النقل: خط النقل الجماعي 29 يستهدف عقد الزخم في مركز بغداد
تاريخ النشر: 30th, May 2024 GMT
الاقتصاد نيوز - بغداد
أكدت الشركة العامة لنقل المسافرين والوفود في وزارة النقل، الخميس، أن خط النقل الجماعي 29 الذي افتتح اليوم يستهدف لأول مرة عقد النقل داخل مركز محافظة بغداد، فيما أشارت إلى، أن "عجلات الستوتة والتك توك" تسبب عائقاً كبيراً لحركة خط النقل الجماعي.
وقال مدير عام الشركة، كريم كاظم حسين، في تصريح أوردته وكالة الأنباء الرسمية، واطلعت عليه "الاقتصاد نيوز"، إن "خط بغداد الجديدة والمعروف برقم 29 افتتح استناداً إلى توجيهات رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني ووزير النقل رزاق محيبس ضمن مشروع النقل الجماعي"، مبيناً، أن "عدد الخطوط التي تم افتتاحها في بغداد والعاملة فعلياً هي 29 خطاً".
وأضاف، أن "مسار الخط 29 يبدأ من بغداد الجديدة ساحة ميسلون ثم جسر الغدير وباتجاه كراج الأمانة ثم باتجاه تقاطع ساحة الواثق ويستمر هذا المسار مروراً بساحة الأندلس، ثم يمر بمجمع الوزارات في باب الشرقي وهي التعليم العالي والتربية والصناعة وينتهي في ساحة الطيران، والعودة مرة أخرى باتجاه هذا المسار".
وبين مدير الشركة العامة لنقل المسافرين، أن "هذا الخط يتميز عن السابقات، كونه للمرة الأولى يستهدف عقد النقل داخل مركز محافظة بغداد"، مؤكداً، "سيتم التركيز في المرحلة المقبلة على هذه النقاط".
وأكد، أن "تسهيل حركة خطوط النقل العام تحتاج إلى تعاون كبير من قبل مديرية المرور العامة وكذلك القوات الأمنية، حيث إن هذه الخطوط غالباً ما تشغلها إعداد كبيرة من (التك توك والستوتة)، التي تسبب عائقاً كبيراً أمام تطبيق النقل الجماعي".
وأوضح، أن "هذا الخط سيخدم بمساره العديد من الجامعات والمراكز الثقافية وكذلك المعاهد المتخصصة بالتربية والتعليم والتدريب، حيث يمر بالجامعة التكنولوجية كذلك يمر بمعهد التطوير والتدريب الإداري، ثم يمر بكلية الإسراء في ساحة الأندلس وبمجمع الوزارات في منطقة ساحة الطيران والباب الشرقي".
المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار النقل الجماعی
إقرأ أيضاً:
من فضاء الحوار إلى ساحة الصراع.. نقد تحليلي لتحوّلات التكنوميديا في تونس
الكتاب: التكنوميديا والرأي العام والسياسة في تونسباللغة الفرنسية نشر سنة 2025 عدد صفحاته 326
الكاتب : الدكتور الصادق الحمامي
الناشر : دار نيرفانا للنشر و التوزيع
تعيش تونس منذ أكثر من عقد تحوّلات عميقة في علاقتها بالإعلام، والسياسة، والمجتمع الرقمي، وسط تذبذب واضح في مسارها الديمقراطي. وفي خضم هذا المشهد، برز كتاب الدكتور الصادق الحمامي "التكنوميديا والرأي العام والسياسة في تونس: من الانتقال إلى الاضطراب" (دار نيرفانا، 2025) كمرجع نوعي يعالج هذه التحولات من منظور أكاديمي معمّق. لا يكتفي الكتاب بتوصيف المرحلة الانتقالية لما بعد الثورة، بل يقدم أطروحة مركزية حول تحوّل الفضاء العمومي التونسي تحت تأثير التكنولوجيا، من دينامية انتقال ديمقراطي إلى حالة اضطراب تتخللها المشهدية، والاستقطاب، والشعبوية، وانهيار وسائط الثقة.
يفتتح الدكتور الصادق الحمامي كتابه بفصل تأسيسي يسلط الضوء على مفهوم "التكنوميديا"، الذي يتجاوز المفهوم التقليدي للتكنولوجيا الإعلامية ليقدم رؤية بنيوية تعيد تشكيل العلاقة بين الإعلام والسياسة والرأي العام في ظل اندماج الوسائط الرقمية والتقليدية. يرى المؤلف أن التكنوميديا لا تمثل مجرد دمج تقني، بل نظامًا اتصاليًا معقدًا يعيد هندسة الفضاء العمومي ويؤسس لبنية جديدة للسلطة والمعنى، حيث تنهار نماذج الاتصال التقليدية المبنية على تسلسل مرسل-رسالة-متلقٍ، ويحل محلها نظام شبكي أفقي يتميز بتشظي الإنتاج الإعلامي وتسارعه، إضافة إلى تراجع دور المؤسسات الوسيطة التقليدية كالصحافة والأحزاب السياسية.
العنصر الأول ـ التكنوميديا من الدمج التقني إلى التفكيك الرمزي
يستعرض الحمامي في هذا الفصل مثالًا بارزًا في السياق التونسي يتمثل في صعود الرئيس قيس سعيّد خلال انتخابات 2019، الذي اعتمد على وسائل رقمية بسيطة مثل فيديوهات فيسبوك المباشرة ولغة سياسية غير نمطية، مما مكنه من اختراق الفضاء العمومي خارج قنوات الوساطة التقليدية والسيطرة الإعلامية. كما يشير إلى ظاهرة الصفحات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تؤثر بشكل مباشر في تشكيل الرأي العام والسياسات، دون أي خضوع فعلي للمساءلة أو التنظيم المؤسساتي.
المنصات الرقمية، لا سيما فيسبوك، غيّرت تمامًا طبيعة تشكّل الرأي العام، حيث تحوّلت من فضاءات للنقاش العقلاني إلى مساحات مفتوحة للغضب والتشهير والتأييد الانفعالي السطحي. لم تعد الحُجّة ولا عمق الطرح عوامل حاسمة في تشكيل المواقف، بل أصبح "الترند" و"اللايك" و"الفضيحة" أكثر تأثيرًا وانتشارًا.يرتبط هذا التحول في المشهد الإعلامي والسياسي التونسي بمفهوم "مجتمع الشبكة" لمانويل كاستيلز، الذي يرى السلطة كقوة تدار عبر تدفقات اتصال شبكية بدلاً من المؤسسات التقليدية، فضلاً عن أطروحات جون تومبسون حول تحول الفضاء العمومي من وسيط شفاف إلى فاعل مباشر في إنتاج الواقع السياسي. وفي السياق التونسي، لعب فقدان الثقة في الوسائط التقليدية بعد الثورة دورًا كبيرًا في تسريع وتيرة تأثير التكنوميديا، حيث صار المواطن يلجأ إلى الفضاء الرقمي مباشرة لتكوين رأيه والتفاعل مع السياسة، وهو ما أسهم في خلق بيئة مناسبة لانتشار السياسات الشعبوية والانفعالية.
العنصر الثاني ـ الديمقراطية المشهدية ـ السياسة كاستعراض وتأثير الصورة على الفكرة
يتناول الدكتور الصادق الحمامي في الفصل الثاني من كتابه ظاهرة "الديمقراطية المشهدية" باعتبارها تحوّلًا جوهريًا في طبيعة العمل السياسي والرأي العام، حيث تسود الصورة والاستعراض على المضامين الفكرية والسياسية. يؤكد المؤلف أن السياسة لم تعد ممارسة قائمة على خطاب معرفي متكامل، بل أصبحت مسرحًا لتشكيل الانطباعات اللحظية والارتجالية، حيث تتنافس الشخصيات السياسية على الفوز بانتشار بصري واسع، أكثر منه على برامج أو أفكار واضحة. ويستند في ذلك إلى ملاحظة واضحة لتجارب تونس في انتخابات 2019، حيث أثّرت الصورة والإطلالات الإعلامية أكثر من الحوار السياسي العميق، وأسهمت في تشكيل توجهات الناخبين على أساس صور ومشاهد أكثر منها على برامج وأفكار.
يستعين الحمامي بمقاربات نظرية عالمية لشرح هذه الظاهرة، من بينها أفكار غي ديبور حول "مجتمع العرض" الذي تحكمه الصور والمشاهد، ونيل بوستمان الذي تحدث عن تحوّل الخطاب السياسي إلى خطاب ترفيهي بصري يخاطب المشاعر أكثر من العقل. يعيد المؤلف ربط هذه المفاهيم بالمشهد التونسي حيث وسائط الإعلام الجديدة تتنافس في خلق فضاء بصري مشبع بالاستعراضات والشخصانية، مع ضعف في الخطاب المؤسساتي أو الحزبي.
في السياق التونسي، يُبرز الحمامي كيف أن التجاذبات السياسية التي أعقبت الثورة ساهمت في تعميق هذه الظاهرة، إذ تحوّلت حملات الانتخابات إلى صراعات للسيطرة على المشهد الإعلامي، بدل التركيز على القضايا المجتمعية أو السياسات الاقتصادية. وساهم ذلك في تغذية الاستقطاب وتفكيك وحدة الرأي العام، وجعل من الإعلام ساحة اشتباك أكثر من كونه فضاء للحوار والتفاهم.
العنصر الثالث ـ الرأي العام الجديد ـ من العقل العمومي إلى الانفعال الجماعي
يركّز الدكتور الصادق الحمامي على تحوّلات الرأي العام التونسي في ظل التكنوميديا، مُبيّنًا أن المفهوم الكلاسيكي للرأي العام باعتباره عقلًا جمعيًا تداوليًا ـ كما صاغه يورغن هابرماس ـ لم يعد صالحًا لفهم ما يحدث اليوم. فالتطور التكنولوجي وتحوّل شبكات التواصل الاجتماعي إلى مصادر رئيسة للمعلومة والتعبير، جعل من الرأي العام كيانًا انفعاليًا، متقلبًا، هشًا، وسريع التأثر بالموجات العاطفية التي تصنعها الخوارزميات ومنطق التفاعل اللحظي.
يرى الحمامي أن المنصات الرقمية، لا سيما فيسبوك، غيّرت تمامًا طبيعة تشكّل الرأي العام، حيث تحوّلت من فضاءات للنقاش العقلاني إلى مساحات مفتوحة للغضب والتشهير والتأييد الانفعالي السطحي. لم تعد الحُجّة ولا عمق الطرح عوامل حاسمة في تشكيل المواقف، بل أصبح "الترند" و"اللايك" و"الفضيحة" أكثر تأثيرًا وانتشارًا. ويستشهد المؤلف بتقارير من "نواة" و"مراقبون" تُبرز كيف يُعاد تشكيل المعلومة وتوزيعها عبر المنصات الرقمية دون تحقق ولا مساءلة، مما يخلق رأيًا عامًا سريع الاشتعال، ضعيف التماسك، وعالي القابلية للتوظيف السياسي.
يقوم المؤلف بربط هذا التحليل بمفاهيم من أدبيات الإعلام السياسي والنظرية الديمقراطية. فيستدعي فكرة فقاعات الترشيح التي صاغها إيلي باريزر (Eli Pariser)، والتي تشير إلى أن المستخدم يتلقى المعلومات التي تؤكد آراءه فقط، بفضل خوارزميات مصممة لتكريس الانعزال الأيديولوجي. كما يُحيل إلى أطروحة شانتال موف حول "السياسة العاطفية"، حيث الانفعال يغلب العقل في تحديد المواقف، وخاصة في الأنظمة الديمقراطية الهشة التي لم تترسّخ فيها تقاليد الحوار المدني.
تُظهر التجربة التونسية هذه التحولات بوضوح، حيث يُسهم ضعف التثقيف الإعلامي والمواطنة الرقمية في إنتاج رأي عام متقلب، تحكمه العناوين الصادمة، وسلوك القطيع، والاندفاع نحو التفاعل قبل التفكير. وتتجلى هذه الظاهرة في حملات التشويه والتأييد الفجائي، كما في موجات التضامن الافتراضي التي لا تلبث أن تنطفئ دون أثر فعلي. يلاحظ الحمامي أن هذا الرأي العام الجديد ـ وقد تخلّت الدولة عن دورها التربوي والإعلامي ـ أصبح مادة سهلة التلاعب من قبل الفاعلين السياسيين والصفحات الممولة.
العنصر الرابع ـ أزمة الإعلام ـ التمويل وانهيار النماذج التقليدية
يتناول المؤلف واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه الإعلام التونسي بعد الثورة، وهي أزمة التمويل وما ترتب عنها من اهتزازات هيكلية ومهنية. يحلّل المؤلف هذا الانهيار بوصفه نتيجة مباشرة لتحوّل البيئة الإعلامية في ظل التكنوميديا، حيث تفككت أنماط التمويل التقليدية (الإعلانات، المبيعات الورقية، الدعم العمومي) دون أن تُعوضها نماذج جديدة مستدامة، مما جعل وسائل الإعلام التونسية ـ وخصوصًا الخاصة ـ رهينة لمنطق السوق أو لأجندات المال السياسي.
يركّز الحمامي على التحوّل الحاد في تمويل الإعلام بعد 2011، مشيرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من وسائل الإعلام الناشئة آنذاك اعتمد على تمويلات خارجية أو علاقات زبونية مع رجال أعمال يبحثون عن نفوذ سياسي. ويقدّم مثال قناة محلية بوصفها نموذجًا على هذا الارتباط بين التمويل والوظيفة الدعائية، حيث تحوّلت من قناة ترفيهية إلى منبر سياسي موالٍ لشخصيات بعينها، مستفيدة من هشاشة القوانين، وغياب الشفافية، وضعف الرقابة.
ويلاحظ الكاتب أن الأزمة لا تقتصر على التمويل، بل تمتد إلى نموذج الإنتاج الإعلامي نفسه، الذي فقد استقلاليته وهيبته. فمع تراجع الدور المركزي للمؤسسات العمومية، وغياب سياسات وطنية لدعم الإعلام الجاد، أصبحت المشاهد تُهيمن عليه المضامين التجارية، والعناوين المضللة، والبرامج القائمة على الإثارة والانفعال، وهو ما أفرغ الفضاء الإعلامي من بعده التنويري والتعددي.
على المستوى النظري، يُقارب الحمامي هذه الأزمة من خلال أدبيات الإعلام النقدي، متقاطعًا مع أطروحات روبرت ماكشيسني حول انحراف الإعلام في ظل الليبرالية المتوحشة، ومع تحليل نعومي كلاين الذي يكشف كيف تتحوّل الأزمات إلى فرص للتمركز الاحتكاري والإعلام الدعائي. كما يستحضر المقاربة السوسيولوجية لبورديو في فهم العلاقة بين رأس المال الرمزي ورأس المال الاقتصادي داخل الحقل الإعلامي.
وفي السياق التونسي، يُبرز الكاتب أن هذه الأزمة البنيوية لا يمكن عزلها عن هشاشة الانتقال السياسي، وضعف الدولة، وغياب الرؤية الاستراتيجية في التعامل مع قطاع الإعلام، الذي بقي رهينًا لتجاذبات السياسة وموازين القوى، بدل أن يُنظر إليه كرافعة أساسية في بناء المواطنة والديمقراطية.
العنصر الخامس ـ تفكك الوساطة ـ من المؤسسات إلى الأفراد
يعالج الدكتور الصادق الحمامي أحد أبرز تجليات التحول التكنوميدي في تونس، والمتمثل في تفكك بنية الوساطة التقليدية وصعود أنماط جديدة من التأثير الرمزي المباشر، تتجاوز الأحزاب السياسية والنقابات والمؤسسات الإعلامية الكلاسيكية، لتحلّ محلها وسائط فردية رقمية، أبرزها المؤثرون و”المواطنون الصحفيون” وصفحات الفيسبوك.
مع تراجع الدور المركزي للمؤسسات العمومية، وغياب سياسات وطنية لدعم الإعلام الجاد، أصبحت المشاهد تُهيمن عليه المضامين التجارية، والعناوين المضللة، والبرامج القائمة على الإثارة والانفعال، وهو ما أفرغ الفضاء الإعلامي من بعده التنويري والتعددي.يفكّك الكاتب هذا التحول بوصفه عرضًا لازدياد هشاشة البنية المؤسسية في المشهد التونسي بعد الثورة، ويبيّن كيف فقدت الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني تدريجيًا مكانتها كوسائط ضرورية بين المواطن والنظام السياسي، نتيجة لانعدام الثقة، والتكلس التنظيمي، وعدم قدرتها على التفاعل مع منطق العصر الشبكي السريع. ويقدم الحمامي أمثلة على ذلك من خلال تراجع دور الإعلام الحزبي أو النقابي، مقابل بروز صفحات مثل "أنا يقظ" و"حركة فداء"، التي فرضت نفسها كأقطاب مؤثرة في تشكيل الرأي العام رغم طابعها غير المؤسساتي، بل وغير المهني أحيانًا.
هذا التحول يرتبط نظريًا بمفهوم "الحداثة السائلة" لدى زيغمونت باومان، حيث تنهار الهياكل الوسيطة المستقرة وتحلّ محلها علاقات مؤقتة، فردانية، وهشة. كما يلتقي التحليل مع أعمال مانويل كاستيلز التي ترى في الشبكات الرقمية آليات تعيد توزيع السلطة والتأثير خارج القنوات التقليدية. وبهذا المعنى، فإن ما يرصده الحمامي ليس مجرد أزمة مؤسساتية، بل تحوّلًا في طبيعة الوساطة ذاتها، من وسيط جماعي منظم إلى تفاعلات مباشرة، متقلبة، غير خاضعة لأي شكل من أشكال الحوكمة.
على الصعيد المحلي، يعكس هذا التحول فشل الطبقة السياسية في تجديد أدواتها التواصلية واستيعاب منطق التكنوميديا، مما فسح المجال أمام فاعلين جدد – غير خاضعين لأي شكل من الرقابة أو التكوين – ليحتكروا منصات التعبير والتأثير. ويشير المؤلف ضمناً إلى أن هذا الفراغ سمح بانتشار الشعبوية الرقمية، وتكريس خطاب التشكيك في الديمقراطية التمثيلية، بل والدفع نحو نوع من الاستبداد المُعزّز رقمياً، حيث تُمكِّن المنصات بعض القادة من تجاوز كل أشكال الوساطة.
ورغم وجاهة الطرح، يلاحظ أن المؤلف لم يتعمّق في تحليل بعض التجارب التونسية البديلة التي حاولت تقديم وساطة جديدة تجمع بين التشاركية والمهنية، مثل مبادرات الصحافة المجتمعية أو المنصات الشبابية المستقلة. كما أن التحليل بقي في مستوى نقد البنية دون اقتراح آليات لاستعادة الثقة أو إعادة بناء وساطة قادرة على التكيف مع المنظومة الرقمية دون التفريط في القيم الديمقراطية.
ومع ذلك، فإن قوة هذا الفصل تكمن في كشفه عن تحول عميق يمسّ جوهر النظام الديمقراطي نفسه، فحين تنهار الوساطة، تنهار القدرة على إنتاج توافق عام، ويغدو المجتمع معرضًا للفوضى الرمزية والتجاذب الدائم، وهو ما يجعل من هذا التحليل مدخلًا حيويًا لإعادة التفكير في شروط استعادة الفعل الجماعي والمشاركة السياسية الواعية في زمن الشبكات المفتوحة.
العنصر السادس: خطاب الكراهية والاستقطاب الرقمي ـ سيولة المنصات وهشاشة المجال العام
يُخصّص الكاتب الفصول الاخيرة من الكتاب لتحليل ظاهرة خطاب الكراهية والاستقطاب الرقمي في الفضاء العمومي التونسي، بوصفها إحدى أخطر النتائج المترتبة عن التكنوميديا، ليس فقط على الإعلام، بل على البناء الديمقراطي نفسه. يذهب المؤلف إلى أن البيئة الرقمية، من خلال بنيتها التقنية القائمة على التحفيز العاطفي (الخوارزميات، آليات الانتشار، التفاعل اللحظي)، أصبحت تخلق ظروفًا مثالية لانتشار خطاب الانقسام والتحريض والإقصاء، الذي لا يُنتج نقاشًا عموميًا بل يُعمّق الانغلاق والعداء المتبادل.
يستند الحمامي في تحليله إلى عدد من التقارير النوعية، أبرزها ما أوردته منظمة Access Now، وتقارير منظمة "مراسلون بلا حدود"، بالإضافة إلى ملاحظات تحليلية من مواقع تونسية مثل “نواة”، تُظهر كيف أصبح العنف اللفظي، والوصم، والتشهير، أدوات سياسية يومية في المنصات الاجتماعية، في غياب آليات فعالة للمراقبة أو الردع، سواء من قبل الدولة أو من داخل المنصات نفسها. ويُبرز المؤلف أن غياب الإطار القانوني المناسب، وهشاشة الهيئات التنظيمية، وتواطؤ بعض الإعلاميين والمنصات، كلها عوامل ضاعفت من خطورة هذه الظاهرة.
نظريًا، يتقاطع هذا التحليل مع ما طوّره باحثون مثل Shoshana Zuboff حول "رأسمالية المراقبة"، حيث تُنتج المنصات محتوى مثيرًا للانقسام من أجل رفع مؤشرات التفاعل وجذب المعلنين، وكذلك مع أعمال Cass Sunstein الذي حذّر من أثر "الفلترة الذاتية" التي تعزز الانغلاق الفكري داخل المجموعات. ويقدّم الحمامي قراءة دقيقة لطريقة اشتغال المنصات، حيث المكافأة تكون لمحتوى الإثارة والاتهام، لا للجدال المتزن.
أما في السياق التونسي، فإن هذا التحليل يأخذ بعدًا أكثر خطورة نظرًا إلى هشاشة البناء الديمقراطي، وتآكل الثقة في النخب السياسية، وضعف التربية الرقمية. وهو ما جعل من المنصات بيئةً لتفجير النزاعات بدل تفكيكها، ولتغذية الانقسام بدل رأب الصدع. في هذا المناخ، أصبح الخطاب الكاره والمحرّض يُنتج رأيًا عامًا متوحشًا، هشًّا، وسهل التوجيه، تارةً ضد الأحزاب، وتارةً ضد الإعلام، وأحيانًا ضد المهاجرين أو النساء أو فئات اجتماعية بعينها.
غير أن المؤلف، رغم رصده الدقيق لهذه الديناميكيات، لا يُقدّم اقتراحات عملية واضحة للحد من هذه الظاهرة، كما أنه لا يتوقف كثيرًا عند مبادرات من المجتمع المدني أو الإعلام المستقل التي تسعى لمقاومة هذا الخطاب، مثل حملات التوعية الرقمية أو المشاريع التعليمية المتعلقة بالأمن الرقمي والمواطنة الرقمية. كما يُمكن أن يُعاب على التحليل اعتمادُه المفرط على التوصيف دون إجراء تتبع ميداني تفصيلي لحالات أو شبكات تحريض معينة، وهو ما كان من شأنه أن يمنح هذا المحور عمقًا إضافيًا.
ومع ذلك، فإن أهمية هذه الفصول تتجلّى في كونها تُبرز بوضوح كيف أن التكنوميديا، بدل أن تُقرّب المواطن من المعلومة والنقاش الحر، أصبحت وسيلة لتأجيج العنف الرمزي والانقسام السياسي، بشكل يُهدّد إمكانية بناء رأي عام عقلاني ومستقر. وهو ما يجعل من هذه المساهمة تحذيرًا علميًا من خطر زحف الشعبوية الرقمية على ما تبقّى من الفضاء العمومي.
القسم النقدي: بين التأسيس النظري والحدود التطبيقية
أولًا ـ مواطن القوة
يتميّز كتاب الدكتور الصادق الحمامي بجملة من العناصر القوية التي تجعله مرجعًا تأسيسيًا في حقل دراسات الإعلام الرقمي والفضاء العمومي في السياق التونسي والعربي.
العمق المفاهيمي والتأسيس النظري
يُقدّم الكاتب مفهوم "التكنوميديا" بوصفه مدخلًا جديدًا لفهم التحولات التكنولوجية والسياسية، وهو مفهوم يتميز بالأصالة ويختلف عن التناول التقني أو الصحفي المعتاد. وقد نجح في ربط هذا المفهوم بنماذج كبرى في علوم الاتصال، مثل "مجتمع الشبكة" لمانويل كاستيلز، و"مجتمع المشهد" لغي ديبور، و"فقاعات الترشيح" لباريزر.
الارتكاز على السياق التونسي دون الوقوع في المحليّة الضيقة
إحدى أبرز نقاط قوة الكتاب هي قدرته على قراءة الحالة التونسية لا كخصوصية منغلقة، بل كبنية تعكس تحولات عالمية، مثل تآكل الوساطة، هيمنة الصورة، صعود الرأي العام الانفعالي، وتحول الإعلام إلى جهاز للفرجة والصراع الرمزي.
الكتابة العلمية الرصينة ولغة التحليل الهادئ
اللغة التي يعتمدها الحمامي تجمع بين الدقة التحليلية والوضوح، دون الوقوع في الإبهام المفاهيمي أو التقريرية الصحفية. كما تميّزت الفصول بنسق منهجي متماسك، يتدرج من التأسيس النظري إلى تفكيك التجليات التونسية.
الانخراط في نقد المنظومة الإعلامية دون شعبوية أو تصفية حسابات
رغم جرأة الطرح، ظل المؤلف منضبطًا في النقد، متجنبًا الوقوع في التعميمات السهلة أو الخطابات العدائية التي تُميز أحيانًا الكتابات ذات الخلفية الإيديولوجية.
الإلمام بتفاصيل المشهد الإعلامي والسياسي التونسي
يظهر جليًا أن المؤلف متابع دقيق للحقل الإعلامي التونسي، بما في ذلك تطوراته بعد الثورة، والقوانين المنظمة له، والتجارب الجديدة في الصحافة الرقمية، وهو ما يمنح الكتاب مصداقية معرفية عالية.
لكن رغم القيمة الكبيرة للكتاب، إلا أنه لا يخلو في تقديرنا من مواطن ضعف أو قصور، ويمكن أن نجملها بشكل موجز في:
ـ ضعف الاشتغال الميداني والاعتماد المفرط على الوصف النظري.
ـ يفتقر الكتاب إلى دراسات حالة كمية أو نوعية دقيقة تدعم أطروحاته؛ كأن يستعرض سلوك جمهور معين، أو آليات تفاعلهم مع منصات محددة، أو تحليل شبكات التأثير.
ـ غياب المقارنات الدولية في المحاور التطبيقية
يُقدّم الكاتب مفهوم "التكنوميديا" بوصفه مدخلًا جديدًا لفهم التحولات التكنولوجية والسياسية، وهو مفهوم يتميز بالأصالة ويختلف عن التناول التقني أو الصحفي المعتاد. وقد نجح في ربط هذا المفهوم بنماذج كبرى في علوم الاتصال، مثل "مجتمع الشبكة" لمانويل كاستيلز، و"مجتمع المشهد" لغي ديبور، و"فقاعات الترشيح" لباريزر.ورغم أن المرجعيات النظرية العالمية حاضرة، فإن المقارنة مع تجارب شبيهة (في بلدان الجنوب مثل البرازيل أو الفلبين، أو بلدان الشمال مثل فرنسا والولايات المتحدة) تبقى خافتة. كان يمكن لمثل هذه المقارنات أن تُخرج التحليل من "المثال التونسي" إلى "النموذج التكنوميدي في الديمقراطيات الهشة".
ـ ضعف الانخراط في تحليل المبادرات المضادة
ركّز الكتاب على المظاهر السلبية (الاستقطاب، خطاب الكراهية، التبعية التمويلية...)، لكنه لم يتوسع في رصد أشكال المقاومة داخل الفضاء الرقمي، مثل الصحافة التشاركية، الإعلام التربوي، أو منصات المواطنة الرقمية، التي تمثل إمكانيات لتجاوز الأزمة.
ـ قصور في تقديم اقتراحات للمعالجة أو الإصلاح
يطرح الكتاب أسئلة جريئة، لكنه يتوقف غالبًا عند التوصيف دون اقتراح حلول عملية أو خريطة طريق للمستقبل. هل يمكن تنظيم المنصات الرقمية؟ كيف يُستعاد الفضاء العمومي؟ ما دور الدولة والمجتمع المدني؟ تبقى هذه الأسئلة مطروحة بلا أجوبة حاسمة.
خاتمة نقدية ـ كتاب تأسيسي في حاجة إلى تطوير تفاعلي
يمثل كتاب "التكنوميديا والرأي العام والسياسة في تونس" مساهمة نوعية في مسار تأصيل خطاب علمي نقدي حول الإعلام والفضاء العمومي في العالم العربي. هو كتاب يؤسس، يُفكك، ويعيد ترتيب العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة والرأي العام، متجاوزًا الأوصاف السطحية أو التغطيات الصحفية. لكن في الوقت نفسه، يكشف عن حاجة ملحة إلى تطوير أدوات البحث في هذا الحقل، عبر إدماج العمل الميداني، والمقارنة الدولية، وتحليل الفاعلين الجدد في المجال الرقمي.
في زمن أصبحت فيه الصحافة التونسية مختزلة في منطق "التناحر" وبيع الإثارة، ووسط مؤسسات تعاني من التهميش والإفلاس الرمزي والمادي، يكتسب هذا الكتاب أهميته بوصفه مرآة معرفية دقيقة، تكشف كيف تحوّل الإعلام من وسيلة لبناء المواطن الديمقراطي إلى أداة في إنتاج الانقسام الرمزي. لكن هذه المرآة، رغم دقتها، ما تزال بحاجة إلى "عدسة نقدية مزدوجة": تنظر في الواقع، وتبحث أيضًا في إمكانات تجاوزه.