لا تزال الجغرافيا تعطينا الدرس تلو الدرس وتنبهنا إلى خطورة عالم المفاهيم الجغرافية. كان أستاذنا الدكتور حامد ربيع وأستاذتنا منى أبو الفضل يحذران من استخدام تلك المفاهيم الجغرافية وتناقلها في خطاباتنا والتي تحمل في جوفها تسميما وغزوا معنويا، وهي للأسف الشديد مسكونة بقابليات التطبيع الناشئ عن استخدام هذه المفاهيم من دون وعي استراتيجي يمثله عالم المفاهيم؛ ذلك أن مفهوم "الشرق الأوسط" بكل تنوعاته قديما أم جديدا، ضيقا أم موسعا، كبيرا أم صغيرا، فإنما يشكل معنى جغرافيا غربيا يؤسس لمركزية غربية إبان الحقبة الكولونيالية وما بعدها، والتي يشكل عنوانها "الغلبة والهيمنة" وتشكل أحوالها "التبعية وحال التجزئة والفرقة والتفرقة".



مفهوم الشرق الأوسط كمفهوم جغرافي واصف للمنطقة يُدخل الكيان الصهيوني (إسرائيل) من أوسع الأبواب، بل قد يكون في سياق اعتباره أداة وظيفية، تشكل الهيمنة بالوكالة حينما ليس فقط تتلاقى المصالح الغربية مع الصهيوني، بل تجعل من المصالح الصهيونية قسيما للمصالح الغربية.

إن مفهومي العالمين العربي والإسلامي يُخرجان الكيان الصهيوني من حياضهما، ولكن مفهوم الشرق الأوسط أحد المفاهيم الجغرافية القابلة لتسكين إسرائيل فيه؛ ترتع في ساحاته ومساحاته كيف شاءت، ورغم أن البعض يرى في الجغرافيا ودلالاتها أمرا محايدا؛ إلا أن التعاطي معها على هذا النحو قد يحمل تحيزات خطيرة وعلى رأسها مفهوم الشرق الأوسط.

أما المفهوم الآخر الذي أُطلق كمفهوم جغرافي والذي يساند ويدعم منظومات التفكير والتدبير في المنطقة، وفق أهداف مسمومة ومشبوهة، وغايات زائفة وخبيثة، فيكمن في تعبير "دول الطوق"؛ طوق على من؟ هل دول الطوق شكلت بالفعل وفي الواقع طوقا على عمل المقاومة الفلسطينية وأهدافها التحريرية والخوف من خياراتها على الأنظمة الرسمية الصانعة لكل خذلان والمنتجة لكل ضعف وهوان، ونظم رسمية ترتعد من كلمات المقاومة والانتفاضة ومقاصدها في الحرية والتحرير؟ أم هو طوق من ناحية أخرى لحماية وأمان وتأمين للعدو الصهيوني ووجوده ضمن وظيفة هذه الأنظمة لحراسة الحدود في سياقات اتفاقاتها التطبيعية المعلن منها والمخفي؛ الظاهر منها والمستور؟

تأمين للعدو من شعوب عربية لا تعترف بالكيان، ونظم عربية تجعل من أمن إسرائيل جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي العربي أو المصري.. من تحمي إذن دول الطوق المزعومة؟ إن اعترافنا بالعدو والتطبيع معه يجعل من دول الطوق المطبعة رسميا أو بصورة غير رسمية طوقا حاميا للكيان الصهيوني، وسواء أكانت دول الطوق تحاصر غزة والمقاومة أو تؤمّن الكيان الصهيوني؛ فإن الأمر يجعلنا نرفض استخدام هذا المصطلح البغيض؛ وكان أولى بتلك الدول ونظمها الرسمية أن تحتضن فعل وخيار المقاومة احتضان الرحم الحضاري لأغلى أولاده المتمثل في المقاومة.

أين هذا من مفهوم دول الرعاية الجغرافية التي تتمثل مفهوم الجوار الحضاري أو دول "الرحم الحضاري الخاصة" للمقاومة وخياراتها المصيرية بين الشرق الأوسط المنتج لكل معاجم الضعف والهوان والخذلان، والأمة "الوسط" الحافزة لقواميس العزة والكرامة والمجاهدة والمقاومة؟ هكذا يكون الخيار الجغرافي الحقيقي، المسكون بالمنظومة العقدية الدافعة الرافعة.

درس الجغرافيا والتطبيع قد يقترن بما يسمى "التقنية الجغرافية" وحرب الخرائط وطمس الذاكرة.. سلمان أبو ستة وجهده في الأطلس الفلسطيني؛ والذي يتتبع سياسات الكيان الصهيوني في طمس الذاكرة ووأد حق العودة؛ وجهود الصهاينة المتراكمة ضمن سياسات الصهاينة على الأرض (التهويد)!

مسائل عدة تمثل الإشكال الجغرافي والتطبيع الصهيوني للدولة الإسرائيلية الناشئة، وحق العودة من المعلوم بالضرورة في القضية الفلسطينية؛ وصعود ما يمكن تسميته بالجغرافيا النقدية والحالة "الكولونيالية" والاحتلالية والاستيطانية؛ من الجغرافيا التقنية إلى الجغرافيا النقدية؛ والمقاومة بالجغرافيا؛

حراس الذاكرة وما يمثله "سلمان أبو ستة" كنموذج في هذا المقام؛ يربطون معركة الذاكرة بحق العودة؛ من الجغرافيا التقنية حبيسة "الوصف الجغرافي" و"الأرقام"، إلى جغرافيا الأرض الحقيقية التي تستخدم "البشر" والإنسان.. "نقد الكشوف الجغرافية"، نقد الشعار الغربي "أرض لا صاحب لها" و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ومن ثم فإن التدافع الجغرافي هو من أهم المجالات الأساسية والحقيقية والواقعية التي تتحرك صوب جغرافيا البشر، وبشر الجغرافيا. المسألة لا تتعلق فحسب بالمكان المصمت أو إغفال البشر الحي، وتفاعلاته ضمن إعمار الأرض. إن الاغتصاب والاحتلال والاستيطان مفاهيم جغرافية بحق وفق التعريف "الحمداني" الذي اعتمده جمال حمدان في تصور الجغرافيا.

إن إسرائيل أرادت التعامل مع الجغرافيا ضمن وسائلها التقنية في طمس الحقائق والقيام بالادعاءات الجغرافية الزائفة، من "هيكل سليمان" وما شابه من أساطير وافتراءات، وهو أمر اصطنعوه لينازعوا المسلمين في عالم المقدسات، خاصة فيما يتعلق بهذا التطبيع الجغرافي في سبيل تمكين السردية الصهيونية، فهي لم تكن مجرد كلمات أو شعارات، بل حوّلها الكيان الصهيوني بعملياته المتتابعة في تغيير المعالم وطمس الذاكرة، وطمس الجغرافيا.

ومن هنا، فإن الخطاب الذي يؤكد على المقاومة الجغرافية منذ نشأة إسرائيل المصطنعة والزائفة هو الذي يتحقق ضمن معركة يجب أن نخوضها، هي معركة الذاكرة، وفلسطين والقدس والأقصى هي في قلب تلك المعركة الحضارية والوجودية، وهي أمور تجعل من الوعي الجغرافي متكاملا مع وعي الذاكرة التاريخية (الوعي التاريخي)، وهما أمران لا ينفصلان؛ عروة وثقى لا انفصام لها؛ من التطبيع إلى الترسيم إلى التحالف.. تبدو حلقات التطبيع المتنامية التي تحتل مساحات جغرافية جديدة تحت عناوين التطبيع، لكنها في الحقيقة جملة من الاختلالات الجغرافية المتسعة والمتراكمة، التي تشكل بيئة للكيان الصهيوني بيئة تقبل، بيئة مواتية لتحقيق كل أهدافه في الغصب والاحتلال والعدوان، ويسير درجة بعد درجة إلى توطين القابلية للاحتلال والغصب والعدوان، والانتقال من التطبيع إلى الترسيم، بل والتحالف الخائن مع العدو والتعايش مع ظواهر التصهين الثقافي والحضاري المتصاعدة ضمن مفهوم "الهرولة".

تصور الجغرافيا وعمارة المكان والأرض إنما يربط جوهريا بين المكان والمكانة.. صراع المكانة الزائف وطابور التطبيع الخانع والكاذب؛ إلى حقيقة تدافع المكانة الحقيقية باعتبار الشعوب ورضاها والشرعية واعتبارات الأمة ومرساها على طريق النهوض.

التطبيع بين مسار التغرير ومسار المقاومة والتحرير.. "الجغرافيا السياسية بهذا الاعتبار نعمة لمن عمل بأصول وعيها وسعيها، حركة وتدبرا، مكانة وتمكينا". وهي نقمة حينما يكون إمكانات المكان ومكنونه أكبر بكثير مما يعيشون فيه، ضعفاء فقراء حتى في أنماط التفكير. ومن هنا تتحول الجغرافيا السياسية، من نعمة وجب شكرها بالعمل بشرطها واستحقاقها، إلى ما يمكن تسميته "بانتقام المكان" من أهله ومن أصحابه، الذين يتنازلون عن منافعه ويرهقونه بتنازلاتهم المنقوصة والفاضحة. إن خذلان المكان موجب لنقمته وانتقامه، إنه درس المكان الخالد المتدبر لمعانيه من كونه "موضعا" أو "وضعا" مكانيا جغرافيا إلى كونه "موقعا" بمكنونه البشري، وإرادته، ومكونه الاستراتيجي، واعتباراته.

ودرس الجغرافيا كذلك ليس بعيدا عما يمكن تسميته بالجغرافيا الكونية، إذ تتسع لمناهضة الكيان ودعم تحرير فلسطين في بقاع شتى، إنها جغرافية الإنسان المفطور على حب القيم وتطبيقاتها على كل مكان وزمان وإنسان مهما اختلفت الأحوال والأوطان. حركة فطرية قيمية ترفض كل ما يفعله الإنسان من أن يقوم بانتقائية المعايير التي تفوق عملية الازدواج إلى الكيل بألف مكيال.

إنها المقاومة في ميدان التدافع بين القيم المحررة والقيم المستبعدة، بين قيم الحق والعدل، وقيم الظلم والعدوان والطغيان، إنها ثورة يشهدها الغرب ضمن حساب عسير لمسيرته الحضارية الاستئثارية والطغيانية التي أصابها حال الانكشاف والفضح بصورة لم يسبق لها مثيل، إنها ثورة الحساب لحضارة نصّبت نفسها معلما ومرشدا لتعليم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإذا بها تسقط في الامتحانين بدرجات تضعها في مصاف دول الاستبداد ومساحات الطغيان، وتكشف الكيان العنصري الهادف إلى الإبادة الجماعية ضمن سياسات الاحتلال والاستيطان والعدوان.

المقاومة الافتراضية في جغرافيا افتراضية؛ تُخاض مواجهة جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين وكل المؤمنين بهذه القضية في جغرافيا افتراضية لا تعترف بموازين القوى العسكرية، بل يكفي جهاز كمبيوتر محمول أو هاتف نقال، لنقل ما يجري في اللحظة ذاتها إلى ملايين المتابعين. وما جرى في سنة 2021 في حي الشيخ جرّاح دليل على قدرة أشخاص قليلي العدد على مواجهة دولة مدججة بالسلاح.

وأخيرا، فإننا نعتبر أن الناظم بين هذين الوعيين "الجغرافي" و"التاريخي"، و"الزماني" و"المكاني"، إنما يكمن في أصول الوعي العقدي بالقضية الفلسطينية، وطبيعة الصراع الوجودي المكنون في قلب هذه القضية، فالقدس هي القدس وليست غيرها ولا بديل عنها، كما يؤكد الحكيم البشري (المستشار طارق البشري).

لقد مثّلت عملية "طوفان الأقصى" والجغرافيا السياسية التي صنعتها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ مقاومة التطبيع في الميدان واعتماد خيار المقاومة في الأمة. ومن هنا لا بد أن نفتح الباب واسعا للمقاومة العقدية- التاريخية- الجغرافية، ولا بد لنا من التعرف على ما يمكن تسميته في هذا المقام "الجغرافيا السياسية للتطبيع".

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجغرافيا التطبيع إسرائيل الفلسطينية إسرائيل فلسطين التطبيع الجغرافيا طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة رياضة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجغرافیا السیاسیة الکیان الصهیونی الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

FP: جماعة الإخوان لا تزال غير إرهابية وحظرها سيعزز قمع أنظمة المنطقة

قال مارك لينتش، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن ومدير ‏مشروع عن الشرق الأوسط إن جماعة الإخوان المسلمين ليست "جماعة ‏إرهابية" ولكن حظرها سيعزز القمع في الشرق الأوسط والولايات ‏المتحدة.

وأشار في مقال بمجلة فورين بوليسي إلى الأمر التنفيذي الصادر عن الإدارة الأمريكية ‏في 24 تشرين الثاني/نوفمبر لبدء النظر بتصنيف عدد من  فروع ‏الإخوان كمنظمات إرهابية. ولم يحمل الأمر التنفيذي أي إشارة أو ‏منطق لتبرير التصنيف.

ولا يتعدى الأمر وفق قوله، سوى تصريحات نارية ‏أطلقتها القيادات المصرية والأردنية ضد بعد هجمات 7 ‏تشرين الأول/أكتوبر 2023 ودور ثانوي لعبته الجماعة الإسلامية ‏في لبنان في هجمات الصواريخ ضد إسرائيل. ‏

اظهار ألبوم ليست



وكما يشير التبرير الضعيف الذي قدمته الإدارة، فلا يوجد ببساطة ‏أي دليل جديد موثوق يقترح أن الإخوان هم منظمة إرهابية. ويقول ‏إن محاولة دفع الولايات المتحدة على تصنيف جماعة الإخوان ‏المسلمين منظمة إرهابية هي فكرة سيئة لها تاريخ طويل يعود إلى ‏أحداث 11 أيلول/سبتمبر على الأقل. وقد دفعت بها مرارا ‏جماعات يمينية في الولايات المتحدة، وحلفاء مناهضون للإخوان ‏في الشرق الأوسط، بما في ذلك الإمارات ومصر ‏والاحتلال، ورفضت الفكرة.‏

وكما أدرك الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وغيره، فإن هذا ‏التصنيف لن يكون غير دقيق فحسب، بل سيقوض حقوق الإنسان ‏والديمقراطية في جميع أنحاء الشرق الأوسط‎.‎‏ ومع ذلك، لا تبالي ‏إدارة ترامب بالحقيقة ولا بالديمقراطية، وقد طردت العديد من ‏الكفاءات في الخدمة المدنية كان بمقدورهم تقديم تحليلات مستنيرة‎.‎

ولهذا يقول لينتش أن الإدارة  تستعد الآن لاتخاذ هذه الخطوة في ‏وقت ستتضاءل فيه أهمية الجماعة في المنطقة، وتزداد أضرار ‏الحظر في الداخل الأمريكي. ففي الشرق الأوسط، أمضى حلفاء ‏أمريكا أكثر من عقد من الزمن في إطلاق العنان لقوة أجهزتهم ‏الأمنية غير المقيدة ضد جماعة الإخوان المسلمين وجميع قوى ‏المجتمع المدني أو المعارضة الأخرى.

ونتيجةً لذلك، تضاءلت ‏شعبية جماعة الإخوان المسلمين بشكل كبير، ولم يعد داعموها ‏الإقليميون الرئيسيون، مثل قطر وتركيا، يهتمون بالدفاع عنها كما ‏في السابق. أما في أمريكا، فهناك ما يدعو إلى الخوف من أن ‏تستخدم إدارة ترامب تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة ‏إرهابية كأداة لاستهداف خصومها السياسيين. وستكون النتيجة ‏تصعيدا لحملة قمعٍ خطيرة بالفعل ضد المهاجرين ومنظمات ‏المجتمع المدني ذات الميول اليسارية والمعارضة السياسية ‏الداخلية‎.‎

‏وأشار لينتش إلى أن  جماعة الإخوان المسلمين ظلت ولوقت ‏طويل هدفا لنظريات المؤامرة منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر ‏‏2001، لا سيما بين دوائر اليمين المتطرف التي تهيمن على إدارة ‏ترامب الحالية. لذا، من المهم التمييز بين الخرافات والحقائق‎.‎

‏ وأكد لينتش أنه لا وجود لجماعة الإخوان المسلمين العالمية ‏الموحدة أو "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين"، وهو ما أقر به ‏حتى الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس ترامب، والذي حدد ‏فروعا بعينها للجماعة بدلا من تسمية عالمية شاملة. ‏

وأضاف "ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، ‏وانتشرت بسرعة في المنطقة والعالم. ويشترك كل فرع وطني في ‏التزامات تنظيمية وفكرية عامة، إلا أن كل فرع تطور بناء على ‏الظروف المحلية، ولم يتلق أي منها أوامره من مكتب مركزي في ‏القاهرة أو أوروبا أو أي مكان آخر".

وهناك أوجه تشابه بين ‏هذه الفروع، لكنها لا تخضع لقيادة وسيطرة مركزية. وقد أنكرت ‏جماعات إسلامية رئيسية، مثل حركة النهضة التونسية، انتماءها ‏لجماعة الإخوان، رغم اتباعها استراتيجيات تنظيمية ‏وفكرية مماثلة‎.‎‏ وتشترك فروع الإخوان في مختلف البلدان في ‏مرجعيات فكرية، مثل حسن البنا وسيد قطب، المعاصرة، ‏لكن كل فرع من فروع الجماعة في كل دولة أنتج قادته السياسيين ‏ومرشديه الدينيين. وعلى مستوى المنطقة، سعت فروع الجماعة ‏في أغلب الأحيان إلى تعزيز المجتمعات الدينية وتبني سياسات ‏اجتماعية أكثر محافظة.

وبمقارنات الوضع الأمريكي، يرى لينتش أن الإخوان المسلمين، ‏كانوا قبل ثورات الربيع العربي عام 2011، أقرب في نظرتهم ‏للإنجيليين الأمريكيين أكثر من قربهم لتنظيم القاعدة. فقد كانت ‏حركةً واسعة النطاق، تهدف إلى بناء مجتمع أكثر تدينا من خلال ‏التبشير وتقديم الخدمات الاجتماعية والانخراط في منافسة سياسية ‏شرسة. وقد حافظت معظم منظمات الإخوان على شبكة من ‏الخدمات الاجتماعية والجمعيات الخيرية، وعملت علنا حتى في ‏البلدان التي كانت فيها غير قانونية من الناحية الفنية.

وكانت كوادر ‏الإخوان في الغالب من المهنيين المدنيين من الطبقة المتوسطة ‏وليس من الشباب المهمشين والفقراء الذين انجذبوا نحو الجماعات ‏ الأكثر عنفا أو المنظمات السلفية الأكثر تشددا. وقد ‏شاركت منظمات الإخوان باستمرار في الانتخابات كلما أتيحت لها ‏الفرصة، وفازت باستمرار‎.‎‏

وعندما فازوا، واجه الإخوان اتهامات ‏بأن التزامهم بالديمقراطية كان مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب ‏شخصية: "صوت واحد لكل شخص، مرة واحدة". وسواء كان ‏ذلك عادلا أم لا، لم تمنح الجماعة فرصة لدحض هذا الاتهام. في ‏مصر، فاز الإخوان المسلمون في انتخابات ما بعد عام 2011، ‏لكن أُطيح بهم بانقلاب عسكري قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي ‏عام 2013. وفي تونس، فازت حركة النهضة في انتخابات ما بعد ‏عام 2011، لكن جرمت بعد عقد من الزمن على يد الرئيس ‏الشعبوي العلماني قيس سعيد‎.‎‏

ويرى لينتش أن الطبيعة المعقدة لجماعة الإخوان المسلمين ‏تمظهرت من خلال النقاش السياسي الأمريكي النامي. ففي ‏تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة، ركز ‏النقاد على حماس والعراق، بالإضافة إلى انتماء ‏شخصيات بارزة في تنظيم القاعدة، مثل عبد الله عزام إلى جماعة الإخوان المسلمين.

ومع ذلك يجسد نهج إدارة بوش تجاه جماعة الإخوان المسلمين هذه ‏التناقضات. فقد دعا العديد من المتشددين آنذاك إلى استهداف ‏الجماعة، زاعمين أنها تبدو معتدلة ظاهريا، لكنها في الواقع لا تبعد ‏إلا خطوة عن التطرف.

في المقابل، فضل آخرون، بمن فيهم ‏بعض المحافظين الجدد البارزين، دمج الجماعة ضمن الانفتاحات ‏الديمقراطية، على أمل تهدئة التنظيم وترسيخ الممارسات ‏الديمقراطية في المجتمعات العربية. لهذا السبب، دعم أعضاء ‏بارزون في الإدارة الأمريكية مشاركة جماعة الإخوان المسلمين ‏في الانتخابات المصرية عام 2005، وانضمام حماس إلى ‏الانتخابات الفلسطينية عام 2006.

‏ وأشار الكاتب إلى أن مخاوف محددة في كل دولة إقليمية دعتها ‏إلى تبني هذه الحملة ضد الجماعة. وجاءت حملة السعودية على ‏جماعة الإخوان في إطار هجوم ولي العهد السعودي ‏الأمير محمد بن سلمان الخاطف على سلطة المؤسسة الدينية ‏ في المملكة. وكان التداخل بين الفكر السلفي وسياسات ‏الإخوان المحرك الرئيسي للصحوة السعودية، وهي حركة شعبية ‏متعاطفة مع الجماعة، تضم شخصيات بارزة على مواقع التواصل ‏الاجتماعي مثل سلمان العودة، الذي استغل منصته لانتقاد ‏السياسات السعودية داخليًا وخارجيًا. ويقبع معظم قادتها اليوم في ‏السجون أو في المقابر، رغم عدم وجود أي صلة لهم بالإرهاب‎.‎‏ ‏

وبالمثل، تحرك الأردن ضد جماعة الإخوان المسلمين، التي ‏تحولت من ركيزة أساسية لدعم النظام الملكي إلى معارضته ‏السياسية المنظمة الرئيسية. وفي مواجهة أزمة سياسية داخلية ‏متصاعدة وضغوط متزايدة من داعميها الماليين في الخليج، اتخذ ‏الأردن خطوات غير مسبوقة لتفكيك الجماعة، فدعم قيادة بديلة، ‏وصادر أصولها المالية، وجرمها في نهاية المطاف‎.‎

‎و‎بلغت الحملة الإقليمية ضد جماعة الإخوان المسلمين ذروتها ‏عام 2017 عندما فرضت الإمارات والسعودية حصارا على قطر ‏وطالبتا الدوحة بإنهاء دعمها الإقليمي للجماعة. وامتد الضغط إلى ‏واشنطن، حيث مارست مجموعة من مراكز الأبحاث وشركات ‏العلاقات العامة ضغوطا على إدارة ترامب الأولى لإعلان ‏الإخوان المسلمين منظمة إرهابية.

اظهار ألبوم ليست



وبينما استمتع أنصار ترامب ‏بنظريات المؤامرة المعادية للمسلمين، تصدى لها العقلاء آنذاك‎.‎‏ ‏وعندما تولى الرئيس السابق جو بايدن منصبه عام 2021، أنهت ‏الإمارات والسعودية بهدوء مقاطعة قطر، وأصلحتا العلاقات مع ‏تركيا، وخففتا من حدة الحملة الإقليمية المناهضة للإخوان ‏المسلمين.

لكن الضرر كان قد وقع. فالإخوان المسلمون اليوم ‏ليسوا سوى ظل لما كانوا عليه. في معظم أنحاء المنطقة، جردوا ‏قسرا من الخدمات الاجتماعية والحضور الشعبي اللذين كانا أساس ‏قوتهم السياسية. وتضررت سمعتهم بشدة جراء حملات الدعاية ‏المتواصلة. ونتيجة لذلك، لم تعد تمثل قوة سياسية مهمة على ‏الرغم من أن الأنظمة القلقة بشأن جولة أخرى من الاحتجاجات لا ‏تزال تخشى عودتها للظهور.‏

وقال لينتش بالنسبة لنظريات المؤامرة اليمينية المتطرفة، ‏تشكل جماعة الإخوان هدفا غامضا وغير محدد المعالم، ‏يشمل منظمات إسلامية أمريكية مثل مجلس العلاقات الأمريكية ‏الإسلامية (كير)، ومؤسسات التعليم العالي ومراكز دراسات ‏الشرق الأوسط، ومنظمات غير حكومية، وحتى الطلاب اليهود ‏المتظاهرين ضد الإبادة الجماعية‎.‎‏

وقد يرسي تصنيف ترامب ‏لجماعة الإخوان أساسا قانونيا للتدقيق في تمويل هذه ‏المنظمات وتراخيصها وعضويتها. كما قد يصبح أساسا لمزيد من ‏التدقيق المشدد من قبل وزارة الخارجية الأمريكية لمُقدمي طلبات ‏التأشيرة، فضلا عن مضايقات وترحيل من قِبل إدارة الهجرة ‏والجمارك. وفي النهاية فتصنيف جماعة الإخوان المسلمين لا ‏يتعلق بمواجهة تهديد أمني، بل هو تصعيد آخر نحو الاستبداد في ‏الشرق الأوسط والولايات المتحدة على حد سواء‎.‎

مقالات مشابهة

  • بعد تلقي 1117 طلبًا.. العمل تغلق باب التقديم لبرنامج سفراء العمل
  • هيئة البث الإسرائيلية: المرحلة الثانية من اتفاق غزة لا تزال بعيدة
  • 100 قتيل في حضرموت وتوثيق لجرائم جديدة استهدفت مدنيين على أساس “الهوية الجغرافية”
  • مقتدى الصدر: التطبيع والديانة الإبراهيمية على الأبواب.. المجاهد صار إرهابيا
  • مقاومة الجدار: إقامة 19 مستوطنة جديدة تصعيدٌ خطيرٌ في سباق إبادة الجغرافيا الفلسطينية
  • الصدر: بات التطبيع والديانة الإبراهيمية على الأبواب والفساد سجية والظلم منهجاً
  • “حماس” ترفض مزاعم تقرير العفو الدولية عن ارتكاب المقاومة جرائم في جيش العدو الصهيوني
  • الصحة العالمية: لا صلة بين تلقي اللقاحات والإصابة بالتوحد
  • FP: جماعة الإخوان لا تزال غير إرهابية وحظرها سيعزز قمع أنظمة المنطقة
  • عاجل|المبعوث الأميركي توم براك: الولايات المتحدة لا تزال ترى دورا للجيش التركي على الأرض في غزة