كتاب تاريخي يسلط الضوء على الفرق بين اليهودية والصهيونية ومعاداة السامية
تاريخ النشر: 23rd, April 2024 GMT
هل اليهود عرق؟ وما أصوال كراهية اليهود؟ سؤالان أجاب عنهما البروفيسور "الإسرائيلي" شلومو زَند، في كتابه "عرق مُتَوَهَمُ: تاريخ مُوجَز لكراهية اليَهود"، نقله إلى العربية: يحيى عبد الله وأميرة عمَامرة، (ط1، مدارات للأبحاث والنشر، مصر/ 2024).
يوضح المترجم في مقدمته أهمية الكتاب البالغ عدد صفحاته 132 صفحة من القطع المتوسط، من "تفنيده، بالحُجة والدليل العلمي، أساطير مؤسسة للصهيونية وأكاذيب مروُجة لها، منها: أكذوبة "نفي" اليهود من فلسطين على يد الرومان في القرن الأول للميلاد، وأكذوبة "نقاء العرق اليهودي"؛ مشيرًا إلى أن أكثر يهود أوروبا لا يمتُّون لـ"الساميين" بصلة.
وأخيرًا يكتسب الكتاب أهميتة من إشارته إلى انحسار الكراهية ضد اليهود في أوروبا ـ بعد التخلص منهم بطبيعة الحال ـ وإلى حلول كراهية الإسلام والمسلمين محلَّها، رغم أنه لم يُدِنها ولم يُشر إلى دور الصهيونية العالمية في إذكاء أوارها".
دلف المؤلف بعدها، إلى عدة عناوين، خصص الأول منها لـ"كبح التهوُد"، فينقل عن ريمون أرون، مقولة معروفة في أوساط علماء الأنثروبولوجيا، وهي، أن "السواد الأعظم ممن يُطلق عليهم اليهود؛ لا ينحدرون، بيولوجيًّا، من نسل أسباط سامية".
ويشير إلى تفسير أوريجينس، أحد المفسرين الأصلاء للتوراة ـ في بداية القرن الثالث للميلاد، للاسم يهودي بالقول: "ليس اسم عرق وإنما اسم اختيار (أسلوب حياة)؛ فإذا قبل إنسان ما، أجنبي ليس من أمة اليهود، منهاج اليهود وتهود، فإن هذا الإنسان يسمى يهوديًا بشكل واضح". ويؤكد ذلك بجزم تيودور مومسين، المؤرخ الأبرز لروما القديمة، في حينه بأن "اليهودية في العصور القديمة لم تكن منغلقة على نفسها على الإطلاق؛ وإنما العكس هو الصحيح، لقد كانت مُشبعة بتعصب في مسألة التهويد ليس بأقل من النصرانية والإسلام من بعدها".
العنوان الثاني ""شعب عِرق" مُشتت أم جماعات دينية؟"، يعود بنا المؤلف إلى مصطلح الـ"عرق" في العهد الجديد. فقد وُلدت "أسطورة "نفي" اليهود إذا، بوصفها أسطورة أصل وهوية، في أحضان النصرانية المتبلورة". يؤكد زند حقيقة، أنه ليس بين أيدينا حتى اليوم ـ أي بداية القرن الحادي والعشرين ـ أي دليل، أو إثبات على استئصال الرومان لسكان يهودا استئصالًا مؤثرًا، أو على هجرتهم طوعًا أو قسرًا من أرضهم، كما لا يوجد كتاب بحثي واحد في هذا الموضوع!". وهذا ما ذهب إليه، في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، من خلال نفي ما يسمى بالشتات اليهودي الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، بقوله: "فإننا لن نجد في التوثيق الروماني الغني ولو إشارة واحدة إلى حدوث أيه عملية نفي من أرض يهودا".
ويدحض زند الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشريياً بل بقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته، ويشير إلى تهود حَديب، في الربع الأخير من القرن الرابع للميلاد، وتهود حمير، التي دُحرت عام 525 للميلاد على يد مملكة أكسوم، وتهود بعض القبائل الكبرى في شمال أفريقيا، ما أدى إلى إقامة مملكة متهودة في جبال الأطلس بلغت ذروتها في القرن السابع للميلاد. ووصل التهود إلى شمال الحبشة الحالية أيضًا، وتهود مملكة الخزر في منتصف القرن الثامن للميلاد.
ليس من قبيل المصادفة أن يجزم مع بن تسيون دينور، أبو فلسفة التاريخ "الإسرائيلي" الذي شغل منصب وزير التعليم في "إسرائيل" بـأن "مملكة الخزر كانت "أم الجاليات"، أم إحدى الجاليات الكبرى، جالية بني إسرائيل في روسيا، وليتوانيا وبولندا".
وهذا ما ذهب إليه، في العام 1976؛ آرثر كوستلر، في كتابه "القبيلة الثالثة عشرة"، والذي أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين.
فالعنوان الثالث، "بداية العلاقات اليهودية ـ النصرانية في أوروبا"، يتطرق المؤلف إلى صورة اليهودي التي بدأت تتخلق في المخيلة الأوروبية ـ النصرانية، هذه الصورة الذي "يُصب الثراء من الإقراض بالربا"، فقد نشرت الكنيسة رسالتها، "اليهودية صنو الربا، والربا أمر مستنكر". ويشير المؤلف إلى عمليات طرد اليهود من المناطق الأوروبية في مناسبات مختلفة.
سرد المؤلف في العنوان الرابع، "غُرباء في الإنسانية: من إيراسموس إلى فولتير"، وأشار إلى أن كراهية إيراسموس ولوثر وفولتير لليهود "تعلمنا أن عقيدة معاداة اليهود لم تكن قط إرثًا للجموع. تشارك العقيدة المهيمنة مثقفون لامعون أيضًا". كانت تقول: إن "اليهود ليسوا غرباء فقط؛ وإنما متهمون بشيء ما".
العنوان الرابع، "ثورة، انعتاق، وقومية"، ينقل زند، وصف كانط، الذي يعد في نظر عديدين أكبر مفكري العصر الحديث، لليهود، "بأنهم غرباء غير أوفياء إلى أوروبا من قارة أخرى". ومن أجل الحفاظ على العداء تجاه اليهود، "أسهمت حقيقة أن أوروبا أيضًا، التي باتت قومية أكثر فأكثر، أصبحت في الوقت نفسه أكثر رأسمالية أيضًا. وحيث أن بعض الأسر اليهودية، قلة قليلة من يهود أوروبا، برزت في هذا التنافس الكبير في تركيز رؤوس الأموال المصرفية الضخمة سواء في بريطانيا، أم في فرنسا أم في ألمانيا، فإن هذا البروز قد اقترن جيدًا بتراث العداء النصراني للإقراض بالربا منذ عصر ما قبل الحداثة".
يتطرق العنوان الخامس "اليهود بين الرأسمالية والاشتراكية"، إلى أعمال المفكر الفرنسي الكبير شارل فورييه، وملاحظاته اللاذعة المعادية لليهود، "اقترح مرارًا وتكرارًا إعلاق أبواب فرنسا في وجوههم إلى الأبد"، ووجد حلًا للمشكلة اليهودية، بـ"إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة". لم تتعارض "صهيونية" فورييه مع كراهيته لليهود، وإنما أكملتها بقدر ما.
رصد العنوان السادس "تصنيف عرقي، دَمَقراطة وهجرة"، عدة مؤلفات حول الأعراق البشرية صدرت منذ القرن التاسع عشر، حتى غدت العنصرية "أمرًا بديهيًّا، وعقيدة "علمية" وشعبية على حد سواء، وبقيت كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية على أبعد تقدير".
يتساءل الكاتب في العنوان الثالث عشر "معاداة الصهيونية.. هل هي معاداة جديدة للسامية؟"، يري زند أنه في الخمسين سنة الماضية، "ازداد النقد والعداء تجاه دولة "إسرائيل" وممثليها". وبحسب زند، "سيكون من السخف أن نطالبهم [الفلسطينيين] بألا يكونوا معادين للصهيونية، وهم يعيشون تحت احتلال واستيطان متواصل يُنفذ باسم الرؤية الصهيونية، ويُرَى في الأماكن التي يقيمون بها "وطنًا لـ"الشعب اليهودي".فقد شرعت المعاداة السياسية لليهود في التعمق على أعتاب نهاية القرن التاسع عشر، "كان أحد العوامل المحفزة لتحويل كراهية اليهود إلى صرعة في دوائر اليسار واليمين هو عملية التحول إلى الديمقراطية التي مر بها العالم الغرب ـ أوروبي". فـ "ظهر التحريض ضد اليهود في البرامج الحزبية". انتشرت الدعاية المعادية للأجانب واليهود سواء في دوائر اليمين التقليدي أو في دوائر الوسط الليبرالي واليسار الراديكالي، ودعت إلى طردهم من أوروبا.
وفي العنوان السابع "قضية درايفوس وولادة الصهيونية"، يقول زند: "انتهت قضية درايفوس الأولى بميلاد حركة قومية جديدة [يقصد الصهيونية]". ويبين ردود فعل بعض اليهود على ظهور الصهيونية، ويُعرج على وعد بلفور 1917، وتأسيس دولة "إسرائيل"، ويرى أن "الاستعمار البريطاني الذي وضع الحركة الصهيونية على خارطة الدبلوماسية الدولية، فإن عملية الإبادة النازية هي ما مكن الحركة الصهيونية من تحقيق حلمها بصورة جزئية".
ألقى المؤلف في العنوان الثامن حزمة من الأضواء على "إبادة "شعب العِرق" اليهودي"، الحقيقة، بحسب المؤلف، أن هتلر لم يرد قتل اليهود في البداية، لكن عندما أدرك أنه "لا يملك أي وسائل لإزاحتهم من أوروبا قرر إبادتهم". ليس معنى هذا أن الألمان كرهوا اليهود بشكل أكبر من كراهية البولنديين أو الأوكرانيين لهم؛ "لكن لم تُخترع في أوساط البولنديين أو الأوكرانيين آلة إبادة فعالة كل هدفها هو محو أناس أحياء بشكل ممنهج معتمدة على إنجازات تكنولوجيا القرن العشرين".
خصص العنوان التاسع لـ "انبعاث "شعب العرق" اليهودي؟"، فقد حاول معظم مفكري وقادة الصهيونية، في بداية مسيرتهم الفكرية أن ينتموا إلى الدول الأوروبية؛ فقد انحازوا تمامًا إلى الأفكار القومية التي تبلورت في مختلف الدول، وسعوا للانضمام إلى الأمم الناشئة. لكن كراهية اليهود جعلتهم يبحثون، في مرحلة حاسمة من تطورهم الفكري، عن هوية أخرى مغايرة. يركز زند على الكتابات الرئيسية للصهيونية ومؤلفيها، "إذ كان تيودور هرتسل قد دفع بالفكرة الصهيونية في 1897، فإنه لم يكن المخترع الحصري لها؛ فقد سبقه بضع شخصيات يهودية اقترحوا سيادة ذاتية قومية كرد محتمل على الكراهية المتعاظمة تجاه اليهود".
بينما يرصد العنوان العاشر "من هو اليهودي؟ من بصمات الأصابع حتى الحمض النووي"، التغير في رؤية ماهيوية اليهود، وكيف أصبحت التوراة هي المعيار الوحيد للهوية اليهودية؟! فكل يهودي يأتي إلى إسرائيل، يتجنس بصورة تلقائية. ويري زند أن "تصنيف اليهود عرقيًا عن طريق اختلاق أصل جيني يهودي متوهَّم"، هو، احتيال علمي زائف. ويواجه "معضلة "علمية" محرجة، وهي أنه: لا يمكن حتى الآن تحديد من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي بناءً على نتائج الحمض النووي".
ناقش العنوان الحادي عشر "حرب 1967: "حق الآباء""، مسألة تجند جميع آليات المعرفة "الإسرائيلية" التأريخية، والأثرية، والبيولوجية، لـ "إثبات أن أصل يهود العالم مشترك، وأنهم يشكلون أمة واحدة، نُفيت قبل ألفي عام وأن حقها في "أرض إسرائيل" لا جدال فيه". ومنذ العام 1967 غدا أي انحراف عنها كفرًا بواحًا في أحسن الأحوال، وموقفًا "معاديًا للسامية" في أسوئها.
استعرض المؤلف في العنوان الثاني عشر "هل انحسرت الكراهية التقليدية لليهود؟"، ولادة كراهية اليهود في حوض البحر المتوسط ثم نشأتها في قارة أوروبا حتى العصر الحديث. وفي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. والانحسار الكبير في كراهية اليهود أيضًا.
يتساءل الكاتب في العنوان الثالث عشر "معاداة الصهيونية.. هل هي معاداة جديدة للسامية؟"، يري زند أنه في الخمسين سنة الماضية، "ازداد النقد والعداء تجاه دولة "إسرائيل" وممثليها". وبحسب زند، "سيكون من السخف أن نطالبهم [الفلسطينيين] بألا يكونوا معادين للصهيونية، وهم يعيشون تحت احتلال واستيطان متواصل يُنفذ باسم الرؤية الصهيونية، ويُرَى في الأماكن التي يقيمون بها "وطنًا لـ"الشعب اليهودي".
يشير المؤلف إلى أنه من الصعب إنكار حقيقة أن كارهي الإسلام من الأوروبيين يَرَونَ "في "دولة إسرائيل" حصنًا متقدمًا للعالم "اليهودي المسيحي" الذي يقف بكل قوة في مواجهة المد الاسلامي".
وفي الختام يعبر زند، عن مخاوفه من انتشار "كراهية متجددة لليهود، ليس فقط في أوساط اليمين الراديكالي، ولكن في أوساط الضحايا الجدد للكراهية أيضًا".
*مؤرخ فلسطيني
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتابه فلسطين احتلال احتلال فلسطين كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کراهیة الیهود المؤلف إلى فی العنوان الیهود فی فی أوساط یهودی ا
إقرأ أيضاً:
رواية الهرّاب.. أزمة الهوية والتعايش والوجود اليهودي في الجزائر
تأخذنا رواية "الهرّاب" المنافسة في "جائزة كتارا" للروائي والكاتب الجزائري رفيق موهوب، والتي صدرت عن دار نشر "فهرنهايت 451 للنشر والتوزيع" في أكتوبر/تشرين الأول 2024، في رحلة عميقة عبر صفحة من صفحات التاريخ الجزائري المهمة والمتمثلة بـ"العشرية السوداء". جسدت لنا الرواية هذه الفترة من خلال تسليط الضوء على التناقضات والتساؤلات التي واكبت حقبة التسعينيات، والتي وصفت بأنها أقسى مرحلة عاشها "الجزائريون في مرحلة ما بعد الاستقلال". وتسلط الرواية الضوء على حقبة مظلمة فاقت "ظلمتها حرب التحرير التي كانت واضحة المعالم يقينية الهدف".
من أبرز الأفكار التي سلطت رواية "الهرّاب" الضوء عليها هي أزمة الهوية والانتماء المتعددة والمتناقضة؛ حيث ركزت الرواية على حكاية بطلها داود اليهودي الذي جسد صراعًا داخليا عميقا بين أصوله اليهودية وبيئته الجزائرية المسلمة التي نشأ فيها.
تسلط الرواية الضوء بجرأة على موضوع وجود العنصر اليهودي داخل المجتمع الجزائري كمكون له حضوره التاريخي والثقافي، وهو ما يُعتبر من "التابوهات الاجتماعية"، وتستكشف الرواية تساؤلات عميقة حول الذاكرة الجماعية والفردية، محاولة تصوير هواجس شخصيات جزائرية عبر حقبة مظلمة مترعة بالشك.
وتتناول الرواية بعمق موضوع التعايش والتناقض في العلاقات بين اليهود والمسلمين في الجزائر، لتكشف لنا عن صفحات من التاريخ الجزائري التي تبرز التعاون والمساعدة المتبادلة، مثل مساعدة اليهود للمجاهدين الجزائريين أثناء حرب التحرير، وجمعهم الأموال لهم. ومع ذلك، لم تتجاهل الرواية الجوانب المظلمة من هذه العلاقة، مستعرضة أحداثًا مثل مذبحة قسنطينة عام 1934 و1956 التي قُتل فيها مئات من المدنيين، ومعظمهم من المسلمين، بدعم من الشرطة الفرنسية.
تُبرز الرواية فكرة الخيانة والتضحية من خلال شخصية الرواية المحورية داود، البطل اليهودي الذي مثَّل نموذجًا للخيانة باختياره العمل جاسوسا مزدوجا للموساد و"دي إس تي" الفرنسية ضد مصلحة وطنه الذي وُلد وعاش فيه، وفاءً لخرافة "أرض الميعاد". في المقابل، تُقدم الرواية شخصية "سي عبد العزيز" (محمد بودية) في صورة "النقيض" لداود، حيث مثلَ الوفاء والتضحية والالتزام بقضية الوطن والقضايا العادلة.
إعلانتجمع رواية "الهرّاب" في أسلوبها بين الرواية البوليسية والتاريخية والواقعية برشاقة، فقد وظّف الكاتب رفيق موهوب حقائق تاريخية لنسج قصة جاسوسية تبرز الحياة البسيطة للأسر الجزائرية في مرحلة كان عنوانها الأكبر هو الخوف والموت.
تمتعت الرواية بسرد يمتاز بلغة واقعية غنية، إذ استلهم الكاتب من "الزخم اللساني المتنوع للجزائريين"، ليزخر النص بجمل من الدارجة الجزائرية. هذا الأسلوب يأخذ القارئ في رحلة عبر أزقة العاصمة ومنازلها، مستعرضًا لحظات من الألم والأمل، والخيبة والانتصار، في مزيج سردي مركب أثرى النص بشكل كبير، ومنح القصة حيوية وتأثيرًا عميقًا، عاكسًا بذلك تعقيدات الواقع الذي تناولته الرواية.
نُسجت هذه الرواية على يد رفيق موهوب، مدير نشر جريدة "الصوت الآخر". وقد سبقتها روايته الأولى "منام ميت" الصادرة عن دار ماستر بالقاهرة، والتي تناولت فترة حكم علي الغسال باشا، حاكم إيالة الجزائر الذي لم يدم حكمه سوى 6 أشهر وطبعه الفوضى والعصيان. أما مشروع رفيق موهوب القادم فسيكون عن علي خوجة. وحتى لا نطيل عليكم، ندعوكم لمتابعة نص حوار الجزيرة نت مع الروائي الجزائري رفيق موهوب.
في الحقيقة، الرواية فعلًا رحلة في ذاكرة الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية وفترة التسعينيات. وهي تخوض في مسألة التناقضات المسجلة في هاتين المرحلتين، أي مخلفات العدوان الاستعماري، وحقبة التسعينيات التي كانت حقبة دموية وقاسية جدا على الجزائريين، والتي ذاق فيها الجزائريون مرارة الإرهاب الذي لا يزال يضرب في مناطق عديدة من الوطن العربي.
أشير إلى أن الكتابة عن حقبة الاستعمار وفترة التسعينيات "العشرية السوداء" تعتبر بشكل ما أحد" التابوهات"؛ فكثير من الروائيين لم يخوضوا في تلك المرحلة نظرًا لحساسيتها والجرح الذي لم يندمل بعد لدى الجزائريين. فالوعي الجمعي الجزائري لا يزال يحتفظ بصور مأساوية عن تلك المرحلة، ولا يزال موضوع الذاكرة مطروحًا في الجزائر والضفة الفرنسية.
كما أن هناك العديد من المكونات في الشخصية أو الهوية الجزائرية لا تزال تتفاعل إلى اليوم، وملف الذاكرة يثير جدلاً كبيرًا بين الجزائر وفرنسا؛ فرنسا تريد اقتلاع مسارات كثيرة من التاريخ الجزائري، والجزائر تريد ألا تطوي الصفحة، بل تتقدم إلى الأمام من خلال الاعتراف الفرنسي بجرائمها خلال الحقبة الاستعمارية، والسير في مصالحة وطنية من خلال معالجة ملف التسعينيات الذي خرجنا منه سالمين بفضل المصالحة.
رواية "الهرّاب" فيها عنصر مهم، فقد تثيرُ تساؤلات القراء، خاصة عن مسألة الوجود اليهودي خلال الحقبة الاستعمارية وما بعدها. هذا الموضوع أثاره العديد من الأدباء. برأيي، صورة اليهودي في الأدب الجزائري غالبًا ما كانت نمطية وسلبية، تصوره على أنه ماكر.
إعلانلكن، هناك تطورٌ في تناول اليهودي في الأدب الجزائري، من كونه عنصرًا منبوذًا إلى تقديمه بصور مختلفة. وهذا ما فعلتهُ في رواية "الهرّاب"، حيث قدمت نماذج ليهود ساعدوا الثورة الجزائرية وقدموا خدمات جليلة لها، من خلال ما يُعرف "بأصحاب الحقائب" الذين كانوا ينقلون الأموال من الجزائر إلى فرنسا ويسهّلون مهام المجاهدين، وأظهرت كذلك الجانب المظلم للوجود اليهودي لأصنع صورة تتسم بالتوازن.
بالنسبة لرواية "الهرّاب"، يجب التوضيح أنها تظل عملًا أدبيا وفنيا يعتمد بالضرورة على الخيال، ولكنه يعتمد على التاريخ وفقًا لما تتناوله المدرسة الجزائرية في كتابة التاريخ. ففي العادة، المدرسة التاريخية الفرنسية تقدم الشخصية الجزائرية على أنها متوحشة، تلجأ إلى العنف، وتصور الجزائري على أنه مدفوع بتيارات من الخارج.
لكنني في رواية "الهرّاب" لجأت إلى توصيف التاريخ، خاصة في مسألة اليهود، على أساس أن الموقف الرسمي الجزائري يؤكد عدم وجود مشكلة مع اليهود كمكون أو كأقلية في الجزائر؛ فهم كانوا مندمجين في المجتمع الجزائري. والجزائر لا ترى مشكلة في وجود اليهود بالجزائر بل مشكلتها مع الاحتلال والصهيونية بالدرجة الأولى، وعليه فإن الرواية قدمت التاريخ وفق هذا الأفق.
على سبيل المثال، اعتمدنا على كثير من المؤشرات التي تؤكد أن اليهود اختاروا صفهم منذ البداية من خلال الانخراط والاستفادة من "قانون كريميو" (مرسوم فرنسي صدر سنة 1870منح الجنسية الفرنسية لليهود المقيمين في الجزائر).
كذلك اعتمدنا على سرد العديد من الوقائع التي تؤكد أنهم اختاروا صفهم وساروا في مسار مساندة الدولة الاستعمارية الفرنسية، حتى قبل استعمار الجزائر، من خلال مساهمة الأخوين بكري وبوشناق في تأجيج الأزمة الاقتصادية سنة 1827 وإسهامهم في استعمار الجزائر بفعل الديون بحثًا عن الكنز المفقود.
كما اعتمدنا على بعض المحطات التي كان لليهود دور سلبي فيها، من خلال ارتكابهم مجازر في العديد من المحطات، مثل انتفاضة 1934 ومجزرة 1956، حيث ألقى يهودي قنبلة في مقهى قسنطينة.
حاولت أيضًا إبراز خصوصية الجزائر لدى اليهود من خلال الحوارات والسرد الفني، وذكرت أن هناك قديسين مدفونين في الجزائر، ولهذا يرى العديد من اليهود امتلاكهم روابط قوية مع الجزائر.
ذكرت بعض هذه الروابط من خلال أبطال الرواية، وفيها العديد من المشاهد والقصص، مثل اكتشاف أحد الأقبية التي يوجد بها ما يقرب من 17 هيكلا عظميا، حيث كان جد إنريكو ماسياس (المعروف أيضًا باسمه الحقيقي جاستون غريناسيا، هو مغن فرنسي من أصل جزائري يهودي) يستقبل ضيوفا ويحيي حفلات ثم يقتلهم ويضعهم في تلك الأقبية. ومن جهة أخرى، أظهرت بعض الشخصيات الجزائرية التي أسهمت في دعم القضية الفلسطينية في الجزائر وفي العديد من العواصم العربية والعالمية.
كيف نجحتَ في روايتك في إحياء شخصيات يهودية متناقضة، تُظهر جوانبها المتعددة بين الدعم لثورة التحرير والخيانة، مع دمج ذلك بسرد واقعي ومؤثر للعشرية السوداء في الجزائر؟بدايةً، شخصية البطل تتسم بالتناقض العميق؛ فقد وُلد في الجزائر لأب يهودي، وفي سنواته الأولى تعلّم الإسلام والعربية واندفع كليا في محيطه، لكن مسار حياته اختلف جذريا عند انتقاله إلى فرنسا، حيث اكتشف هويته اليهودية وتلقى تكوينًا دينيًّا في المدارس، ثم عاد إلى الجزائر بعد ذلك، ولكن هذه المرة بصفته اليهودية.
إعلانتخيل معي هذه الشخصية المتناقضة التي أصبحت إمامًا لأحد مساجد العاصمة، يؤمّ المصلين المسلمين في صلواتهم. لكن الغريب والمفاجئ أنه في أيام السبت يطلب من زوجته المسلمة أن تذهب إلى بيت أهلها ليتمكن من استقبال عناصر من الموساد وممارسة طقوسه اليهودية الخاصة في المنزل، إنه يجمع بين الصلاة الإسلامية والطقوس اليهودية في آن واحد!
هذا التناقض العميق في شخصيته دفعنا إلى التساؤل: كيف تحول من هذا الدور المزدوج إلى شخصية يهودية تمارس شعائرها علانية في بيتها بالعاصمة خلال بداية التسعينيات، وهو أمر كان يعدّ خارقًا للعادة آنذاك؟
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمن خلال دراساته للمجتمع في تلك الفترة استغل وضعه لاجتذاب الشباب وتحريضهم على العنف؛ لقد أغراهم بالمال، ثم بث فيهم "الفتنة المستوردة"، دافعًا إياهم نحو متاهات الإرهاب والتحريض على العنف.
هل تريدون أن أعطيكم الوصفة التي أكتب بها؟ الواقع الذي استمدت منه الشخصيات خلفيتها هو الخلفية التاريخية التي أملكها؛ أنا خريج تاريخ ومطلع من خلال الإعلام على جميع التطورات الحاصلة في المجتمع، وقد حاولت توظيف الأدوات الأدبية من خلال الحوار والوصف، ومن خلال أدوات من خلفيتي الصحافية مثل تقنيات التحقيق، حيث استعملتُ هذه الأدوات ووظفتها من خلال إظهار البطل بأنه يبحث عن تاريخ وهمي أو آثار وهمية يتكئ عليها لإبراز ممتلكات مجهولة الوجهة؛ لذا زار العديد من المقابر اليهودية في الجزائر، ووجد بعض الأضرحة اليهودية.
الرواية أظهرت لنا شخصيات عديدة من بينها شخصية "سي عبد العزيز" فما الدور الذي تلعبه حيث وصفها الموساد "بالشبح" واتسمت بالوفاء للوطن وقضايا التحرر بعكس داود؟سي عبد العزيز رغم كونه شخصية خيالية، فقد لعب دورًا محوريا في الرواية وتداخلت سماته مع شخصيات جزائرية واقعية. صورته وهو يسعى نحو هدفين رئيسيين: تحرير الجزائر أولًا، ثم تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني ثانية. لقد كان يحمل على عاتقه نضال القضية الجزائرية والفلسطينية على حد سواء. وضمن سياق تاريخي، عمل عبد العزيز على ترسيخ مبدأ تحرير الجزائر، لكنه لقي حتفه بالاغتيال على يد الكيان الصهيوني.
لقد سعيت لربط شخصية سيدي عبد العزيز بشخصية داود؛ فمن جهة، يجسد عبد العزيز النضال الجزائري من أجل قضية مركزية، وهي تحرير الوطن وفلسطين. ومن جهة أخرى، يأتي داود بمحاولاته لاستعادة أمجاد خرافية، والعمل على إثارة الفتنة في الجزائر.
كيف صورتَ عائلة داود في روايتك، لا سيما والدته التي ربته بين المسلمين وجده التاجر، وكيف تفاعلت هذه الشخصيات مع داود ومع الأحداث التاريخية؟أردتُ أن أُبرز مدى اندماج الأقلية اليهودية في المجتمع الجزائري، وهذا تجلى بوضوح في شخصية الأم التي سعت لإخفاء ديانتها لتتجنب المشاكل مع الجيران، وكذلك في الجد الذي كان تاجرًا مندمجًا بشدة، بل كان يدعم المجاهدين سرًّا، تمامًا كغيره من التجار الجزائريين. لقد حاولتُ تسليط الضوء على هذه العائلة المتناقضة، فمع كونهم جميعًا يهودًا، فإن كل فرد منهم قدم نوعًا من الخدمة أو أظهر صورة من الاندماج داخل المجتمع.
لكن هذه الصورة تغيرت في النهاية، فمع استقلال الجزائر اختاروا الانتقال طواعية إلى فرنسا، وهو خيارهم منذ البداية. ونقطة أخرى لم أذكرها في السرد الروائي ولكنها خطرت ببالي الآن والمتمثلة في إمام مسجد باريس، الذي يُعرف تاريخيا بإسهامه في حماية اليهود من النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. هذا يوضح أن الجزائري ليست لديه مشكلة مع الجنس اليهودي بحد ذاته، بل مع الاحتلال.
هل معاناة "خداوج" من مشاكل العنوسة واليأس ومشاكل أسرتها خلال العشرية السوداء كانت الدافع وراء زواجها بداود؟بالفعل، في فترة التسعينيات كانت مشكلة العنوسة منتشرة بشكل كبير ولا تزال، لذا أردتُ أن أُبرزها في الرواية؛ حيث قد تتزوج الفتاة بشخص ثري أو أجنبي من دون النظر إلى خلفيته أو دينه أو أفكاره.
إعلانشخصية خداوج تجسّد التناقضات التي سادت تلك المرحلة، من الفقر والأزمات الاجتماعية وضيق السكن إلى تأثير الحركات الإسلامية. زواجها كان أشبه باللجوء للخروج من هذه الظروف، لا زواجًا لتأسيس عائلة بالمعنى التقليدي.
لكن الأحداث تأخذ منعطفًا حاسمًا عندما ترفض خداوج أن يكون لها أبناء من أصل يهودي، رؤيتها لزوجها داود وهو يمارس طقوسه اليهودية في بيتها أدخلتها في أزمة هستيرية نفسية عميقة، لتبدأ بالتفكر في مصير أبنائها واكتشفت حقيقة لم تكن تتقبلها، مما أدخلها في متاهة نفسية صعبة نتيجة هذا الرفض.
خداوج لم تستوعب أبعاد شخصية داود الفكرية، وكحال كثير من الجزائريين كانت لديها صورة نمطية عن اليهود، متأثرةً بالارتباط العميق والدعم المستمر للقضية الفلسطينية، الذي يعتبر شعورًا راسخًا في الجزائر، سواء كانت فلسطين ظالمة أو مظلومة، وهذا التخوف تحديدًا هو ما دفعها إلى أزمة نفسية عميقة.
لكن بمرور الوقت، عملت جاهدة على إنقاذ أبنائها من خلال رعايتهم وغرس روح الدين والهوية الجزائرية في نفوسهم.
من خلال شخصية "زوليخة" الساحرة وشقيقها "بويلان" العاطل الذي يرغب في الهجرة، هل سعيتم لإبراز زيف الخرافات وتقديم أفكار أعمق عن المجتمع؟لقد أردتُ من خلال هذه الشخصيات أن أقدم أفكارًا مهمة عن الإرهاب والجماعات المتطرفة التي سادت تلك الحقبة. دعنا نتذكر أننا كنا في بداية التسعينيات، في منطقة القصبة والوادي، وهما مركزان معروفان لأحياء شعبية.
عبر الشخصيات التي ذكرتَ وغيرها حاولتُ إبراز تناقضات المجتمع الجزائري الذي يعرفُ وجود الجانب الشعبي، والتدين، والتعصب، والأفكار العميقة. لم يكن هدفي إصدار أحكام من خلال هذه الشخصيات، بل تقديم صور مختلفة لكيفية تشكل هذا المجتمع خلال تلك الفترة العصيبة.
ختامًا، كيف تعكس روايتك "الهراب" كوثيقة روائية فكرة "اليهودي الوظيفي" التي طرحها عبد الوهاب المسيري من خلال إظهارك الرؤية الجزائرية للتاريخ؟لقد وظّفتُ التاريخ في روايتي بشكل يتماشى مع الرؤية الجزائرية للأحداث. وفي الختام، أبرزتُ دور المؤسسات الأمنية في استتباب الأمن وكشف ذلك العنصر الجاسوس الذي هرب من الجزائر.
هذا الجاسوس (داود) تسبب في دمار كبير، من خلال دعمه للشباب وتفتيت عائلة كانت تملك طموحا وأحلامًا، فالشر الذي حمله في ذاته جلب الخراب لتلك العائلة. ولهذا السبب، سميت الرواية "الهرّاب"، وهو مصطلح من الدارجة الجزائرية يعني "الهارب" بعد أن أحدث الفوضى والدمار في البلاد.