كدم.. يعود تشكلها الحضاري إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، نشرتُ عنها عدة بحوث ومقالات، لاهتمامي بها منذ سنوات؛ توثيقًا ودراسةً وبحثًا وتحليلًا، أكتفي هنا بذكر مختصر عنها. فهي حوزة بجوف عمان، تقع غرب الجبل الأخضر تحت السفح الجنوبي من سلسلة الحجر الغربي، يحيط بها سور، نقدره بـ26 كم، ويفصل بينه وبين سور بهلا حوالي 7 كم، بقيت أجزاء من أساساته الحجرية.
حوزة كدم.. متنوعة التضاريس، تنبسط سهولها على مساحات واسعة شكّلت مزارعَها وبساتينَ نخيلها في حقب طويلة. وأما بيوتها فقد تركزت إلى وقت قريب على نتوءات جبلية، وفي زمننا عمَّ العمران معظم الأرض المنبسطة، وبدأ يصعد إلى الجبال المجاورة. ولأن كدم تقع تحت جبال الحجر الغربي؛ فهي تخترقها أودية كبيرة، جافة معظم السنة، وإنما تجري بغزارة الأمطار وتتابعها، ولعلها في العصور السحيقة حتى بداية الاستيطان البشري في المنطقة كانت أنهارًا. وفي كدم ترسو جبال كبيرة، أشهرها «قرن كدم» الذي نسبت إليه الحوزة، وبحسب تتبعنا للمنطقة وآثارها؛ يظهر أن الاستيطان ابتدأ على قمم الجبال تجنبًا لمجاري الأودية الجارفة، بيد أنه لم ينقطع على الجبال. ومن القرى الجبلية المجاورة لكدم التي ما زالت شواهدها قائمة؛ قرية حجرية على جبل بمدخل وادي النخر في الحمراء، تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، ومسفاة العبريين؛ وهي متواصلة العمران إلى اليوم.
لقد جُبنا كل كدم، واستكشفنا معظم جبالها، ووقفنا على العديد من مستوطناتها، وحددنا جوانب من طبيعة آثارها، وتوخينا معرفة بعض حقبها، ووثّقنا إحداثيًّا كثيرًا من معالمها بآلاف الصور. المقال.. يسلط الضوء على الاستيطان الجبلي. يوجد ثلاثة أنواع من الاستيطان الجبلي: الجزر الجبلية والقرى الجبلية والمستوطنات الجبلية:
- الجزر الجبلية.. ليست جزرًا مائية، وإن كنت لا أستبعد أن تكون كذلك في الأزمنة المطيرة، لكونها نتوءات جبلية في الأودية، وهي متوسطة المساحة قليلة الارتفاع. استوطنها الإنسان القديم، وترك آثاره عليها. هذه الجزر بعضها قديم جدًا، وبعضها هُجِر متأخرًا نسبيًّا، وبحسب الشواهد التي وقفنا عليها؛ فلعلها هجرت قبل الإسلام، لأن في صخورها رسمات حيوانية وأحرف مسندية، لكننا لم نجد فيها كتابات بـ«الحرف العربي المتأخر» الذي دخل عمان قبيل الإسلام.
- القرى الجبلية.. هي البلدان التي في الجبال وبين شعابها، وقد تكون في بداية نشأتها تجمعات بشرية قليلة العدد، وبمرور الزمن ازداد سكانها واتسع عمرانها، وغالبًا تسمى في عمان «المسافي» مفردها «مسفاة»، وهي منتشرة فيها، ولا توجد قرى جبلية بهذا المعنى باقية في حوزة كدم المسوّرة، وإنما أعلى منها في الجبل تقع «مسفاة العبريين».
- المستوطنات الجبلية.. الأماكن التي استوطنها الإنسان على الجبال وسفوحها، وهي قديمة جدًا، قد تكون هي الأصل في العمران، ومنها تواصل على سفوح الجبال الصغيرة مكونًا بلدان كدم كالقلعة والعارض وبلاد سيت.. بل مدينة الحمراء التي نشأت متأخرة عام 1066هـ أقيمت على سفح الجبل الأشم الذي يقطع المنطقة من سلسلة الحجر الغربي، لكن المستوطنات الجبلية القديمة أهلكتها الآماد، ولم يبق منها إلا أطلالها وشواحب من عمرانها.
هذه المستوطنات منتشرة في جبال كدم؛ ومن أنواعها:
- المدرجات الزراعية.. ربما ظهرت بشكل بدائي مع ظهور الزراعة في كدم. ثم تطورت بمرور الأزمان، ولها شواهد كثيرة في عمان؛ أشهرها مدرجات الجبل الأخضر، وبما أن جبال كدم ليست شاهقةً، وصغيرةُ الحجم مقارنة بالجبل الأخضر، فقد هجر الناس عمل المدرجات، ثم اندثرت، ولم يبقَ منها إلا ملامح شاحبة، يتعرف عليها من لازم البحث في هذه الجبال.
- الكهوف.. وهي كثيرة بأشكال مختلفة، ومعظمها ليس واسعًا ولا غائرًا، إلا أنه يوجد منها الغائر مثل «كهوف تقديم الأضاحي» بـ«معبد ني صلت». وبعض الكهوف توجد بها رسمات بشرية. وهي ذات استعمالات غير معروفة بالضبط حتى الآن، وإن كنا نقدّر بعضها للعبادة، والآخر للاستعمال اليومي.
- قرى ما قبل الفخار.. وهي عديدة، لم يبقَ منها إلا ركام الحجارة المتوزعة في المكان، ولكن وجدنا في بعضها آثار أساسات مبانٍ؛ منها ما يمتد بشكل مربع، والآخر بشكل مستدير. ووصفتها بـ«ما قبل الفخار»؛ لأننا لم نعثر فيها على قطع فخارية، وهذا يعني أنها قد تعود إلى ما قبل الألفية السادسة قبل الميلاد، وهو التأريخ الأقدم لظهور الفخار في عمان.
- قرى ما قبل الرسم على الحجارة.. لا نعرف بالضبط متى بدأ الرسم الصخري في عمان، ما زالت الدراسات شحيحة حوله، لذا؛ لا نستطيع أن نحدد تأريخ هذا النوع من القرى بالضبط. بيد أن ما لاحظناه هو قلة الرسم في المستوطنات الجبلية، التي بها رسم توجد فيها كذلك قطع فخارية، وهذا يشي بأن الرسم ليس أقدم من الفخار في كدم.
- قرى ما بعد الميلاد.. وهي مع قلتها أوفر حظًا في بقاء معالمها، فأساساتها الحجرية باقية. من هذه القرى ما يوجد في المحمود بجنوب كدم، والمحمود.. منطقة غنية بالآثار التي بها رسمات، ولأنها رسمات بشرية وحيوانية، فغالبا؛ أنها مستوطنات لا تنتمي للعهد الإسلامي، لكنها لا ترتفع كثيرًا عن الميلاد، لوجود النقوش المسندية فيها، وهذا النوع من النقوش انتشر في كدم غالبًا ما بين الميلاد والإسلام.
- القرى الإسلامية.. وأقصد التي وجدت بالجبال في العهد الإسلامي الأول ثم هجرت. ليس بها كتابات أو رسمات، وإنما بها مقابر إسلامية، ولذا؛ اعتبرتُها قرى إسلامية، وكثير من جدرها الحجرية باقية، ومرافق العديد منها يمكن ملاحظته، وإن لم نتمكن من معرفة استعمالاته. وأبرز مثال عليها القرية التي تشرف على وادي الخور عند الطريق المؤدي إلى بلدة العارض، وهي آخذة في الاندثار تحت عجلة التوسع العمراني الحديث. هذه الأنواع الأربعة من القرى.. بنيت على مساحات منبسطة في قمم الجبال، ويبدو أنها سُوّيت قبل البناء عليها، فأزيح عنها الصخور الكبيرة وأكداس الأتربة حتى تساوت، ثم بُني عليها. وبعض هذه القرى تدل الآثار بأنها محاطة بأسوار، وقد تتوسطها «جزر جبلية» هي الأخرى كانت مستوطنة بالبشر، أو لها استعمالات لا نعرفها حتى الآن. جبال كدم.. شهدت ظواهر عديدة، كتبتُ عن بعضها، مثل مقال «الكهف والحصاة.. ظاهرة مجهولة أم طقس ديني»، نشرته جريدة «عمان» بتاريخ: 3/ 10/ 2023م. ومن هذه الظواهر:
- أن سور كدم في أجزاء كثيرة منه يمر على الجبال وسفوحها، وأحيانًا يُستغنى بشموخ الجبل عن السور فينقطع، ليعاود الظهور بعد اجتيازه، ومما يلحظ أن المسار الجبلي للسور لا يكاد يخلو من دلائل استيطان بمحاذاته.
- وجود «مدينة جنائزية» في جزيرة جبلية، تقع خارج سور كدم على الجنوب من بلادسيت، تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وقد خصصت لها مقالًا أرجو نشره قريبًا.
- وجود محجرين للأحجار الضخمة في جزيرتين جبليين قريبتين من المدينة الجنائزية.
- الأبراج.. وهي إما أنها مرفقة بالسور، أو منفصلة عنه، أو بالأساس غير مرتبطة به، وهي أبراج قديمة ظل الناس يبنونها إلى وقت قريب، وبعضها قائم بالطين حتى الآن.
- مما عثرنا عليه في أحد جبال منطقة المحمود خندق ضيق عميق، من صنع بشري، ولا ندري تأريخه؛ أحديث هو أم قديم، كما لا نعرف الغرض منه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قبل المیلاد فی عمان ما قبل قرى ما
إقرأ أيضاً:
ما هي واجبات العمرة؟ 3 أمور لابد من الإلتزام بها
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن واجبات العمرة، هي الإحرام من الميقات وطواف الوداع، واجتناب المحرمات.
وأضاف علي جمعة، في منشور له، عن واجبات العمرة، أن الميقات في العمرة، قسمان: ميقات زماني ، وميقات مكاني.
أما الميقات الزماني للإحرام بالعمرة : ذهب الفقهاء إلى أن ميقات العمرة الزماني هو جميع العام لغير المشتغل بالحج، فيصح أن يحرم بها الإنسان ويفعلها في جميع السنة، وهي أفضل في شهر رمضان منها في غيره. وذهب الحنفية في ظاهر الرواية إلى أن العمرة تكره تحريما يوم عرفة، وأربعة أيام بعده، واستدلوا بقول عائشة رضي الله عنها «حلت العمرة في السنة كلها إلا في أربعة أيام : يوم عرفة ويوم النحر ويومان بعد ذلك» ولأن هذه الأيام أيام شغل بالحج، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك، وربما يقع الخلل فيه فتكره.
وأما الميقات المكاني للإحرام بالعمرة : المسلم إما أن يكون آفاقيا أو ميقاتيًا أو حرميًا والآفاقي : هو من منزله خارج منطقة المواقيت ، ومواقيت الآفاقي هي :
أ- ذو الحليفة (أبيار علي) : يُحرم منها أهل المدينة ومن يمر بها.
• البعد عن مكة: حوالي 450 كم.
ب- الجحفة : يُحرم منها أهل الشام ومصر والمغرب ومن في طريقهم.
البعد عن مكة: حوالي 187 كم.
ج- قرن المنازل (السيل الكبير) : يُحرم منها أهل نجد والطائف ومن يمر بها.
• البعد عن مكة: حوالي 75 كم.
د-يلملم (السعدية) : يُحرم منها أهل اليمن ومن يمر بها.
• البعد عن مكة: حوالي 92 كم.
هـ -ذات عرق (الضريبة) : يُحرم منها أهل العراق ومن في طريقهم.
• البعد عن مكة: حوالي 94 كم.
أما الميقاتي : هو من كان في مناطق المواقيت أو ما يحاذيها أو ما دونها إلى مكة. وهؤلاء ميقاتهم من حيث أنشئوا العمرة وأحرموا بها، إلا أن الحنفية قالوا : ميقاتهم الحل كله، والمالكية قالوا : يحرم من داره أو مسجده لا غير، والشافعية والحنابلة قالوا : ميقاتهم القرية التي يسكنونها لا يجاوزونها بغير إحرام.
مواقيت الإحراموأما الحرمي : وهو المقيم بمنطقة الحرم والمكي ومن كان نازلا بمكة أو الحرم، هؤلاء ميقاتهم للإحرام بالعمرة الحل ، فلا بد أن يخرجوا للعمرة عن الحرم إلى الحل ولو بخطوة واحدة يتجاوزون بها الحرم إلى الحل.
والدليل على تحديد هذه المواقيت للإحرام بالعمرة ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما : « أن النبي وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم هن لهن ، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة».
وأما ما ورد في شأن الحرمي فعن عائشة رضي الله عنها في قصة حجها قالت :« يا رسول الله ، أتنطلقون بعمرة وحجة وأنطلق بالحج ؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة».
أما بالنسبة لطواف الوداع : ثم عليه طواف الوداع إذا أراد السفر من مكة - ولو كان مكيا وجوبا عند الشافعية ، وسنة عند المالكية, ويجب عليه طواف الوداع عند الحنابلة إلا إن كان مكيا أو منزله في الحرم, فلا يجب عليه الوداع , أما الحنفية فلا يجب عندهم طواف الوداع على المعتمر لكن يستحب خروجا من الخلاف ; لأن طواف الوداع عندهم من مناسك الحج , شرع ليكون آخر عهده بالبيت.