بوابة الوفد:
2025-05-09@22:09:51 GMT

العداء لما نجهل آفة الآفات

تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT

لم نره من قبل، ولم نعرفه، ولم نختبره، لذا فهو ممنوع. هذا هو قانون العقل العربى المعاصر، وهو موروث من العصر السابق، والأسبق، والأسبق.

ظلت العقلية الشرقية تعادى كل ما لا تعرفه قروناً وقروناً. الجديد مستحدث، والمستحدث بدعة، والبدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النهار. وما الداعى وما المبرر أن نغير ما ألفناه، وما الدافع أن نبدل ما وجدنا عليه آباءنا؟ تلك كانت الفكرة الحاكمة للعقل المسلم فى قرون المد العثمانى الكبير الذى شهد توسعاً عسكرياً للمسلمين، لكنه ظل توسعاً جغرافياً أرضياً لا حضارياً.

من يراجع تاريخ الإمبراطورية العثمانية الكبيرة يندهش من حجم الانتصارات التى حققتها، لكنه سرعان ما يحبط عندما يكتشف أن تمددها فى القوة العسكرية تلازم دائماً مع ضحالة معرفية، وانغلاق فكرى، ومعاداة لكل حديث، وهو ما علق بالعقل العربى والمسلم المعاصر، فصار كل مجهول محض مؤامرة كبرى.

فى سنة 1434م اخترع العالم الألمانى يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة، وسارعت دول أوروبا إلى نسخ الكتب وطباعة المعارف ونقلها من بلد لآخر لتتسع العلوم وتنفتح العقول وتتوالد بدايات نهضة علمية واسعة.

وكانت الإمبراطورية العثمانية وقتها فى مرحلة نمو كبير، تحقق انتصارات واسعة على الأرض، وتحشد جيوشاً جرارة للهيمنة على شعوب الشرق والغرب، لكن هاجساً دفع ولاة الأمور فيها إلى استبعاد المطبعة من أى تخطيط نظراً لخطورتها، باعتبارها ناقلة علوم. وظلت السلطة الحاكمة فى أسطنبول ترى المعرفة خطراً، فأخرج رجال الدين المصفقون للسلطة قياساً فاسداً ادعوا فيه أن المطبعة حرام لأن آلة الطبع تضرب آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبى «صلى الله عليه وسلم».  والغريب أن السلطان بايزيد الثانى أصدر أمراً بتحريم طباعة الكتب، إلا لطائفة اليهود داخل تركيا، لذا كان أول كتاب تمت طباعته هو التوراه فى نهايات القرن الخامس عشر الميلادى. وعندما تولى السلطان سليم الأول الحكم سنة 1515 جدد أمر تحريم الطباعة، ثم غزا سوريا وفلسطين ومصر واستولى عليها فنشر تحريم الطباعة فى كل الأقطار.

وظل الجهل سائداً، وضعف العقول حاكماً رغم اتساع الحدود وتضاعف الجنود، ولم يمر وقت طويل حتى سميت الإمبراطورية الواسعة لآل عثمان فى مصطلحات السياسة الدولية بـ«تركة الرجل المريض»، ثم تحولت لاحقاً إلى لقمة سائغة يلتهمها الاستعمار الأوروبى بسهولة مستلباً خيراتها عدة عقود.

***

فى سنة 1623 تولى سلطان طفل، لم يتجاوز الثانية عشرة حكم المسلمين فى العالم كله، وهو السلطان مراد الرابع، فأصدر فرماناً بتحريم شرب القهوة وقطع رأس من يضبط شارباً. كان الاعتقاد السائد لدى من يجهلون وينتشرون فى ربوع السلطنة أن القهوة مخدر ومسكر، بل هى أشد خطراً من الخمر، وظل الناس يتداولون هذه الفكرة دون اختبار أو تمحيص. وبعد وفاة مراد الثالث، تولى شقيقه الحكم وأحب التخفيف على الناس، فأمر بالاكتفاء بجلد من يشرب القهوة، فكان البعض يجاهر بالشرب محبة واستمتاعاً بمذاق القهوة ثم يتحمل بصبر سياط الجلد.

وفى مصر، وفى زمن مقارب، كان أحد شيوخ الأزهر ويدعى أحمد طنطاوى يفتى بحرمة شارب القهوة، وحرمة شاريها، وبائعها، ليساوى بينها وبين الخمر، حتى ضج منه التجار، وأرسلوا له مراراً ليناقشوه ويجربها لكنه أبى معتصماً بما يعتقد أنه التزام دينى. وظلت القهوة قروناً من الزمن محل شبهة لدى جمهور العامة، حتى قرر أحد القضاة فى القرن التاسع عشر اختبارها بشكل عملى، فدعا بضعة طلاب لديه وسقاهم منها، ثم تناقش معهم فوجدهم أكثر يقظة، وأصفى ذهناً، فحكم بحلها.

***

فى نهايات القرن الخامس عشر، كما يعتقد كثير من محللى أسباب النهضة فى العالم، كانت أوروبا منشغلة تماماً بحركة الكشوف الجغرافية، وكان الرحالة الأوروبيون يجوبون العالم شرقاً وغرباً، متحملين الصعاب، ومتعايشين مع الخطر، بحثاً عن الجديد، غير المعلوم.

كانت فكرة اكتشاف ما هو غير مكتشف بمثابة غاية الغايات فى أوروبا المتأججة الساعية للتقدم، والمتطلعة بقوة نحو المستقبل. وهكذا رصدت الكنوز وخصصت الميزانيات الملكية الضخمة، وبادر المغامرون والطامحون إلى التقدم لكشف العالم الغائب، ولديهم قناعة شديدة بأن المجهول دوماً نافع.

وبالفعل اكتشفت طرق ومسارات وبلدان كانت غائمة وبعيدة وبدأت خرائط الاقتصاد والتجارة فى التبدل، وانتشرت المعارف، ووضعت الخطط للمستقبل، وغرست النهضة أقدامها فى خرائط الغرب.

***

أسهل شىء أن نعادى ما نجهله، فنقطع بحرمته، بينما يعصر الآخرون أذهانهم عصراً ليعرفوا الناس ما هو مجهول.

لا تسر خلف القطيع، وغامر وخاطر واقتحم، واعرف، وجرب، واختبر، ولا تصدق تجار الدين وخدم السياسة فى كل مكان وزمان.

والله أعلم

 

 

 

[email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: مصطفى عبيد

إقرأ أيضاً:

المؤثر!

 

 

فاطمة الحارثية

 

استطاعت بعض المدونات أن تهدم جهودا عظيمة، وبضع كلمات أخرى كادت أن تصنع من الجهل رأيا؛ "على هذه الهشاشة نعيش"، هل تستوعب معي ذلك؟ خلطنا الصفات فـأصبح كل من مُعلق..."مؤثر"، وكل من علا صوته على المواقع المختلفة "ناشط"، وكل من سكب بعض الحبر "مدوناً"، نحن من أعطينا للجهل هيبة، ولراصف المفردات العقيمة قيمة، والأكثر عجبا، أسميناهم بصفات عظيمة مثل "مؤثر" و"ناشط اجتماعي" و"مشهور"، وغيرها من الوصف، البعيد كل البعد عن حقيقتهم، شتان بين الواقع والقصد اللغوي والسلوكي.

"المؤثر" ليست صفة عادية، ولا يمكن أن يكون له أتباع ولا قطيع، في اللغة الدارجة "متابعين"، عكس المشهور تماما، فهو في الأساس يتأهل لنعته مشهورا، عند زيادة عدد المتابعين له والمقلدين، في كل أمر يقوم به غثا كان أم قيما، ولا يمكن الاستهانة بالمتطرفين منهم؛ ونجد أن الوعي هو ما يضع الأمور في نصابها، ويسمح لنا أن ننقل للنشأة ماهية الأمور، حتى نقيهم من سلبيات السعي نحو شهرة ضعيفة القيم والمبادئ، فقد يراها الكثير من الناس أنها مسلية ولا بأس منها، لكنها ليست كذلك فالشهرة العقيمة قد تودي بصاحبها في غياهب جحيم الدنيا والآخرة.

عندما يتكرر على مسمعك، أمر ما ومن أكثر من شخص، تعمل ذاكرتك على المقاربة، وللحصول على الفهم الأقرب للحقيقة، أجدني أتعمق أكثر وأكثر، من مجرد المقاربة، أو القصد الظاهر والمبطن، واستشف ذلك من خلال لغة المفردات والجسد التي اختارها المرسل، للتأثير عليَّ في قياسي للأمور، للأمانة بالنسبة لي هذه أفضل الطرق التي استخلص منها مشاعر المتحدث، وصدق حديثة وإذا كان يُبالغ أو له في نفسه مآرب أخرى.

المؤثر الحقيقي لا يُغير رأي الناس من حوله، ولا يرغب أن يُقلدوا فعله أو معتقده، بل من يستطيع أن يؤثر على حياة المتلقي على المستوى الفردي، وصُناع القرار على المستوى الجماعي، ولن تجده أبداً على رأس الطاولة، وليس لديه صوت رنان عالٍ، يُدرك عمق الكلمة التي يقدمها للجموع، ويتقي الله سبحانه وتعالى في وعي تام، لمغبة مثل هذه الهبة والمهارات التي تصاحبها، ولنحترم الفروقات، ولا ننعت الناس بما ليسوا أهلاً له، وليس كل رأي ظهر على منابر التواصل الاجتماعي، يسمح لنا أن نحول صاحبه إلى مؤثر أو مشهور، وليس علينا أيضًا أن نتفاعل معه، خاصة إن كانت مذمة من ناقص.

يكرس عدد كبير من الناس أنفسهم، من أجل جذب الانتباه، وأغلبهم لسد عقدة الحب والاضطراب العاطفي أو الاجتماعي لديهم، ولا يجب على كل مجتهد مخلص، أن يتأثر بأمثالهم وآرائهم لأنها تفتقر إلى الإخلاص والصحة الفكرية، ولا أن يسمح لمفاهيمهم الناقصة والمضللة، أن تأخذ حيزا في بلورة علاقاته مع الآخرين، ومناشطه، وإخلاصه في أدائه، لا ريب أن ارتداد الكلمات على مسامعنا يصنع الكثير من الفوضى، سواء الفوضى الخلاقة أو الفوضى الهدامة، وبأيدينا أن ننغمس في تلك الكلمات، ونترجمها على هوانا لنسمح لها أن تفعل بنا ما نشاء.

لن تقوم المجتمعات إلا بشباب واع، يضع كل كلمة في محلها، وكل أداة في موضعها، وكل إنسان في مكانته الصحيحة دون ضرر ولا تفريض، جميعنا نستحق العيش بسلام خلال السنوات التي قدرها الله لنا، والسلام لا يعني الخمول والكسل والبذخ، بل هو الشعور الذي يُسهل علينا إتمام الابتلاءات، والصبر على الشقاء والسعي وتعب الحياة، على أكمل رضا لما قُدر لنا.

وإن طال...

الخطوات الصغيرة المتتالية، هي الطريقة الأسرع نحو النمو والتنمية، تصنع التوازن المطلوب وتُبعد العيون المُفسدة، ونادرًا ما تصنع جعجعة تؤرق من على وتيرتها، ونتائجها مُفاجآت جميلة مستمرة ومستدامة، تسر المتابع والمشاهد والعامل عليها.

من الحماقة أن تستصغر جهدًا لم تعشه يومًا؛ لأن عقلك المحدود لا يقدر أن يرى النتائج.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • إعلام إسرائيلى: وزير الدفاع الأمريكى يلغى زيارة كانت مقررة لإسرائيل الأسبوع المقبل
  • تولى مسؤولية 7 وزارات.. تفاصيل مثيرة عن حياة بابا الفاتيكان الجديد
  • معاريف تعلق على اغتصاب ميا شيم.. كانت أكثر أمانا لدى حماس
  • نتيجة حرب ترامب على اليمن كانت عكسية
  • تأثير مضاعف لدى النساء.. دراسة: كوبان من القهوة السوداء يوميًا يقيان من السكري
  • المؤثر!
  • بخطوة واحدة.. أسهل طريقة لإزالة بقع الشاي والقهوة من الملابس
  • الفارق أكبر مما تتخيل.. كيف يؤثر لون وشكل كوب القهوة على مذاقها؟
  • دراسة حديثة: القهوة السوداء تُحسّن مقاومة الإنسولين
  • دراسة تؤكد أن القهوة السوداء تقلل مقاومة الإنسولين