تأخذنا رواية "الهرّاب" المنافسة في "جائزة كتارا" للروائي والكاتب الجزائري رفيق موهوب، والتي صدرت عن دار نشر "فهرنهايت 451 للنشر والتوزيع" في أكتوبر/تشرين الأول 2024، في رحلة عميقة عبر صفحة من صفحات التاريخ الجزائري المهمة والمتمثلة بـ"العشرية السوداء". جسدت لنا الرواية هذه الفترة من خلال تسليط الضوء على التناقضات والتساؤلات التي واكبت حقبة التسعينيات، والتي وصفت بأنها أقسى مرحلة عاشها "الجزائريون في مرحلة ما بعد الاستقلال".

وتسلط الرواية الضوء على حقبة مظلمة فاقت "ظلمتها حرب التحرير التي كانت واضحة المعالم يقينية الهدف".

من أبرز الأفكار التي سلطت رواية "الهرّاب" الضوء عليها هي أزمة الهوية والانتماء المتعددة والمتناقضة؛ حيث ركزت الرواية على حكاية بطلها داود اليهودي الذي جسد صراعًا داخليا عميقا بين أصوله اليهودية وبيئته الجزائرية المسلمة التي نشأ فيها.

تسلط الرواية الضوء بجرأة على موضوع وجود العنصر اليهودي داخل المجتمع الجزائري كمكون له حضوره التاريخي والثقافي، وهو ما يُعتبر من "التابوهات الاجتماعية"، وتستكشف الرواية تساؤلات عميقة حول الذاكرة الجماعية والفردية، محاولة تصوير هواجس شخصيات جزائرية عبر حقبة مظلمة مترعة بالشك.

وتتناول الرواية بعمق موضوع التعايش والتناقض في العلاقات بين اليهود والمسلمين في الجزائر، لتكشف لنا عن صفحات من التاريخ الجزائري التي تبرز التعاون والمساعدة المتبادلة، مثل مساعدة اليهود للمجاهدين الجزائريين أثناء حرب التحرير، وجمعهم الأموال لهم. ومع ذلك، لم تتجاهل الرواية الجوانب المظلمة من هذه العلاقة، مستعرضة أحداثًا مثل مذبحة قسنطينة عام 1934 و1956 التي قُتل فيها مئات من المدنيين، ومعظمهم من المسلمين، بدعم من الشرطة الفرنسية.

الكاتب رفيق موهوب وظّف في روايته حقائق تاريخية لنسج قصة جاسوسية تبرز الحياة البسيطة للأسر الجزائرية في مرحلة كان عنوانها الأكبر هو الخوف والموت (مواقع التواصل)

تُبرز الرواية فكرة الخيانة والتضحية من خلال شخصية الرواية المحورية داود، البطل اليهودي الذي مثَّل نموذجًا للخيانة باختياره العمل جاسوسا مزدوجا للموساد و"دي إس تي" الفرنسية ضد مصلحة وطنه الذي وُلد وعاش فيه، وفاءً لخرافة "أرض الميعاد". في المقابل، تُقدم الرواية شخصية "سي عبد العزيز" (محمد بودية) في صورة "النقيض" لداود، حيث مثلَ الوفاء والتضحية والالتزام بقضية الوطن والقضايا العادلة.

إعلان

تجمع رواية "الهرّاب" في أسلوبها بين الرواية البوليسية والتاريخية والواقعية برشاقة، فقد وظّف الكاتب رفيق موهوب حقائق تاريخية لنسج قصة جاسوسية تبرز الحياة البسيطة للأسر الجزائرية في مرحلة كان عنوانها الأكبر هو الخوف والموت.

تمتعت الرواية بسرد يمتاز بلغة واقعية غنية، إذ استلهم الكاتب من "الزخم اللساني المتنوع للجزائريين"، ليزخر النص بجمل من الدارجة الجزائرية. هذا الأسلوب يأخذ القارئ في رحلة عبر أزقة العاصمة ومنازلها، مستعرضًا لحظات من الألم والأمل، والخيبة والانتصار، في مزيج سردي مركب أثرى النص بشكل كبير، ومنح القصة حيوية وتأثيرًا عميقًا، عاكسًا بذلك تعقيدات الواقع الذي تناولته الرواية.

نُسجت هذه الرواية على يد رفيق موهوب، مدير نشر جريدة "الصوت الآخر". وقد سبقتها روايته الأولى "منام ميت" الصادرة عن دار ماستر بالقاهرة، والتي تناولت فترة حكم علي الغسال باشا، حاكم إيالة الجزائر الذي لم يدم حكمه سوى 6 أشهر وطبعه الفوضى والعصيان. أما مشروع رفيق موهوب القادم فسيكون عن علي خوجة. وحتى لا نطيل عليكم، ندعوكم لمتابعة نص حوار الجزيرة نت مع الروائي الجزائري رفيق موهوب.

رواية "الهرّاب" تتناول صفحة من صفحات التاريخ الجزائري أبرزها ما عرف "بالعشرية السوداء" (غيتي) بالنظر إلى حساسية حقبتي الاستعمار و"العشرية السوداء" في الذاكرة الجزائرية، والجدل حول الوجود اليهودي، كيف عالجت روايتك "الهرّاب" هذه المحطة التاريخية والاجتماعية، وقدمت رؤية مغايرة للوجود اليهودي بالجزائر، مع الحفاظ على قدسية الذاكرة الجزائرية؟

في الحقيقة، الرواية فعلًا رحلة في ذاكرة الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية وفترة التسعينيات. وهي تخوض في مسألة التناقضات المسجلة في هاتين المرحلتين، أي مخلفات العدوان الاستعماري، وحقبة التسعينيات التي كانت حقبة دموية وقاسية جدا على الجزائريين، والتي ذاق فيها الجزائريون مرارة الإرهاب الذي لا يزال يضرب في مناطق عديدة من الوطن العربي.

أشير إلى أن الكتابة عن حقبة الاستعمار وفترة التسعينيات "العشرية السوداء" تعتبر بشكل ما أحد" التابوهات"؛ فكثير من الروائيين لم يخوضوا في تلك المرحلة نظرًا لحساسيتها والجرح الذي لم يندمل بعد لدى الجزائريين. فالوعي الجمعي الجزائري لا يزال يحتفظ بصور مأساوية عن تلك المرحلة، ولا يزال موضوع الذاكرة مطروحًا في الجزائر والضفة الفرنسية.

كما أن هناك العديد من المكونات في الشخصية أو الهوية الجزائرية لا تزال تتفاعل إلى اليوم، وملف الذاكرة يثير جدلاً كبيرًا بين الجزائر وفرنسا؛ فرنسا تريد اقتلاع مسارات كثيرة من التاريخ الجزائري، والجزائر تريد ألا تطوي الصفحة، بل تتقدم إلى الأمام من خلال الاعتراف الفرنسي بجرائمها خلال الحقبة الاستعمارية، والسير في مصالحة وطنية من خلال معالجة ملف التسعينيات الذي خرجنا منه سالمين بفضل المصالحة.

رواية "الهرّاب" فيها عنصر مهم، فقد تثيرُ تساؤلات القراء، خاصة عن مسألة الوجود اليهودي خلال الحقبة الاستعمارية وما بعدها. هذا الموضوع أثاره العديد من الأدباء. برأيي، صورة اليهودي في الأدب الجزائري غالبًا ما كانت نمطية وسلبية، تصوره على أنه ماكر.

إعلان

لكن، هناك تطورٌ في تناول اليهودي في الأدب الجزائري، من كونه عنصرًا منبوذًا إلى تقديمه بصور مختلفة. وهذا ما فعلتهُ في رواية "الهرّاب"، حيث قدمت نماذج ليهود ساعدوا الثورة الجزائرية وقدموا خدمات جليلة لها، من خلال ما يُعرف "بأصحاب الحقائب" الذين كانوا ينقلون الأموال من الجزائر إلى فرنسا ويسهّلون مهام المجاهدين، وأظهرت كذلك الجانب المظلم للوجود اليهودي لأصنع صورة تتسم بالتوازن.

في رواية "الهرّاب" يكشف أبطال الرواية قبوًا يحوي 17 هيكلًا عظميا لضحايا حفلات كان يقيمها جد إنريكو ماسياس قبل أن يقتل ضيوفه ويدفنهم سرا (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) أول شيء يتبادر إلى الذهن عندما نقرأ الرواية: هل اعتمدت على حقائق تاريخية دقيقة في نسج سردية الرواية، أم إن العمل يمزج التاريخ بالخيال الروائي؟ وكيف حافظت الرواية على معالم الذاكرة التاريخية للجزائر؟

بالنسبة لرواية "الهرّاب"، يجب التوضيح أنها تظل عملًا أدبيا وفنيا يعتمد بالضرورة على الخيال، ولكنه يعتمد على التاريخ وفقًا لما تتناوله المدرسة الجزائرية في كتابة التاريخ. ففي العادة، المدرسة التاريخية الفرنسية تقدم الشخصية الجزائرية على أنها متوحشة، تلجأ إلى العنف، وتصور الجزائري على أنه مدفوع بتيارات من الخارج.

لكنني في رواية "الهرّاب" لجأت إلى توصيف التاريخ، خاصة في مسألة اليهود، على أساس أن الموقف الرسمي الجزائري يؤكد عدم وجود مشكلة مع اليهود كمكون أو كأقلية في الجزائر؛ فهم كانوا مندمجين في المجتمع الجزائري. والجزائر لا ترى مشكلة في وجود اليهود بالجزائر بل مشكلتها مع الاحتلال والصهيونية بالدرجة الأولى، وعليه فإن الرواية قدمت التاريخ وفق هذا الأفق.

على سبيل المثال، اعتمدنا على كثير من المؤشرات التي تؤكد أن اليهود اختاروا صفهم منذ البداية من خلال الانخراط والاستفادة من "قانون كريميو" (مرسوم فرنسي صدر سنة 1870منح الجنسية الفرنسية لليهود المقيمين في الجزائر).

كذلك اعتمدنا على سرد العديد من الوقائع التي تؤكد أنهم اختاروا صفهم وساروا في مسار مساندة الدولة الاستعمارية الفرنسية، حتى قبل استعمار الجزائر، من خلال مساهمة الأخوين بكري وبوشناق في تأجيج الأزمة الاقتصادية سنة 1827 وإسهامهم في استعمار الجزائر بفعل الديون بحثًا عن الكنز المفقود.

كما اعتمدنا على بعض المحطات التي كان لليهود دور سلبي فيها، من خلال ارتكابهم مجازر في العديد من المحطات، مثل انتفاضة 1934 ومجزرة 1956، حيث ألقى يهودي قنبلة في مقهى قسنطينة.

حاولت أيضًا إبراز خصوصية الجزائر لدى اليهود من خلال الحوارات والسرد الفني، وذكرت أن هناك قديسين مدفونين في الجزائر، ولهذا يرى العديد من اليهود امتلاكهم روابط قوية مع الجزائر.

ذكرت بعض هذه الروابط من خلال أبطال الرواية، وفيها العديد من المشاهد والقصص، مثل اكتشاف أحد الأقبية التي يوجد بها ما يقرب من 17 هيكلا عظميا، حيث كان جد إنريكو ماسياس (المعروف أيضًا باسمه الحقيقي جاستون غريناسيا، هو مغن فرنسي من أصل جزائري يهودي) يستقبل ضيوفا ويحيي حفلات ثم يقتلهم ويضعهم في تلك الأقبية. ومن جهة أخرى، أظهرت بعض الشخصيات الجزائرية التي أسهمت في دعم القضية الفلسطينية في الجزائر وفي العديد من العواصم العربية والعالمية.

كيف نجحتَ في روايتك في إحياء شخصيات يهودية متناقضة، تُظهر جوانبها المتعددة بين الدعم لثورة التحرير والخيانة، مع دمج ذلك بسرد واقعي ومؤثر للعشرية السوداء في الجزائر؟

بدايةً، شخصية البطل تتسم بالتناقض العميق؛ فقد وُلد في الجزائر لأب يهودي، وفي سنواته الأولى تعلّم الإسلام والعربية واندفع كليا في محيطه، لكن مسار حياته اختلف جذريا عند انتقاله إلى فرنسا، حيث اكتشف هويته اليهودية وتلقى تكوينًا دينيًّا في المدارس، ثم عاد إلى الجزائر بعد ذلك، ولكن هذه المرة بصفته اليهودية.

إعلان

تخيل معي هذه الشخصية المتناقضة التي أصبحت إمامًا لأحد مساجد العاصمة، يؤمّ المصلين المسلمين في صلواتهم. لكن الغريب والمفاجئ أنه في أيام السبت يطلب من زوجته المسلمة أن تذهب إلى بيت أهلها ليتمكن من استقبال عناصر من الموساد وممارسة طقوسه اليهودية الخاصة في المنزل، إنه يجمع بين الصلاة الإسلامية والطقوس اليهودية في آن واحد!

هذا التناقض العميق في شخصيته دفعنا إلى التساؤل: كيف تحول من هذا الدور المزدوج إلى شخصية يهودية تمارس شعائرها علانية في بيتها بالعاصمة خلال بداية التسعينيات، وهو أمر كان يعدّ خارقًا للعادة آنذاك؟

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمن خلال دراساته للمجتمع في تلك الفترة استغل وضعه لاجتذاب الشباب وتحريضهم على العنف؛ لقد أغراهم بالمال، ثم بث فيهم "الفتنة المستوردة"، دافعًا إياهم نحو متاهات الإرهاب والتحريض على العنف.

سيدي عبد العزيز يجسد النضال لتحرير الجزائر وفلسطين بينما يمثل داود السعي خلف أمجاد خرافية تُغذي الفتنة وتفتح جراح الذاكرة الوطنية (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) كيف ربطت في الرواية بين زواج البطل بشخصية خدواج المسلمة، وعيشه فترة العشرية السوداء، وارتباطه بالموساد، مع كل هذه التناقضات بسردية روائية قوية؟

هل تريدون أن أعطيكم الوصفة التي أكتب بها؟ الواقع الذي استمدت منه الشخصيات خلفيتها هو الخلفية التاريخية التي أملكها؛ أنا خريج تاريخ ومطلع من خلال الإعلام على جميع التطورات الحاصلة في المجتمع، وقد حاولت توظيف الأدوات الأدبية من خلال الحوار والوصف، ومن خلال أدوات من خلفيتي الصحافية مثل تقنيات التحقيق، حيث استعملتُ هذه الأدوات ووظفتها من خلال إظهار البطل بأنه يبحث عن تاريخ وهمي أو آثار وهمية يتكئ عليها لإبراز ممتلكات مجهولة الوجهة؛ لذا زار العديد من المقابر اليهودية في الجزائر، ووجد بعض الأضرحة اليهودية.

الرواية أظهرت لنا شخصيات عديدة من بينها شخصية "سي عبد العزيز" فما الدور الذي تلعبه حيث وصفها الموساد "بالشبح" واتسمت بالوفاء للوطن وقضايا التحرر بعكس داود؟

سي عبد العزيز رغم كونه شخصية خيالية، فقد لعب دورًا محوريا في الرواية وتداخلت سماته مع شخصيات جزائرية واقعية. صورته وهو يسعى نحو هدفين رئيسيين: تحرير الجزائر أولًا، ثم تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني ثانية. لقد كان يحمل على عاتقه نضال القضية الجزائرية والفلسطينية على حد سواء. وضمن سياق تاريخي، عمل عبد العزيز على ترسيخ مبدأ تحرير الجزائر، لكنه لقي حتفه بالاغتيال على يد الكيان الصهيوني.

لقد سعيت لربط شخصية سيدي عبد العزيز بشخصية داود؛ فمن جهة، يجسد عبد العزيز النضال الجزائري من أجل قضية مركزية، وهي تحرير الوطن وفلسطين. ومن جهة أخرى، يأتي داود بمحاولاته لاستعادة أمجاد خرافية، والعمل على إثارة الفتنة في الجزائر.

كيف صورتَ عائلة داود في روايتك، لا سيما والدته التي ربته بين المسلمين وجده التاجر، وكيف تفاعلت هذه الشخصيات مع داود ومع الأحداث التاريخية؟

أردتُ أن أُبرز مدى اندماج الأقلية اليهودية في المجتمع الجزائري، وهذا تجلى بوضوح في شخصية الأم التي سعت لإخفاء ديانتها لتتجنب المشاكل مع الجيران، وكذلك في الجد الذي كان تاجرًا مندمجًا بشدة، بل كان يدعم المجاهدين سرًّا، تمامًا كغيره من التجار الجزائريين. لقد حاولتُ تسليط الضوء على هذه العائلة المتناقضة، فمع كونهم جميعًا يهودًا، فإن كل فرد منهم قدم نوعًا من الخدمة أو أظهر صورة من الاندماج داخل المجتمع.

لكن هذه الصورة تغيرت في النهاية، فمع استقلال الجزائر اختاروا الانتقال طواعية إلى فرنسا، وهو خيارهم منذ البداية. ونقطة أخرى لم أذكرها في السرد الروائي ولكنها خطرت ببالي الآن والمتمثلة في إمام مسجد باريس، الذي يُعرف تاريخيا بإسهامه في حماية اليهود من النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. هذا يوضح أن الجزائري ليست لديه مشكلة مع الجنس اليهودي بحد ذاته، بل مع الاحتلال.

هل معاناة "خداوج" من مشاكل العنوسة واليأس ومشاكل أسرتها خلال العشرية السوداء كانت الدافع وراء زواجها بداود؟

بالفعل، في فترة التسعينيات كانت مشكلة العنوسة منتشرة بشكل كبير ولا تزال، لذا أردتُ أن أُبرزها في الرواية؛ حيث قد تتزوج الفتاة بشخص ثري أو أجنبي من دون النظر إلى خلفيته أو دينه أو أفكاره.

إعلان

شخصية خداوج تجسّد التناقضات التي سادت تلك المرحلة، من الفقر والأزمات الاجتماعية وضيق السكن إلى تأثير الحركات الإسلامية. زواجها كان أشبه باللجوء للخروج من هذه الظروف، لا زواجًا لتأسيس عائلة بالمعنى التقليدي.

لكن الأحداث تأخذ منعطفًا حاسمًا عندما ترفض خداوج أن يكون لها أبناء من أصل يهودي، رؤيتها لزوجها داود وهو يمارس طقوسه اليهودية في بيتها أدخلتها في أزمة هستيرية نفسية عميقة، لتبدأ بالتفكر في مصير أبنائها واكتشفت حقيقة لم تكن تتقبلها، مما أدخلها في متاهة نفسية صعبة نتيجة هذا الرفض.

شخصية خداوج تجسد تناقضات المرحلة المتمثلة في الفقر والأزمات وتأثير الحركات الإسلامية وزواجها بداود كان هربا من الواقع (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)  هل موقف خداوج ناتج عن خلفية والدها المناضل محب القضية الفلسطينية الذي خلّف في داخلها هذا الوازع المناوئ لأفكار داود؟

خداوج لم تستوعب أبعاد شخصية داود الفكرية، وكحال كثير من الجزائريين كانت لديها صورة نمطية عن اليهود، متأثرةً بالارتباط العميق والدعم المستمر للقضية الفلسطينية، الذي يعتبر شعورًا راسخًا في الجزائر، سواء كانت فلسطين ظالمة أو مظلومة، وهذا التخوف تحديدًا هو ما دفعها إلى أزمة نفسية عميقة.

لكن بمرور الوقت، عملت جاهدة على إنقاذ أبنائها من خلال رعايتهم وغرس روح الدين والهوية الجزائرية في نفوسهم.

من خلال شخصية "زوليخة" الساحرة وشقيقها "بويلان" العاطل الذي يرغب في الهجرة، هل سعيتم لإبراز زيف الخرافات وتقديم أفكار أعمق عن المجتمع؟

لقد أردتُ من خلال هذه الشخصيات أن أقدم أفكارًا مهمة عن الإرهاب والجماعات المتطرفة التي سادت تلك الحقبة. دعنا نتذكر أننا كنا في بداية التسعينيات، في منطقة القصبة والوادي، وهما مركزان معروفان لأحياء شعبية.

عبر الشخصيات التي ذكرتَ وغيرها حاولتُ إبراز تناقضات المجتمع الجزائري الذي يعرفُ وجود الجانب الشعبي، والتدين، والتعصب، والأفكار العميقة. لم يكن هدفي إصدار أحكام من خلال هذه الشخصيات، بل تقديم صور مختلفة لكيفية تشكل هذا المجتمع خلال تلك الفترة العصيبة.

ختامًا، كيف تعكس روايتك "الهراب" كوثيقة روائية فكرة "اليهودي الوظيفي" التي طرحها عبد الوهاب المسيري من خلال إظهارك الرؤية الجزائرية للتاريخ؟

لقد وظّفتُ التاريخ في روايتي بشكل يتماشى مع الرؤية الجزائرية للأحداث. وفي الختام، أبرزتُ دور المؤسسات الأمنية في استتباب الأمن وكشف ذلك العنصر الجاسوس الذي هرب من الجزائر.

هذا الجاسوس (داود) تسبب في دمار كبير، من خلال دعمه للشباب وتفتيت عائلة كانت تملك طموحا وأحلامًا، فالشر الذي حمله في ذاته جلب الخراب لتلك العائلة. ولهذا السبب، سميت الرواية "الهرّاب"، وهو مصطلح من الدارجة الجزائرية يعني "الهارب" بعد أن أحدث الفوضى والدمار في البلاد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات المجتمع الجزائری التاریخ الجزائری العشریة السوداء الجزائریة فی وجود الیهود الیهودیة فی عبد العزیز فی الجزائر مع الجزائر العدید من من خلال

إقرأ أيضاً:

صناعة الخـوف قراءة في رواية «الرّوع» لـ زهران القاسمي

تمتد رواية «الروع» بخيط طويل من الخوف والفزع، تتكئ مشاهدها الدرامية على فنتازيا الرعب، في قرية تحرس نفسها من سلطة الطبيعة ومفرداتها؛ ذلك أنه حين تبدأ الطبيعة بالزئير يشرع الإنسان في محاولة لوقف عنفها، وكسب رضاها. 

«محجان» هو ذاك الإنسان البدائي في تفكيره، يحاول أن يفسّر ظواهر الطبيعة، ويحرس نفسه من غضبها وسخطها، ويتّقي بوسائله البسيطة شرّها، ورث مخاوفه منذ الطفولة وكبرت معه، وأخذت تترصّده في ظلّه. نشأ على عادات القرية، وتقاليدها، حتّى الخوف كانت له تقاليده وشخصياته التي تجسّده؛ فالمطوّع يمسك بزمام الخوف، وشيخ البلاد في عينيه سلطة الخوف يقذف بشررها من يحاول أن يرفع حاجبيه أمامه، حتى الحيوانات السائبة لا تكفّ عن الأذى الذي تلحقه بالمزارع إلا بالخوف.. الخوف هو الكائن المتسلّط على الجميع، لا سيما حين تهدأ القرية ليلًا، وتختفي أصوات البشر، حينها تحلّ في الظلام كائنات الليل، وتستبدل القرية بالصخب والحركة، الهدوء المخيف، والصفير المرعب. 

لم يكن بطل الرواية «محجان» ليعيش في القرية بقدر ما كان يعيش في جلباب الفزع والخوف، يبدو أنها تركة ثقيلة تقاذفتها مراحل الزمن ككرة الجليد فاستقرّت في روحه. الزمن المعتّم عدوّ لدود يخبّئ في أحشائه شبحًا يطارده. تنشأ فوبيا الخوف Phobia في البيئة. إنها ترتبط بذكريات مكبوتة في العقل الباطن -كما يقرّر علم النفس Psychology- ترتبط بأشياء أو مواقف، وأفكار لم يتكيّف أو يتأقلم معها الإنسان. هكذا نشأ «محجان» منذ طفولته. 

«في طفولته كان يخاف ظلّه. حكت له أمّه أنه رأى في إحدى ليالي الشتاء القارسة ظلّه يمتدّ على ضوء القنديل فصرخ من الخوف، وركض بعيدًا حتى اندسّ في حضنها. حدث ذلك وهو في الثالثة من عمره. لكنّ الأدهى أنه، عندما اكتشف ظله في وضح النهار هرب راكضًا، وهو ينظر خلفه ويبكي مستنجدًا بها. كان كلّما هرب إلى جهة تبعه الظلّ فازداد خوفه». 

يحيل الخوف الإنسان إلى صناعة مصدّ يدفع به حالة الهلع التي تجتاحه من الداخل، بعد أن يفقد المأوى الذي ظل يحتمي به في مرحلة الطفولة. يبدو هذا الخوف عند «محجان» شبحًا يلاحقه في كلّ زاوية وكلّ لحظة، إنه خوف عامّ يـتـلبّسه في زوايا الحياة كلها، وهو ما سوف ينعكس عليه حتى في مرحلة شبابه. العنصر المغلق بزواياه، والمغلق بعتمته، والمغلق بقتامته، والمغلق بفقده مظاهر الحياة، حتى اللون الأسود في الملابس يتحول إلى عنصر مغلق مرعب في أجساد عجائز لا تزال في الوعي الجمعي تعيش بمرجعياتها الشريرة والسحرية. 

«ظلّ محجان زمنًا طويلًا يخاف الأماكن المعتمة، والظلال القاتمة، والبيوت الطينية المهجورة، والبقع الضيقة بين الجبال، والملابس السّود التي تلبسها العجائز..». 

فكلّ مفردات الزمان والمكان توصف بالعتمة والسواد والضيق، وهي تصنع في داخله شعورًا بالفزع والتشظّي من الداخل. 

«محجان» الاسم «العصوي» نسبة إلى عصا الراعي؛ تشبيه ساخر عرف به! وتناسى المجتمع اسمه الحقيقي «عبيد»؛ بسبب طول ساقيه؛ جعله ذلك، مع تركة الطفولة، يتطلّع إلى صناعة الخوف، وكما يقول «ويستر ماير» إن الخوف هو القوة العظيمة التي تدفع إلى أفعال الحفاظ على الذات. وهي صناعة يدفع بها محجان، في المقام الأول، الفزع الذي نبت ونمى في داخله منذ الطفولة وكبر حتّى تكلّس في وجدانه. كلّ شيء ينشر ظلامه في المكان ويزرع الخوف في نفس محجان، ويؤطّر ذاكرته بالرعب والهلع؛ حتى الأماكن المغلقة تبعث في داخله فوبيا الخوف؛ مخزن البيت المغلق طبع الذاكرة منذ الطفولة بالرّهاب. 

« لكنّ أكثر ما كان يخيفه مخزن البيت... غرفة من الطّين... تحاشى طوال طفولته الدخول إلى ذلك المخزن؛ لأنه فقد مرّة نعله فدخله.. فانغلق عليه الباب.. فكاد يومها يموت من شدّة الهلع». 

لم يقتصر خوف «محجان» على الكائنات الجامدة التي تلتحف بالقتامة والاكتظاظ والانغلاق، بل امتدّ إلى الكائن البشري الذي يتوشّح جسده بالسواد؛ وكلّ أسود مرشّح ليصبح ساحرًا أو شرّيرًا في العرف الشعبي. كان يفرق منه لأنه -في اعتقاده- ينتمي إلى تلك الكائنات التي تهيم في ظلام الليل فتقبض أرواح البشر. «أبو الليل» رجل أسود يحمل character «الغراب»، فهو «قطعة ظلام تمشي في النّهار»، كما وصفه السرد. فـالغراب البشري هذا يشبه في مظهره الخارجي تلك الثياب الرثّة السوداء التي تنتمي إلى العجائز، وإلى ذاك المكان المغلق المظلم المسكون بالفزع. «كان محجان يخافه في صغره، وبمجرّد أن ينظر ناحيته، ترتعد فرائصه ويهمّ بالركض مبتعدًا عنه، فيتحاشى الطرق التي يمرّ فيها، ويعتقد، مثل أمّه، أنه ليس إنسانًا، بل فيه شيء من سلالة أهل الليل، تلك الكائنات الخفيّة التي تتجوّل في الظلام، وتعزى إليها كلّ الأحداث في أرجاء القرية». 

فجـلّ ما يحرّك دوافعه إلى الحياة يكون الخوف جزءًا أصيلًا فيه. فحين فكّر محجان في حماية مزرعته من الحيوانات السائبة والطيور العابثة كان يصرّ أن يكون الرّعب هو مصدر القوّة، وحين أراد أن يصنع ذلك المصدر بحث عن اسم تجتمع فيه صفات الخوف والرّعب جميعها. 

«مرّت عليه أسماء كثيرة في ذاكرته.. عن ساحرات يتوكّأن على أنيابهنّ في المشي، عن كائنات تأكل فرائسها بنظرة من عيونها وتذيب الحجر..». 

حين كان يفتّش بين الأسماء التي تتكدّس في ذاكرته كانت مشاعر مدفونة تدفعه دفعًا ليفرغ في الاسم كلّ اضطرابات الخوف والفزع الذي تلبّسه منذ الصّغر، ليأمن هو على نفسه من ذاكرة ما فتئت تطارده حتى اللحظة، ويتخلّص من نظرة مجتمع عاش يتضاءل في عينيه. أراد أن يفرغ كلّ ذلك في صناعة مسمًّى قبل صناعة جسد؛ فالاسم عتبة الخوف. 

«لا بدّ أن تكون الرّوع، فيخافها الجميع: الطيور والحيوانات والأطفال والنساء، بل يخشاها حتّى الرّجال أصحاب النفوس الخفيفة..». 

من العينين تبدأ رحلة الخيال إلى أعماق النفس. «حفر في وجهه ثقبين غائرين. نعم، ثقبين من عتمة حالكة». 

أراد «محجان» أن يثأر من الأشياء التي أوجعته في نفسه بألم الجُبْن والخوف، أراد أن يصنع لكائنه الجديد رعبًا يتعالى على كل رعب عرفه في طفولته أو مر عليه في محطة من محطات حياته. من العينين تنسج أسطورة القوّة، وفي ظلمتهما تتوالد مغارات الرّعب. 

«لا بدّ أن تكون عينا الرّوع أشدّ عتمة ورعبًا من كهوف الجبال، من نوافذ البيوت المهجورة، من عيون بعض الناس...». 

في غموضهما تنشط الذاكرة بسيل من الصّور المتحركة، حيث العينان مأوى الأرواح التي تـتـقـفّـز عبر ذاكرة الطفولة، لتجترّ آلام الخوف في تأمّل عميق سابر ما تقوله عينا «الرّوع». 

«خيّل إليه أن عيني الرّوع تدوران في محجريهما، وأنه رأى صورته في مقلتيهما الشديدتي السّواد حين لمعتا فجأة. وبدا له أنه أحسّ بوخز في صدره، يشبه ما اعتراه حين وقف أمام المغارة، أو ما كان يعتريه حين يصادف في طريقه بعض من خافهم في طفولته، أو حين يمشي وحيدًا بين السكك المعتمة ويمرّ بالبيوت الطينيّة». 

ولعلّ هذا يتقاطع مع ما ذكره «فرويد» من أنّ جذور القلق والخوف التي يصاب بها الإنسان في أي مرحلة إنما تعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة نتيجة عـقـد ومخاوف في سنوات العمر الأولى. 

كان «محجان» حريصًا على أن يشحن هذا الكائن كل ما من شأنه أن يبعث الخوف في الأرواح ويبثّ رائحة الموت في المكان، كان يفكّر، بطريقة مجنونة، كيف يحمي مزرعته من الطيور والحيوانات، لكنه في اللاشعور الفردي كان يحاول أن يقطع سياج الخوف الذي صنعه واقعه الطفولي في داخله، إنها معادلة صعبة بين الخارج والداخل تسعى الذات إلى خلق توازن بينهما، فيبحث في مفردات الرّعب والموت كي تثأر له من الآخر. فاختار ملابس الموتى تتزيّن بها «الرّوع». إنه طقس جنائزيّ يستحضر به موت الآخر، وعنف الطبيعة لينقله إلى «الرّوع». 

«ومن الكهوف حيث تترك ملابس الموتى مطويّةً في صرّة كبيرة، توضع هناك لتتآكل مع الزمن، كما تآكل جسد صاحبها المقبور... أخذ ينتقي القطع المناسبة، ذات الألوان الغامقة..». 

ما يحاول «محجان» صناعته في «الروع» هو ما يتطلّع أن يكون عليه؛ القامة والجبروت. يصنع «محجان» كائنه بفلسفة الخوف، حيث الديمومة والخلود هما ما يميّزانها عن بقية الأرواع التي سرعان ما تنطفئ جذوة الخوف فيها، ويدرك أصحابها أنهم صنعوا مجرد «دمية» جامدة صامتة لا تستطيع حتى الدفاع عن نفسها، لتدرك الطيور والحيوانات حقيقتها فتشنّ هجومها على الحقول والمزارع. 

«يدرك أهل البلاد عيب تلك الأرواع، يدركون أنّ سكونها يعني موتها، لأنّ الفزع كلّه مبنيّ على حركتها». 

هذه أرواع أهل القرية جميعهم، أمّا «رّوع» محجان «لا يمكن إلا أن تكون وحدها، لا يشبهها شيء، بقامتها الفارعة، وصمتها المريب، ورعبها الذي اختزنته في ذاتها». 

إنّ هذا التوصيف المقارن لا يمكن أن يكون مجرد إظهار صفة التفوّق والغلبة في الصناعة فحسب، بل يشير إلى «جوّانيّة» مسكونة بالخوف والغضب في الوقت نفسه، تتملّكها رغبة عارمة في تحويل هذا الغضب إلى خوف عند الآخر؛ بترهيبه. 

إنّ «محجان» يهرب من انفعالاته ليضعها في جسم خارجيّ. وخلق الروع ليس إطلاقًا للمشاعر الحبيسة وإنما هو فرار منها. إنه يحاول أن يخلق معادلًا موضوعيًّا Objective Correlative يسقط فيه كل مشاعر الخوف التي دهمته في حياته، فهذا الكائن المعادل لا يخشى ظلام الليل، ولا الحيوانات. 

«وجاء الليل.. وحدها الرّوع كانت واقفة في مكانها، باسطة ذراعيها مثل وحش جبّار نبت فجأة في المكان. هناك في ذلك المكان القصيّ من البلاد، وقفت غير عابئة بالعتمة وكائناتها، وانتصبت مثل لعنة». 

إنه يكثّف من مشاهد القوّة والهيبة في كائنه المرعب وهو تكثيف يعكس سيكولوجية «محجان»، إذ يتطلّع إلى الخلاص من شبح الخوف الذي يلاحقه. ثمّة وجع «جوّانيّ» تئنّ تحت وطأته الذات، يدفع بهذا الكائن «القماشيّ» إلى التّوحّش والجبروت كي يهابه الجميع؛ فهو استشراف صانعه. الرّوع المهاب هو «محجان» ذاته، ذاته الجوّانيّة التي تكثّف مفردات السّلطة والسّيادة. 

«زحفت الحشرات مبتعدة عن المكان، الصراصير، العناكب، الأفاعي.. هربت باحثة عن مكان آخر حتى لا تمرّ على تلك البقعة المريبة وعلى ذلك الكائن الغريب... وقفت الرّوع هناك مثل وحش جبّار يتحدى الظلمة وأشباحها وحيواناتها. وقفت بطولها الفارع حارسةً للحقل... ها هي الرّوع منتصبة أمامه بكلّ رهبتها..». 

«محجان» يتطلّع إلى أن يدرك الآخر «المجتمع» حقيقته التي بات عليها، الآخر الذي ينظر إلى «محجان» بازدراء الشّكل، وضعة المكانة، أراد أن يعوّض في «روعه» عقدة النقص التي سبّبها له مجتمعه. «الرّوع» هي من سوف تصنع له المهابة _ كما يتوهّم _ في نفوس الناس حين يقفون أمام جبروت قامتها. 

«.. جاء الناس من كلّ مكان.. وقفوا أمام الرّوع... منهم من وقف حائرًا لسبب ما، زرع الوجل في صدره، فبدأ يتنفّس بصعوبة كمن أصابته نوبة من الكرب. وثمّة من علقت عينا الرّوع في مخيّلته وخرجت معه حتى وصلت إلى أحلامه. أمّا بعض الأطفال الذين استطاعوا الوصول إلى هناك فلم يعرف أحد ماذا أصابهم تلك الليلة، إذ سرت الحمّى في أجسادهم الصغيرة، وطغى الهذيان على مناماتهم...». 

لقد استشرف «محجان»، كما يبدو، المكانة التي سوف يكون عليها في مجتمعه، بعد أن شاهد الناس «روعه» وقد صنع في عينيها الخوف، وفي قامتها الفارعة الجبروت، وبات الجميع ينظر إلى هذا الضئيل «محجان» من زاوية مختلفة، زاوية ملؤها الدهشة من صنعته المتعالية على كلّ الأرواع في القرية. هذا الواقع الجديد فرضه الكائن «القماشيّ» على الناس ومجتمع القرية، وشكّلت كومة القماش تلك معادلًا موضوعيًّا لـ«محجان». 

«والآن، وقد عرف الناس في البلاد أمر الرّوع، وباتوا يترقّبون فعلها، آن لمحجان أن يمشي في الحارات مرفوع الرّأس، يراه الجميع ويفتحون معه الكلام عن الأخبار، والزروع، والمحاصيل، ويسألونه عن الرّوع». 

تراتبية العلاقة بين «محجان» وروعه أفضت إلى نوع من الارتباط الحميميّ بدأ يشعر به «محجان»، أخذ بتلابيب حياته، وأصبح أسيره؛ ذلك أنها صنعت له مكانة كبيرة ومهابة في مجتمعه، وأخذ الناس يلتفتون إليه، يتحدثون عنه ليل نهار، وأصبح شغلهم الشاغل، وتحوّلت «الرّوع» إلى «عشتار» آلهة الحبّ والخصب. 

«بوجودها عاد الأمن والأمان إلى مزرعته، فاستعادت نضارتها. كبر الزرع، وأنتجت الضواحي محاصيل عديدة..». 

الرّوع، في عمق «محجان» السيكولوجي، ليست كائنًا جامدًا من قماش وقشّ، فهي إنسان تحمل مشاعر وعواطف، وتكره أن تجرح في كبريائها بالإهانة، وقد أدرك «محجان» أنه وقع في خطأ لا يغتـفـر حين رفع صوته في وجهها. بعدها حاول «محجان» أن يكثّف من أحاسيسه بالرّوع ليصبح هذا الكائن القشّيّ متعاليًا في تجسّده المقدّس؛ ممّا استدعى أن يمارس الطقوس، ويقدّم القرابين. لقد شعر بالنّدم بعد فعلته تلك، ولم يكتف بالبكاء في حضنها، بل ذهب إلى زوجه، قائلًا لها: 

«الروع زعلانة، أنا السبب، لازم نراضيها، لازم. طلب ديكًا، وخمس بيضات، وصوفًا من كبشها الأسود... باغي صيغتش». 

يذهب «فريزر» إلى أنّ كلّ الطقوس (والأساطير) تخفي تحتها نمطًا أو بنية كونيّة: موت إله أو ملك مقدّس وعودته إلى الحياة لضمان خصوبة الأرض. لقد مثّـل انطفاء الحياة في «الرّوع» موت النّبات والأشجار، والحيوانات، وجفاف الأرض، وجفاف الرّوح في «محجان». 

«... جرت في الخفاء أحاديث كثيرة عن الرّوع التي تجرّ أسمالها وهي تمشي في الحقول، عن عينيها المشعّتين في الظلام مثل جمرتين من نار، عن الحيوانات التي وجدوها ميتةً في أطراف القرية... وقيل إنّ القرية حلّت بها لعنة الرّوع، فذبلت الأشجار المثمرة الخضرا ...». 

لقد تعمّد أهل القرية، لا سيّما المطوّع وشيخ البلاد، أن يبيعوا الوهم للنّاس، فاتّـهموا «روع» محجان بالدّمار الذي حلّ بالقرية، وأنّ اللّعنة أصابت البلاد بسببها؛ شيخ البلاد الذي كانت روعه... «ترى من بعيد». 

أمّا مطوع البلاد فلا يرى في روع «محجان» إلا صنمًا ملعونًا يخسف الله به أرض القرية، ويبتليها بكلّ أصناف العقاب والعذاب، وقد غضّ طرفه عن الأرواع الأخرى.. 

«وأخطر ما في ذلك الهيكل المنصوب عند أطراف القرية أن سيعمّم عليهم الشرّ ذات يوم ولن يجدوا منه ملجأ. فماذا لو خسف الله بهم الأرض؟ ماذا لو حلّت بهم كارثة قويّة اجتاحت البلاد؟ مرض، زلزال، طوفان، أو نار تحرق السّهول والحقول والبيوت»؟. 

في المقابل يقف «محجان» عاجزًا عن تفسير ما أصاب كائنه القماشيّ بعد أن تماهت روحه معه! وأسقط فيه كلّ مشاعره وجراحاته المزمنة! حتّى الطّقوس التي سعى بها إلى إحياء الرّوح فيه لم تحرّك ساكنًا! استذكر تلك الوجوه القرويّة التي زارت «الرّوع»، فتّش في عيونهم؛ تأكّد في قرارة نفسه أنّها عيونهم التي أسقطتها في هذا الصمت الرهيب، وبدأت تذوي وتنطفئ منها الحياة 

«يعلم تمامًا أنها تقف هناك عاجزةً ولا حول لها في ما وصلت إليه. مرضت، نعم، أصابها مرض العيون الحاسدة، كانت روحها تذوي وعيناها تنطفئان، وهو مشغول باستقبال عيون المادحين، أولئك الذين جعلوها تفقد روحها شيئًا فشيئًا، إلى أن انتهت. انتهى الخوف منها، فسقطت وهي لا تزال قائمة». 

إنه الخوف الوهمي الذي يسيطر على «محجان»، يخاف الإنسان من كراهية الناس له، الخوف من الحسود، والكاره، والحاقد، وكلّ ما يرتبط بذلك من عمل حجاب لحماية الإنسان من عيون الحسود. كما فعل «محجان» في طقوس النذر. 

لعلّ العبارة التي تعلن «انتهى الخوف منها» بقدر ما تحمل من سقـوط مدوّ للكائن الذي عكف على تشكيله وترميزه فإنّها تجترّ كلّ عذابات السخرية والتهميش في الماضي، تجترّ آلام النّفس، وتستذكر خوف الطّفولة. إنّه يرثي الخوف في عيون «الرّوع»، الخوف الذي يواجه به المجتمع حين يشاهده في عيون الجميع، إنّه ينظر إليها الآن ويستحضرها بين محطّتين في الزمن؛ الواقع والماضي. وما هذا الاستحضار سوى رثاء للنفس. 

«إنه وحيد أمام أمثولته الجميلة التي صنعها بيديه. احتفظ في ذاكرته بكلّ ما سبّبته من رعب، لا للحيوانات والطّيور فحسب، بل في ملامح من وقفوا قبالتها أيضًا. كان الخوف يتسرّب إليهم من صمتها العميق، ومن حقيقتها التي لا يدركها سواه، ومن روح رعب تشتعل في جسدها». 

حينها لم يكن «محجان» ذلك الإنسان الساذج الذي استسلم لعذاباته، وأسكنّها روحه طوال حياته، لقد أراد لحظتها أن يوقظ «عبيد بن ربيع» في داخله؛ لينهض من الرّماد لا ليحرق نفسه، بل ليحرق القرية ويحوّلها إلى رماد. أراد «عبيد» أن ينتقم لرفيقته المحبوبة، رفيقته التي تماهى معها لدرجة أن يجهش بالبكاء، وهو يرى انطفاء الهيبة والجبروت في عينيها. إنه انطفاء الحياة التي كان يأملها في واقعه المرير، فعجز «الرّوع» يعني انهيار الحلم الذي كان يسعى إليه في صناعة الخوف في قامة رفيقته، وجبروتها. والآن آن لهذه القرية أن تتألّم كما يتألم.. 

«لهذا قرّر أن ينتقم لنفسه أولًا، وأن ينتقم لها ثانيًا من هذه البلاد التي وثق بها تمام الثقة. قرّر أن يبحث عن شيء يبعث الألم في نفوسهم ويبقى في ذاكرتهم مثل الوسم على الجلد... فقال في نفسه وهو يجهش بالبكاء: قتلوها... جلس على ركبتيه وواصل نحيبه..». 

وها هي الكينونة المتجذّرة في العاشق، في روح «محجان» لـ الرّوع التي باتت إنسانًا بكلّ ما تحمله المفردة من معان حسّيّة وعاطفية وجماليّة؛ التّماهي، الذّوبان، الغياب في الآخر حدّ التوحّد، انشغال القلب بكليته بحبّ «الرّوع»، وعشقه الصّوفي. 

«جعل ظهره على صدرها، وتركها تحتضنه وقد مدّ ذراعيه لتلتحما بساعديها، وأسند رأسه حتّى ذاب فيها. أراد أن يكونها فتكونه، فغاب وغابت فيه، رأى بعينيها، وسمع بأذنيها، وسرت روحها في روحه». 

في جنون العشق الماثل تتجسّد كلّ مشاعر الغضب للانتقام بعد أن تلبّس «محجان» بالعشق، إنه عشق الذات التي تجسّدت في «الرّوع» وأفرغ فيها كلّ مشاعره، واستشرف فيها كلّ أحلامه، أحلام القوّة والمكانة والجبروت. لم يستطع أن يشاهد كل ذلك ينهار أمامه، كان عشقه طوفانًا مدمّرًا، أصابته نوبة الانتقام وجنونه. 

«ماشي روع إلا روعي، ماشي روع إلا روع محجان. اشتعلت النّيران في أرجاء القرية... كان يمشي ويحدّث نفسه: فلتذهب كلّ أرواع القرية إلى النّار..». 

إنّ فقدان الموضوع (موضوع الحبّ) يحيل الذات المتألّمة إلى الاشتغال على الحداد، ويعدّ الحداد نشاطًا نفسيًّا، واستجابةً لتجربة أليمة، يعيش فيها الفرد حالةً من الاكتئاب جرّاء فقدان موضوع الحبّ، ويسمح طقس الحداد بالحفاظ على أمن «الأنا» واستقرارها، وإذا لم تمارس «الأنا» في المقابل طقس الحداد إزاء (الموضوع)، فإنّ ذلك يجعل الذات تعيش في خضمّ الصراعات النفسية، غير قادرة على التكيّف مع واقعها الداخلي والخارجي والموضوعي. الحداد يذكّر بموت «الرّوع»؛ بانطفائها وعجزها، وليس كلّ موت يحمل معه حدادًا؛ إذ يجب أن يكون المفقود ذا أهمية قصوى، فالمهمّ في الحداد هو التعلّق والفقدان. كما هي علاقة «محجان» بـ «الرّوع»، كما أنّ الفقدان ليس في الشّخص المفقود نفسه، وهي « الرّوع»، بل فيما تمثّله بالنسبة لـ «محجان»، في رابطته معها، قيمتها وعلاقته بها.. يعيش «محجان» المرحلة الثانية من مراحل الحداد بعد مرحلة «الصّدمة»، وهي المرحلة المركزية أو الحالة الاكتئابية؛ إذ يعيش فيها حالة من الانطوائية نتيجة الجهد المبذول في استحضار ذكرياته مع «الرّوع»، تجعله غير قادر على سحب الاستثمار من الموضوع المفقود إلى مواضيع جديدة، أو إدماج ذلك الانقطاع أو الفقد. فـ «ذات» محجان تقوم بتثبيت الموضوع المفقود «الرّوع»، بإهمال العالم الخارجي (مجتمع القرية)، وإشعال النار فيه؛ ممّا يجعلها غير قادرة على التعويض، والدخول في تجربة جديدة؛ لهذا حدث اللاتوافق بينه وبين الآخر (مجتمع القرية) الذي لا يعوّض الموضوع المفقود. بعد أن أحرق «محجان» مزارع القرية بـأرواعها كلّها، ذهب إلى «محبوبته» الموضوع المفقود؛ ليتماهى معها في كينونة واحدة. 

«خرج محجان من الحوض، ولبس ملابسه الجديدة. ثمّ وقف أمام الرّوع، وقد أحضر معه حبلًا متينًا لفّه على ساعديها. عندها التحم بها، ووضع ساعديه، وأسند ظهره إلى جسدها، ثمّ أدخل يديه في الرّباط، صالبًا نفسه على جسدها. أغمض عينيه، واتّحد بروحه فيها ليكون هو فيها، ولتذوب هي فيه، فتحوّل إلى روع قائمة وسط الحقول». 

مقالات مشابهة

  • محمد السيد الشاذلي: معركة الهوية أهم المعارك التي تخوضها الأمم
  • وزير الاتصال: نسعى لإعادة بعث مكاتب وكالة الأنباء الجزائرية في الخارج
  • وزير الاتصال يُشرف على احياء ذكرى تأسيس وكالة الأنباء الجزائرية
  • الهوية السعودية تسيطر على ثلث مشاريع البناء الجديدة في الشرقية
  • رئيس مؤسسة سوناطراك الجزائرية يزور شركة بتروجت ومجمعها بالقطامية
  • انطلاق مؤتمر تجليات الإسكندرية في الرواية دورة الأديب الراحل مصطفى نصر.. 3 ديسمبر
  • صناعة الخـوف قراءة في رواية «الرّوع» لـ زهران القاسمي
  • السياحة التي نُريد!
  •  وكالة الأنباء الجزائرية: مزايدة بعض الأحزاب السياسية على مواقف الجزائر إفلاس سياسي
  • السلطات الجزائرية والحريات الإعلامية.. سعد بوعقبة يواجه الحبس المؤقت