففي غانا يشتهرون بنحت الخشب وصناعة تماثيل تجسد تراثهم وثقافتهم وبيئتهم، كالأقنعة الخشبية التي كان يستخدمها زعماء القبائل الأفريقية.
يعمل "ماوكو" منذ أن كان صغيرا في نحت التماثيل وصناعة الأبواب وصناديق الحلي، وقد ورث هذه المهارات عن والده لتأمين لقمة عيشه، لكنه -كغيره من النحاتين- يملك حسا فنيا وموهبة حقيقية في تجسيد ثقافته، خاصة عندما نرى الأدوات التي تنتج هذه التحف الفنية المميزة، وهي مجرد إزميل ومدق خشبي.
وقد يستغرب البعض أن نعومة ملمس التمثال ناتجة عن شغل يدوي لا دخل لأي آلة فيه.
يقول ماوكو "بات السياح يهتمون أكثر باقتناء هذه المنحوتات كتراث أفريقي، بينما لم يعد ذلك يثير اهتمام الناس هنا، خاصة بعد فتح باب استيراد الأبواب المصنعة والمنحوتات والتحف الصينية، فأصبحت هذه الحرفة لا تكاد توفر شيئا للعاملين فيها، لكنني لا أستطيع التخلي عنها ولا أعرف مهنة غيرها".
لا نستطيع إنكار تأثير الصناعات الحديثة خاصة في البلدان النامية التي تُعتبر بيئة تجارة حية، بسبب فقر مواردها وضعف صناعاتها.
لكن أفريقيا ما زالت تصارع للإبقاء على صناعاتها وحرفها التقليدية حية، رغم بساطتها ومحدوديتها، ولا سيما بوجود قرى لا تزال بسيطة لم تطرق الحداثة بابها يوما، بسبب بعدها عن مراكز الثقل الاقتصادي.
ومن هذه القرى شمال غانا الذي تقطنه الأغلبية المسلمة، حيث ما زال الناس يعتمدون على ملابس مصبوغة ومنقوشة بطرقهم التقليدية وكذلك الأحذية والحقائب النسائية والحلي وسلال القش والقبعات.
تقول "أسانتوا"، وهي سيدة شمالية انتقلت إلى العاصمة أكرا للبحث عن عمل ولا تزال تتكلم لغة القبيلة المحلية، إنها تعلمت مهنة صناعة قبعات القش من والدتها، وصناعة السلال التي يعتمد عليها أهل القرى كثيرا في وضع حاجياتهم للتسوق أو تخزين الطعام.
وتوضح أنها تصنع منها أحجاما وأشكالا مختلفة، وتعتمد على القش كمادة أساسية، خصوصا الملون الذي يساعدها على إضافة لمسة فنية إلى منتجاتها.
وتقول أسانتوا "البيع في الشمال أكثر منه في العاصمة، لكنه أرخص، وفي الحالتين المواد متوفرة فقط في منطقة كوماسي وسط البلاد، ويجب أن أسافر للحصول عليها، وبذلك تكون تجارتي وصناعتي غير رابحة بشكل جيد، لكنني أحاول الحفاظ عليها قدر المستطاع".
وتتابع "هناك العديد من الناس الذين باتوا يفضلون القبعات المستوردة وخاصة المستعملة التي تباع بسعر زهيد، والحقائب أيضا، عوضا عن السلال التي أصنعها".
وإذا كانت موجة التحديث والتكنولوجيا الصناعية قد أسهمت إلى حد كبير في انقراض مهن عديدة حول العالم، فهل ستواجه هذه المهن والحرف الفنية في غانا وأفريقيا فيضان البضائع المستوردة؟ أم إنها ستنقرض وتندثر معالمها التي صمدت مئات السنين؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات
إقرأ أيضاً:
من الاختبارات التقليدية إلى التحليل اللحظي للأداء
د. عمرو عبد العظيم
يتسارع تطور غير مسبوق في القطاع التعليمي، حيث لم تعد قاعات الدراسة تتّسع لاختبارات تقليدية تقيس جزءًا بسيطًا من قدرات الطلبة، أو حفظهم واسترجاع المعلومات. حيث أصبح من الضروري أن ننتقل من الامتحان الورقي الذي يَحدّ العقل، إلى تقييمٍ ذكيّ يقرأ أداء الطالب لحظة بلحظة. ويمنحه فرصة أن يكتشف ذاته قبل أن يحاسبه الآخرون أو يحكموا على أدائه، وهنا يتقدم الذكاء الاصطناعي ليعيد رسم المشهد التعليمي، ويحوّل التقييم من حدثٍ مُرهب يحدث مرة كل فترة إلى عملية مستمرة تُضيء طريق التعلم وتحسين مخرجاته.
ومن أهم التحولات الحديثة في التقييم هو بناء الاختبارات بالذكاء الاصطناعي وفق المنهج الدراسي والأهداف التعليمية الدقيقة، فقد أصبح بالإمكان اليوم إنشاء اختبارات متكاملة خلال ثوانٍ. ولي تجربة شخصية في هذا الصدد، حيث قمت بتزويد أحد أدوات الذكاء الاصطناعي بمنهج لإحدى الوحدات الدراسية للصف الخامس مادة اللغة العربية وكانت تحتوي على أهداف الوحدة وأهداف الدروس وكامل المحتوى، وطلبت من الأداة أن تنبني اختبار شامل لقياس أداء الطلبة في هذه الوحدة، وتراعي المعارف والمهارات وتحاول أيضا قياس الأهداف الوجدانية، فكانت النتيجة رائعة، فقد قرأ ملف الوحدة وقام بتحليلها بدقة وصَمَّم الاختبار وفق مصفوفة المدى والتتابع ليقيس الثلاث جوانب: (المعرفي، المهاري، والوجداني) كما طلبت منه.
هذه التجربة ليست عشوائية ولا سطحية؛ بل مبنية على تحليل عميق لمعايير التعلم، ومستويات الأداء، وقائمة المهارات المطلوبة، ثم يقوم الذكاء الاصطناعي بقراءة المنهج كما يقرأه الخبير التربوي، ويفكّك الأهداف إلى كفاءات قابلة للقياس، ثم يُولّد أسئلة متنوعة تراعي مستويات بلوم، وتضمن شمول المحتوى، وتحقق العدل بين الطلبة. بل يمكنه أيضًا تخصيص الاختبار لكل طالب حسب مستوى فهمه، بحيث يحصل المتقدم القوي تحصيلياً على أسئلة أعمق، والمتعلم الذي لديه صعوبة على أسئلة تساعده على البناء تدريجيًا، ولذا فهي نقلة نوعية تحول الاختبار أداة تعليمية أعمق من فكرة أنه وسيلة قياس، وتحوّل تصميم الامتحانات من مهمة مرهقة إلى عملية ذكية دقيقة تُعيد للمعلم وقته، وللتعلم قيمته.
ويأتي التقييم التكويني الفوري، أحد أهم الهدايا التي قدمها الذكاء الاصطناعي للتعليم، تخيّل أن يعرف الطالب مستوى فهمه فور انتهائه من نشاط أو سؤال، وأن يحصل في اللحظة نفسها على تغذية راجعة دقيقة تخبره بما أتقنه وما يجب أن يراجعه، دون انتظار أسبوع أو شهر، وتخيل أن المعلم يستطيع أن يرى خريطة حيّة لفهم كل طالب في الصف، ليُعدل الشرح فورًا ويردم فجوات الفهم قبل أن تتسع، وهذا التقييم اللحظي هو ما يجعل التعلم عملية نابضة، تنبض بالحركة والتفاعل، بدلًا من أن تكون محطة صامتة على ورقة فاقدة للروح.
ثم يبدأ التصحيح الآلي الذكي، الذي لم يعد مجرد عملية رصد إجابات صحيحة أو خاطئة؛ بل أصبح نظامًا ذكيًا قادرًا على فهم الإجابة، وتحليل أسلوب الطالب في التفكير، وتحديد أين تكمُن المشكلة بالضبط، وهذه الأنظمة تقرأ الإجابة كما يقرؤها المعلم الخبير، وتتعامل مع الأخطاء ليس كعلامات حمراء؛ بل كمداخل يمكن أن ينطلق منها المتعلم نحو فهم أعمق، والنتيجة تكون وقت أكبر للمعلم ليقود عملية التعلم بدلاً من أن يُدفن بين أكوام الأوراق.
ولعل أعظم ما يقدمه الذكاء الاصطناعي هو كشف أنماط الضعف والقوة في تعلم الطلبة بدقة أعمق مما يتخيله المعلم، فبدلًا من الاعتماد على انطباعات عامة. وتستطيع الأنظمة الذكية تحليل آلاف النقاط من بيانات أداء الطالب مع سرعة الإجابة، ونوع الأخطاء، الأسئلة التي يتردد فيها، وحتى مهارات التفكير المستخدمة أثناء الحل، وبهذا لا يعود التقييم مجرد أرقام؛ بل يصبح كأنه "صورة أشعة تعليمية" تكشف ما يجري في عقل المتعلم، وتساعده على أن يعرف نفسه أكثر مما يعرفه الآخرون.
إنَّ التحول من الامتحانات الورقية التقليدية إلى امتحانات الذكاء الاصطناعي ليس قفزة تقنية مفاجئة؛ بل رحلة تحول تربوي عميق يُعاد فيه تعريف معنى التقييم ذاته. فالمسألة ليست استبدال الورقة بشاشة؛ بل إعادة صياغة فلسفة القياس من اختبارٍ ثابت يلتقط لحظة واحدة من أداء الطالب، إلى تقييم ديناميكي يتفاعل مع المتعلم ويفهمه ويدعم رحلته. حيث يبدأ التحول بخطوات هادئة من رقمنة الأسئلة، ثم تحليل النتائج آليًا، مرورًا بتوفير بنوك أسئلة ذكية، وصولًا إلى الاختبارات التكيفية التي تغيّر مستوى السؤال وفق قدرة الطالب، وتدريجيًا، تصبح المدرسة أقل اعتمادًا على الامتحان الورقي الذي يُقيّم الجميع بالمسطرة نفسها. وأكثر توجهًا نحو نظام ذكي يرى كل طالب كحالة فريدة، ويقيس مهاراته الحقيقية لا مجرد إجاباته المختصرة، وفي هذا التحول ينكشف جوهر التطوير، حيث يقدم امتحانات لا تُرهِق الطالب ولا تستهلك وقت المعلم؛ بل تبني فهمًا أعمق، وتُعطي بيانات أدق، وتفتح الباب أمام عدالة أكبر، إنه انتقال من ورقة تُصحَّح إلى تعلم يُفهم ومن نظام يُسجِّل العلامة إلى نظام يصنع التقدّم.
ومع كل هذه الفرص، يبقى التحدي الأكبر هو العدالة والإنصاف، فالذكاء الاصطناعي مهما بلغ تطوره يبقى انعكاسًا لبيانات بُني عليها، فإذا كانت البيانات منحازة، فالنتائج ستكون منحازة. وهنا تتقدم المسؤولية المهنية للمؤسسات التعليمية في ضمان تطوير أنظمة عادلة، شفافة، تخضع للرقابة البشرية، وتحترم تنوع الطلبة وفروقهم الفردية، فالهدف ليس تقييمًا يفرز الطلبة؛ بل نظامًا يفتح الأبواب للجميع ويضمن تكافؤ الفرص.
لا بُد لنا أن ندرك أن إعادة تصور التقييم بالذكاء الاصطناعي ليست مجرد نقلة تقنية؛ بل ثورة تربوية تعيد للطالب دوره الفاعل، وللمعلم مكانته القائدة، والتعلم روحه التي افتقدها لسنوات.
هذه دعوة لأن ننتقل من "امتحان يُخيف" إلى "تقييم يُفهم"، ومن "علامة تُحفظ" إلى "تعلم يُبنى"، فالمستقبل ليس للذي يحفظ أكثر؛ بل للذي يُقيَّم بطريقة أذكى.
رابط مختصر