إذا كانت نهاية الحرب الباردة في عامَي 1990 و1991 بمثابة زعم بنهاية التاريخ، وبداية "النظام العالمي الجديد"؛ فإنّ الحرب على غزة هي إعلان نهاية هذا النظام "الجديد" الذي بشّرت به الولايات المتحدة.
كشفت الحرب على الفلسطينيين مأزِق البشرية اليوم التي تعيش فراغًا وفوضى تولّدت أولًا من ازدواجية المعايير التي تأسس عليها هذا النظام الموصوف بالجديد، ومن الصراع والتنافس حول القواعد المعيارية التي يجب أن تحكم هذا النظام.
منذ سقوط جدار برلين عام 1989؛ شهد العالم تحرير الأسواق، وإضفاء الطّابع الليبرالي على الحقوق والسياسة، وانفجار تكنولوجيا المعلومات. هذه الاتجاهات يعزز كل منها الآخر، مما يخلق عالمًا أكثر ترابطًا بشكل عام. كانت الأفكار التي انتشرت في مختلف أنحاء العالم خلال هذا العصر أميركية، أو على الأقل غربية، وكانت مدعومة بالقوة الأميركية.
كان عالمنا – العالم الإسلامي- أو ما أطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد"، ثم تغير إلى "الشرق الأوسط الكبير"، هو الساحة التي ظهرت بها آثار هذه القوة.
تقدر بعض التقديرات عدد المدنيين الذين قُتلوا بشكل مباشر بسبب التدخل العسكري الأميركي، بما لا يقل عن 400 ألف منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001. ويقدر عدد الأشخاص الذين قتلوا بشكل غير مباشر في مناطق حرب ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، بما في ذلك في أفغانستان، وباكستان، والعراق، وسوريا، واليمن، بنحو 3.6 إلى 3.8 ملايين شخص – رغم أنَّ الرقْم الدقيق لا يزال غير معروف. وبذلك يصل العدد الإجمالي المقدّر للوفيات المباشرة وغير المباشرة إلى 4.5 -4.7 ملايين.
هل هناك علاقة بين هذا الحجم من القتلى وما تقوم به إسرائيل في غزة؟
بدأ تحدي القوة العسكرية الأميركية مبكرًا في المنطقة. كانت جذوره إسلامية وطنية، واضطلعت به الفواعل من غير الدول، والمنظمات شبه الحكومية. بدأ في العراق بعد الاحتلال مباشرة عام 2003، وتصاعد في أفغانستان بعد سقوط حكم طالبان عام 2001 – حتى تكلل بالانسحاب الأميركي منها في 2021.
الآن – مع الطوفان – وفي ظل تأييد أميركي فاضح لآلة الإبادة الإسرائيلية المنفلتة من كل معيار قانوني أو إنساني، يمكن إدراج المواجهات مع إسرائيل في هذا السياق: الانتفاضة الأولى (1987-1990)، والانتفاضة الثانية (2000-2005)، ولبنان (2006)، وحروب غزة بما في ذلك في الأعوام: 2008-2009، و2014، و2018-2019، والآن الحرب المستمرّة في الفترة 2023-2024.
أنا بالطبع أدرك حدود ترجمة الانتصارات العسكرية إلى مشاريع سياسية طموحة قادرة على أن تلبّي تطلّعات شعوب المنطقة إلى الحرية والعيش الكريم، ولكن لأوّل مرّة في الحرب على غزة، فإنّ القوة العسكرية الغربية وفي القلب منها الإسرائيلية تمارس فعل الإبادة الجماعية – كما أشارت إليه محكمة العدل الدولية – دون غطاء قيمي أو أخلاقي.
اعتمدت الولايات المتحدة على قوتَيها: الصلبة/العسكرية والناعمة لقيادة نظام عالمي ليبرالي منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الافتراق بين القوتين: الناعمة والصلبة، قد اتسعت حلقاته بما لا يمكن معه ترميمه إلا بجهد وموارد وإرادة لا أظنها تتوفر حتى الآن – خاصة أن هذا الافتراق يجري في سياق أوسع من وجود قوى في الغرب ذاته تسعى إلى تقويض النظام الذي قام عليه الغرب، بالإضافة إلى تحدي الهيمنة المعيارية الأميركية/ الغربية. بعد ثلاثة عقود من انفراد الولايات المتحدة ببناء القواعد، أعادنا صعود الصين وعودة روسيا إلى عصر المنافسة بين القوى العظمى. إن معارضة أميركا واضحة للعيان في المجال الجيوسياسي، والمجال القيمي معًا.
مهددات النظام الليبرالي العربي تواجه الديمقراطيات الغربية جميعًا موجة متصاعدة من الشعبوية غير الليبرالية التي تشكك في الانفتاح والعولمة، والتجارة والهجرة والتنوع. كانت النتيجة أننا نعيش في جميع أنحاء العالم في ظل ركود ديمقراطي، وارتفاع الرسوم الجمركية والحواجز التجارية، وتزايد العداء للهجرة والمهاجرين، والقيود المتزايدة على التكنولوجيا والوصول إلى المعلومات – وحتى الشكوك حول الديمقراطية الليبرالية نفسها.إن صعود الشعبوية في الغرب يضرب جوهر أعظم إنجاز للسياسة والاقتصاد الغربي: إنشاء مجتمعات حرّة، وأسواق حرّة في ظلّ سيادة القانون.
يضاف إلى التحدي المتمثل في دعم النظام الليبرالي على المستوى الدولي؛ التحدي الإضافي المتمثل في الدفاع عن المشروع الليبرالي داخل المجتمعات الغربية ذاتها، والأمران مرتبطان. أكدت الحرب على غزة أن الاتحاد الأوروبي ليس لاعبًا إستراتيجيًا، واستنزف كثيرًا من قوته الناعمة: فمنذ تأسيسه، كان للاتحاد الأوروبي حلم كبير، لكنه لم يتمكن قط من التغلب على انقساماته والعمل كوحدة متماسكة.
مع الطوفان في 7 أكتوبر/تشرين الأول عاد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الظهور على الأجندة الأوروبية، مما كشف عن عدم وجود مواقف موحدة بين الدول الأعضاء وجذب انتقادات كبيرة. إن الاتهامات بالكيل بمكيالين، والتردد في لعب دور أكبر في حل الصراعات، والدعم الفاتر لآليات المساءلة الدولية. الدعم الأوروبي المتضارب والفاتر في كثير من الأحيان للقانون الدولي وآليات المساءلة، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، تجاه إسرائيل أدّى أيضًا إلى مزيد من استنزاف "القوة الناعمة" الأوروبية التي هي في النهاية رصيد غربي.
يعمق الأزمة ما حققه اليمين المتطرف من انتصارات في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أعلنت نتائجها يوم كتابة هذا المقال؛ بما يمكن معه القول بمزيد من الانقسام حول القيم الليبرالية. دور روسيا والصين: تسعى هاتان الدولتان بالإضافة إلى بعض القوى الإقليمية مثل إيران، إلى تعطيل وتقويض النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، ويعتقدون أن القيم الغربية غريبة على مجتمعاتهم وتقوض حكمهم.
يرى فريد زكريا في مقال له في الواشنطن بوست أن "صعود الصين وعودة روسيا يجب أن يُفهما أيضًا على أنهما عملان من أعمال التوازن الثقافي، أي استجابات ليس فقط للهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بل أيضًا لانتشار الليبرالية في جميع أنحاء العالم". يتابع: "وبعد سنوات من العولمة والتكامل، أعرب شي وبوتين -الرئيسان الصيني والروسي- عن قلقهما من انزلاق بلديهما من قبضتهما، ليصبحا أكثر تأثرًا بمجموعة من القيم العالمية مقارنة بالقيم التقليدية".
ليس هدف الصين وروسيا هو المواجهة والتنافس الجيوسياسي مع الغرب فقط؛ ولكن البلدين يستخدمان إحياء المكون الثقافي التقليدي لمزيد من السيطرة والتحكم الداخلي أيضًا، وهي معضلة متصاعدة في النظام الدولي الحالي؛ إذ عادة ما يستخدم الدكتاتوريون في كل مكان الخطابات المتمحورة حول الله والدين والوطن والقومية والنقاء العرقي لتأكيد واستمرار حكمهم، ولمزيد من التحكم والسيطرة على مجتمعاتهم.
تثير روسيا والصين السخط المناهض للغرب في بلدان أخرى – كما يظهر في أفريقيا – مستغلتين ردة الفعل العكسية الموجودة بالفعل؛ ففي العديد من الأماكن، يُنظر إلى مشروع التنوير ــ الذي يشكل النظام الدولي الليبرالي جزءًا بالغ الأهمية منه ــ باعتباره إرثًا من الهيمنة الغربية. الهند وهي من القوى الصاعدة في النظام الدولي بمساندة الغرب والولايات المتحدة للتوازن مع الصين، باتت – وهي القوة العلمانية الديمقراطية تاريخيًا – مختطفةً بخطاب قومي هندوسي بقيادة رئيس الوزراء مودي. صحيح أن الانتخابات الأخيرة التي أعلنت نتائجها من أيام قد أوقفت تقدم حزبه بهاراتيا جاناتا، ولكنه كما يؤكد المحللون، قد تمّ على أرضية مناهضة سياساته الاجتماعية المنحازة للأغنياء، وليس على أرضية مواجهة خطابه الهوياتي الإقصائي.
وهنا قد يكون من المفيد المقارنة مع الكيان الصهيوني الذي انتمى للغرب بحكم القيم المشتركة والمصالح المشتركة معًا. إسرائيل التي روّج لها باعتبارها قلعة الديمقراطية الليبرالية التي يقود اقتصادها التكنولوجيا المتقدمة لم تعد كذلك؛ بل أصبحت:
إسرائيل القومية اليمينية المتطرفة، والمتهمة بالإبادة الجماعية والفصل العنصري، ومطلوب قادتها للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. لا يتعلم ثلث أطفالها تعليمًا مدنيًا حديثًا، بل تعليمًا دينيًا مغلقًا يرفض المتخرج منه الانضمام إلى الجيش. يحكمها رئيس وزراء متهم بالفساد، وقد مكث في منصبه أطول فترة في تاريخها كله.الخلاصة:
يتوزّع العالم على اتجاهات متناقضة، هي: غرب يريد لقيمه الليبرالية أن تتقدم لمناطق أخرى – كما جرى في أوروبا الشرقية – لكنها تشهد تراجعًا داخله، وروسيا والصين الباحثتان عن قيمهما التقليدية لمواجهة الغرب، ولمزيد من التحكم والسيطرة على مجتمعاتهما. وهناك – بين هذا وذاك – دول وحركات – كما برز في الحراك المناهض للحرب على الفلسطينيين – تحاول أن تستعيد بعضًا من أسس النظام الدولي المبني على القواعد، وتدفع بالجديد منها.
فهل يمكن أن يكون ذلك طريقًا ثالثًا بين الاثنين؟
هذا ما يستحقّ أن نخصص له مقالًا جديدًا.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات النظام الدولی الحرب على غزة
إقرأ أيضاً:
إعلام إسرائيلي: العالم يرانا متوحشين وحماس ذكية وتلقننا درسا
تناولت وسائل إعلام إسرائيلية تصاعد الانتقادات الداخلية بشأن تدهور صورة إسرائيل في الخارج خلال الحرب الجارية على قطاع غزة، محذرة من أن الحملة العسكرية أفقدت تل أبيب دعمها الدولي ودفعت عواصم غربية لاعتبارها طرفا متوحشا، مقابل الإشادة بذكاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في توظيف الرواية الإعلامية لصالحها.
وكشفت قناة "12" الإسرائيلية أن مسؤولا سياسيا بارزا في الحكومة حذر في الأيام الأولى بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول من مغبة تجاهل إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، قائلا إن المجاعة المحتملة ستؤدي لانهيار الدعم الدولي بالكامل وتحوّل الغضب الشعبي نحو إسرائيل.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل رفض نيجيريا الاستسلام لترامب يؤشر على تدهور علاقات واشنطن في أفريقيا؟list 2 of 2بلومبيرغ: استخبارات إسرائيل تعود للتركيز على الجواسيس بدل التكنولوجياend of listوفي نص تم الكشف عنه للإعلاميين السياسيين، شدّد المسؤول الإسرائيلي على أن استمرار الحرب مشروط بأمرين: هدف واضح، وإدخال المساعدات الإنسانية، محذّرا من أن مليوني فلسطيني سيحمّلون إسرائيل المسؤولية إن حلّ الجوع، ولن يحاربوا حماس بل سيوجهون غضبهم نحوها.
ووفق مراسل الشؤون السياسية في القناة 12 يارون أبرهام، فإن هذه الإحاطة الصحفية جرت يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مؤكدا أن التصريحات عكست قلقا مبكرا من الانعكاسات السياسية والدبلوماسية لاستمرار الحصار والتجويع دون إستراتيجية واضحة.
وانتقدت مراسلة الشؤون السياسية في موقع "تايمز أوف إسرائيل" تال شنايدر ما وصفته بغياب القيادة الإعلامية الإسرائيلية، معتبرة أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتصرف كما لو كان "سيد الرواية"، بينما الحقيقة أنه فشل في إدارة الرواية الرسمية للدولة أمام المجتمع الدولي.
تآكل الدعموفي السياق ذاته، قال الخبير في الشؤون الأميركية على قناة "i24" عميت ليفنتال إن الوقت لا يعمل لصالح إسرائيل، مشيرا إلى تآكل الدعم لها حتى داخل الولايات المتحدة، بما في ذلك أوساط كانت مؤيدة للرئيس دونالد ترامب، الذي يدرك تراجع التأييد الشعبي لحرب غزة.
إعلانأما المستشارة الإستراتيجية والمحللة السياسية أيليت فريش، فكشفت عن حظر غير معلن على صادرات الصناعات الإسرائيلية، مشيرة إلى أن مصانع محلية تعجز عن تصدير مركبات أو تصنيع مكوّناتها، وسط تقارير عن توقف تصدير السلاح أيضا، معتبرة أن ذلك نتيجة حرب استنزاف بلا هدف.
وأكدت فريش أن الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام العالمية عن غزة تُظهر مجاعة وأطفالا يعانون وسط دمار شامل، معتبرة أن ذلك دفع الرأي العام في أوروبا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة إلى التساؤل عن جدوى الحرب ومآلاتها، وهو ما يُلحق ضررا كبيرا بصورة إسرائيل.
وانضم مقدم البرامج السياسية في قناة 12 حاييم إتغر إلى قائمة المنتقدين، قائلا إن إسرائيل أصبحت "أضحوكة العالم" بسبب تدهور الدبلوماسية الخارجية وسوء الأداء السياسي، مشبّها ما يجري في إسرائيل بالسيرك، في حين تبدو حماس "كأنها تدرّسنا في العلاقات العامة".
وقال إتغر إن حركة حماس أثبتت براعة فائقة في التأثير الإعلامي وتوجيه السردية، بينما تتخبط إسرائيل في عجز تواصلي جعلها تبدو كما لو كانت في بداية الطريق، وحماس في موقع المتفوّق بدرجة الدكتوراه، على حد وصفه.
أخطاء إسرائيلواعتبر المتحدث السابق باسم الشرطة الإسرائيلية إيلي ليفي أن المشكلة لا تكمن فيما تفعله حماس، بل فيما ترتكبه إسرائيل من أخطاء، مؤكدا أن كل الأخطاء الممكنة وقعت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول ولا تزال تتكرر حتى اليوم، دون مراجعة أو تصحيح.
وفي تعليق من داخل الأستوديو على التصعيد، أشارت إحدى المتحدثات إلى أن الصورة المتشكّلة عالميا أصبحت تصور إسرائيل كقوة متوحشة، وأن الخطاب الدولي بات يقول على العالم أن "ينقذ الفلسطينيين من الإسرائيليين المتوحشين".
ورأى رئيس شعبة الاستخبارات والساحة الدولية السابق في جهاز الموساد حاييم تومر أن أوروبا الغربية على وجه الخصوص لن تقبل استمرار مشاهد قصف المدنيين وتجويع الأطفال في غزة، محذرا من عزلة إسرائيل في أهم أسواقها إن واصلت الحرب على هذا النحو.
وأضاف تومر أن التساؤل الجوهري المطروح اليوم هو: هل يستحق "الانتصار المطلق" -الذي لا نعرف ما هو تحديدا- هذا الثمن الباهظ من العزلة الدولية، لا سيما في ظل شكوك متزايدة حول جدوى استمرار العملية العسكرية وأهدافها الحقيقية