لم يعد للفلسفة دورٌ فى حياتنا المعاصرة! هكذا يتخيّل كل ذى بصيرة مطموسة، وكل ذى عقل مفقود.
أضعف حُجة للرد على تلك الترهات هو القول: إنه إذا ثبت أن للفلسفة دوراً فى القديم والوسيط والحديث، فلا أقل من أن يكون لها نفس الدور وأعظم فى الحياة المعاصرة؛ لأن وجودها الفاعل فى الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة يثبت دورها الحضاري.
ولا يعقل أن يكون لها الفاعلية الحضارية قديمًا ووسيطًا وحديثًا عبر الأزمنة والعصور، ثم نسلبها وجودها عنوةً عن العصر الحاضر حيث لا حضارة ولا فلسفة، ومن ثم فلا حياة سوى تفاهات قائمة!
من أسف، لم تعد طاقة العقلية العربية تستوعب عناء الفلسفة وجهودها الشاقة، كل بلاد العالم فيها فلاسفة، وفيها تقدير لقيمة الفلسفة إلا بلادنا العربية تكاد تخلو من فلاسفة حقيقيين: عناء الفلسفة يكمن فى ممارسة التفكير، وجهودها الشاقة تظهر بجلاء فى سن أسس النقد لفروض الإصلاح.
لا ندرى لم هذا العداء الغريب بين العقل العربى والتفلسف، ربما أكون مبالغاً إذا قلت هذا بل ومتناقضاً أيضاً، لأننا إذا وصفنا الإنسان بالعقل فقد وصفناه بالتفلسف شئنا أم أبينا.
حقاً هو عداء فعلاً لكنه عداء ليس بين العربى وعقله ولا بين العربى وذوقه، ولا بين العربى ومداركه، بل عداء مفروض عليه سياسياً: أقتل فى العربى كل قيمة، تفكيره وادراكه، وشعوره ووجدانه، وتدينه، ومعارفه وروابطه ... وجرده عن هويته، فلا يعرف لها تاريخاً ولا جغرافيا.
أطمس ذاكرته الباقية طمساً ليسهل محو أثره من هذا الوجود، لا تدع له تراثاً يدرسه، ولا وطنية يقدّرها، ولا حدوداً يعلمها، ولا بلاداً يحترمها.
جرّده من كل شيء؛ ليكون لقمة سائغة فى أيدى المبتزين والمستعمرين وطلاب الدون من الخونة والمأجورين.
أمحو هُويتّه بالغفلة والاستنامة، وزعزع أصوله، وانزع ثوابتها؛ لتراه آخر الأمر بلا قيمة ولا كرامة ولا حياة جديرة بالحياة!
اجعل للتعليم لديه مكان الحقارة والدناوة، وأجعله يحتقر العلم والعلماء، ويحتقر الدراسة والتحصيل، ويقيس كل شيء بالمقاييس المادية. غيّر نظرته للأشياء وارْبطها برباط المنفعة القريبة العاجلة. لا تجعل له ثوابت من دين، ولا ركائز من قيم، ولا دعائم من وطنية يرتكز عليها. شككه فى هذه الثوابت وأوصله بالتفاهات السائرة أمام نظرة صباح مساء حتى تستعبده.
اجعله عبداً لغرائزه الدنيا ولشهواته القريبة؛ ليكون أسيراً لها على الدوام بغير انقطاع. لا تعلمه فريضة التفكير ولا الأدب ولا التاريخ ولا الفلسفة ولا تبصره بوجوده الروحى ولا العقلى بل دعه باستمرار لا يتجاوز المحسوس فيما يفكر وفيما ينظر من مطالب الحياة وشئون الواقع المحدود بحدود نظره ولمسه وحسّه. موّت أذواقه لينظر إلى مبدعات الفنون الجميلة نظرة العداء، فلا يتفاعل مع الفن ولا مع العلم ولا مع الأدب ولا مع الذوق الفنى مطلقاً.
قلل فيه قناعة العمل الموصول بمطالب الخلود، بل أجعله يعمل كأجير السوء، لا يعمل لأن العمل الصالح موصول غير مقطوع.
هذه سياسية إجرامية لا يطبقها على شعوبنا العربية إلا أبناء صهيون، ومن والاهم من الخونة والمأجورين، ومن يهمهم تحقيق الأمل اليهودى القديم بالقضاء على الشعوب العربية بدايةً من القضاء على اللغة والهويّة والحضارة والانتماء والثقافة والتعليم.. وانتهاءً بالإبادة الجماعية وسلب إرادة الشعوب تحقيقاً فى الواقع المشهود، مع غرس اليأس من الإصلاح.
لكن دراسة الفلسفة تقف لهذا كله بالمرصاد، تقف للخوار والانهزامية والتخلف؛ فتحقق دوراً قائماً بالعقل وريادة باقية بالمعرفة.
وكرامة الإنسان رهنٌ بين عقله ومعارفه. ولا كرامة له على التحقيق وهو معطل للعقل فاقد للمعرفة حتى لو أمتلك الدنيا بحذافيرها واستطال فيها على طولها وعرضها.
والفلاسفة الحقيقيون مجاهدون فى هذا الميدان جهاد الأبطال، لأن الفلسفة تكشف الباطل من أول وهلة، وتسخر العقل فى طلب الحقيقة الظاهرة والباطنة، وتحترم الأصول الباقية فى الدين والعلم والأخلاق، وتدفع عن القيمة غواشى الانحراف، وتعزز فى الفرديّة قيم المبدأ وقيم المصير، وتجاهد الفلسفة جهادها الأبيّ فى سبيل إعلاء الجانب النقدى لتزيل الأقنعة الزائفة وتفضح الأوهام المتسلطة. الفلسفة، لو تعلمون، منهج فى التفكير :
كان نيتشه الفيلسوف ألألمانى يقول : (الفلسفة ليست تأسيساً لديانة ولا تبشيراً بحقيقة، ولا وعداً بالحرية والسعادة، بل هى نبش فى الأسس، وتعرية للأصول، وإزالة الأقنعة، وفضح الأوهام).
وتلك هى مُهمة التفكير النقدى الابن الشرعى للفلسفة، الذى يقدّم الإصلاح والإيجابية والعمل الدائم الهادف البناء خدمة للفرد وخدمة للمجموع، يقدّمه على السلبيات وشيوع قيم الخمول والخرافة والجهالة والتعطيل، وهى القيم الساقطة حتماً، تحاربها الفلسفة ويناوئها العقل المستنير.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم
إقرأ أيضاً:
الأنظمة العربية من الحماية الأجنبية إلى التمكين القومي
أحمد بن محمد العامري
عانت معظم الأنظمة العربية منذ مرحلة ما بعد الاستقلال من تحديات بنيوية معقدة دفعتها طوعًا أو كرهًا إلى الاحتماء بالقوى الأجنبية طلبًا للدعم السياسي أو العسكري أو الاقتصادي، واتقاءً لمخاطر داخلية أو إقليمية أو دولية، وقد شكّل هذا الاحتماء تحوّلًا عميقًا في مفهوم السيادة، إذ لم يعد الارتباط بالخارج مسألة ظرفية تقتضيها الضرورة؛ بل أصبح في حالات كثيرة خيارًا استراتيجيًا لتعزيز النفوذ الداخلي أو لتحقيق مكاسب إقليمية على حساب دول عربية أخرى.
إن دوافع هذا الارتهان للخارج تعود إلى جملة من الأسباب الموضوعية والتاريخية من بينها هشاشة المؤسسات السياسية، وغياب العقد الاجتماعي الذي يُؤسّس لعلاقة صحية بين الدولة والمجتمع، وتآكل شرعية كثير من الأنظمة بفعل القطيعة مع الجماهير، إضافة إلى غياب مشاريع تنموية مستقلة مستدامة وشاملة تلبّي طموحات الشعوب.
وبدلًا من اللجوء إلى مراجعة داخلية تعيد هيكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس ديمقراطية تشاركية، اختارت بعض الأنظمة الاستقواء بالدعم الأجنبي كأداة لبسط السيطرة الداخلية أو لتحقيق توازنات إقليمية عبر استدعاء التدخلات الدولية، الأمر الذي ساهم في تعميق الانقسامات وزيادة التبعية.
لقد أسهم هذا المسار في إضعاف الموقف العربي الجماعي وأدى إلى تشظي القرار السيادي وانكشاف الأمن القومي العربي أمام التحديات الخارجية، في ظل غياب رؤية موحدة للأمن العربي، وتضارب المصالح بين الأنظمة وغياب الثقة المتبادلة. ولم يكن هذا الواقع إلا نتيجة طبيعية لغياب بنية عربية مشتركة تتجاوز الحسابات القطرية الضيقة وتؤمن بأن مصير الدول العربية مترابط، وأن أي تهديد يطال طرفًا منها سرعان ما ينعكس على سائر أجزائها.
وفي هذا السياق، يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن الانتقال من منطق الاحتماء بالخارج إلى بناء منظومة عربية قادرة على التمكّن الذاتي، وتحقيق الأمن والاستقرار والسيادة الحقيقية؟ إن الإجابة تبدأ من إعادة الاعتبار للإرادة الشعبية ومن الإقرار بأن التمكين السياسي لا يمكن أن يتحقق في غياب مشاركة المواطنين في صياغة القرارات المصيرية. إن بناء عقد اجتماعي عربي جديد يقوم على مبادئ المشاركة والمساءلة وسيادة القانون، هو المدخل الأول لاستعادة الثقة بين الشعوب والأنظمة، وتحويل الدولة من سلطة قمعية إلى مؤسّسة تمثيلية تعبّر عن الإرادة الجمعية.
وينبغي أن يُترجم هذا العقد إلى إنشاء مؤسسات عربية فاعلة، في مقدمتها برلمان عربي حقيقي، يعكس تطلعات الشعوب، ويعبّر عن المصالح القومية الكبرى مع احترام استقلالية كل دولة وسيادتها.
كما يتوجب تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الدول العربية ليس فقط من خلال التنسيق الاستخباراتي، بل عبر صياغة عقيدة عسكرية وأمنية مشتركة، تتجاوز الشكوك والهواجس المتبادلة، وتؤمن بأن أمن كل دولة هو جزء لا يتجزأ من أمن الأمة بأسرها.
ولن تكتمل عناصر هذا التمكين دون إصلاح عميق لوسائل الإعلام، من خلال وضع ميثاق شرف إعلامي عربي يجرّم كل ما يحرّض على الكراهية والانقسام الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ويكرّس خطابًا وحدويًا يعزز الانتماء القومي.
كما أن إصلاح التعليم يمثل ركيزة لا غنى عنها، إذ ينبغي إعادة صياغة فلسفته بما يعزز قيم الابتكار، ويُوحّد المفاهيم والمصطلحات الإدارية والعلمية، ويهيّئ أجيالًا قادرة على الإسهام في مشروع النهضة العربية.
والتحوّل من التبعية إلى التمكّن لا يستلزم بالضرورة ذوبان الهويات الوطنية أو إلغاء خصوصيات الحكم، بل يستدعي توافقًا واعيًا على أولويات قومية مشتركة في مجالات الأمن والتعليم والطاقة والاقتصاد والسياسة الخارجية. نحن في حاجة إلى بوصلة عربية موحّدة، وشمال قومي واضح، يقود الأمة نحو موضع يليق بها ليكون لها مكان تحت الشمس.
إن الأمم لا تُحمى من الخارج؛ بل تُبنى من الداخل، وإذا أرادت الأنظمة العربية أن تكون في مقدمة الدول، فعليها أن تُصغي لشعوبها وتتشارك معها القرار، وتعيد الثقة إلى البيت العربي عبر التلاحم لا التنازع، والوحدة لا الانقسام.