المعضلات النفسية والاجتماعية في السودان: جذور الصراع وافاق الحلول
تاريخ النشر: 4th, October 2024 GMT
المشكلة السودانية التاريخية، التي تتجاوز الأزمات السياسية المباشرة أو الصراعات المسلحة، يمكن فهمها بشكل أعمق إذا نظرنا إليها من خلال الأبعاد النفسية الجماعية والاجتماعية. هذه الأبعاد تسهم في تشكيل التصورات، وتحديد أنماط السلوك، وخلق علاقات معقدة بين مكونات المجتمع السوداني، مما يؤدي إلى نشوء صراعات مزمنة وإعادة إنتاج الأزمات.
1. البعد النفسي الجماعي:
يُمكن تفسير المشكل السوداني جزئيًا من خلال ما يُعرف بعلم النفس الجماعي (Collective Psychology)، حيث أن الجماعات الإثنية والقبلية في السودان تحمل في طياتها مظاهر نفسية تراكمت عبر الأجيال بفعل التاريخ الطويل من التهميش، الصراعات، والاستغلال. هذه المظاهر النفسية تشمل:
الذاكرة الجمعية المتألمة: مثل الشعور بالمظلومية التاريخية لدى الجماعات المهمشة، حيث يتوارث الأفراد الشعور بعدم العدالة والاضطهاد، مما يُعزز من توجههم نحو العزلة أو حتى التمرد على النظام القائم.
الشعور بالدونية أو التفوق: نشأت بعض الفئات في السودان على فكرة تفوقها الإثني أو العرقي، مما أدى إلى ترسيخ الشعور بالتمايز وهو شعور تعويضي اكثر منه شعور طبيعي وله مصداقية في الواقع وانما هو الية بقاء و توازن علي سبيل تحويل عقد النقص الي عقد تفوق كحيلة دفاعية ، سواء في المناطق التي شهدت تجارة الرقيق أو في العلاقة بين المركز والأطراف، وبالتالي تأسيس علاقات هيمنة وخضوع متبادلة.
الشعور بالعجز والإحباط الجماعي: العجز الذي تعانيه بعض الجماعات في التعبير عن هويتها الثقافية أو المطالبة بحقوقها يُولد شعورًا باليأس، والذي قد يتحول إلى عدائية مفرطة، سواء تجاه السلطة المركزية أو حتى تجاه المكونات الاجتماعية الأخرى.
الصورة النمطية المتبادلة: ترسيخ الصور النمطية السلبية بين الجماعات المختلفة (مثلاً الجلابة كمستغلين، الغرابة كمتمردين، النوبة كمتمسكين بالتقاليد)، وهذا يؤدي إلى تنميط الأفراد وفق تصنيفات ضيقة يصعب معها بناء روابط اجتماعية صحية.
2. البعد الاجتماعي:
الشق الاجتماعي يتداخل مع الشق النفسي، حيث أن التكوينات الاجتماعية في السودان تتسم بعدم التجانس الواضح، مما يؤدي إلى نشوء علاقات اجتماعية متناقضة ومتداخلة. بعض مظاهر هذه المعضلات الاجتماعية:
هيكلية القبلية والعرقية: هيمنة القبلية والانتماءات العرقية في تشكيل الهوية السودانية، مما يجعل ولاء الفرد لقبيلته أو عرقه أعلى من ولائه للوطن. هذه الديناميكية الاجتماعية تؤدي إلى تجزئة المجتمع إلى وحدات مستقلة تعيش في تنافس دائم، ويُنظر إلى الآخر على أنه منافس أو خصم محتمل.
الفوارق الاقتصادية والتنموية: تعمق الفجوات التنموية بين المركز والأطراف يُساهم في تشكيل تصور اجتماعي عام بأن الدولة تخدم مصالح فئة محددة دون غيرها. وهذا يولد الإحساس بالحرمان النسبي، والذي يُعتبر من العوامل المحركة للصراعات.
التمدد الحضري والهجرة الداخلية: هجرة الأفراد من الأطراف إلى المدن الكبرى مثل الخرطوم بسبب النزاعات أو التصحر أو الفقر تُعيد تشكيل التركيبة الاجتماعية في هذه المدن، مما يؤدي إلى خلق صراعات جديدة على الموارد وفرص العمل.
تسييس الانتماءات الاجتماعية: الصراعات الاجتماعية في السودان كثيرًا ما يتم تسييسها واستغلالها من قبل النخب السياسية لتعزيز سلطتها، سواء عبر استمالة جماعات معينة أو تهميش أخرى، مما يُزيد من تعقيد الحلول الاجتماعية والسياسية الممكنة.
3. التأثيرات النفسية التاريخية:
للتاريخ السوداني الطويل في العبودية، الاستعمار، ثم السياسات المركزية القمعية، أثر نفسي عميق على التركيبة الاجتماعية والنفسية للمجتمع السوداني:
استمرار آثار العبودية: ما زال تأثير العبودية قائمًا في اللاوعي الجماعي لبعض الجماعات، حيث أن هذا الإرث خلق تباينًا اجتماعيًا وتمييزًا مبنيًا على الأصول العرقية، مما يجعل الصراعات الإثنية تستمد جزءًا من قوتها من هذه المخلفات التاريخية.
تأثير الاستعمار في إعادة تشكيل الهويات: الاستعمار البريطاني فرض أنماطًا من الحكم تعتمد على التفرقة بين الأعراق، مما أدى إلى تعميق الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
الأنظمة العسكرية الشمولية: الأنظمة العسكرية، خاصة خلال فترة نظام الإنقاذ (1989-2019)، أسست لانقسامات نفسية جماعية عبر التلاعب بالدين، والقيم الثقافية، والانتماءات القبلية. هذا التلاعب ساهم في خلق شعور بالعداء المتبادل، وعدم الثقة بين السودانيين أنفسهم.
4. نتائج هذه المعضلات النفسية والاجتماعية:
إن التداخل بين العوامل النفسية الجماعية والاجتماعية أدى إلى خلق حلقة مفرغة من الصراعات والانقسامات. فعلى سبيل المثال، المفاوضات التي تُجرى بين الأطراف المتنازعة غالبًا ما تنتهي بالفشل، لأن الأطراف المختلفة تحمل تصورات وصورًا ذهنية سلبية عن بعضها البعض، مما يجعل الوصول إلى تفاهم مشترك أمرًا صعبًا.
حتى في حالة النجاح في الوصول إلى اتفاق، يبقى هناك تردد في الالتزام به، لأن الخلفية النفسية والاجتماعية التي تشكل تصورات الأفراد والجماعات عن السلطة، والعدالة، والحق، والانتماء لا تزال مشبعة بالمفاهيم السلبية والشك المتبادل.
5. سبل الحل:
لحل المشكلة السودانية من جذورها، يجب اتباع نهج شامل يأخذ في الاعتبار العوامل النفسية والاجتماعية إلى جانب الحلول السياسية والعسكرية. من بين هذه السبل:
العمل على بناء ذاكرة جمعية إيجابية: من خلال تسليط الضوء على أوجه التكامل والتفاعل التاريخي بين الجماعات المختلفة، والسعي نحو إعادة صياغة تاريخ مشترك يُبرز المساهمات المتبادلة.
إصلاح النظام التعليمي والإعلامي: لمحو الصور النمطية السلبية، وبناء جيل جديد يُدرك أن التعددية هي مصدر قوة وليس ضعفًا.
برامج المصالحة المجتمعية: تنظيم برامج للمصالحة تشمل حوارات مجتمعية تهدف إلى معالجة الجروح النفسية المتوارثة، وإعادة بناء الثقة بين الجماعات.
التنمية المتوازنة: الاستثمار في المناطق المهمشة اقتصاديًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، للقضاء على الشعور بالحرمان والتمييز.
إن النظر إلى المشكلة السودانية من زاوية المعضلات النفسية والاجتماعية يُمكننا من فهم أعمق للتعقيدات التي تواجه هذا البلد. فالقضية ليست فقط صراعًا على السلطة أو موارد، بل هي صراع على الهوية، والانتماء، والمظلومية. الحلول الناجعة يجب أن تعالج جذور هذه المعضلات، لا أن تكتفي بإبرام اتفاقات سياسية قد تنهار في أي لحظة بسبب هشاشة الأسس النفسية والاجتماعية التي تقوم عليها.
hishamosman315@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النفسیة والاجتماعیة الاجتماعیة فی فی السودان یؤدی إلى
إقرأ أيضاً:
نموذج “بوكو حرام”: كيف تستغل الجماعات الإرهابية ثغرات “تيك توك”؟
تشهد نيجيريا موجة جديدة من العمليات الإرهابية، بقيادة جماعة بوكو حرام، وتنظيم ولاية غرب إفريقيا التابع لداعش، في مناطقها الشمالية الشرقية، خاصةً ولاية بورنو التي شكلت بؤرة الصراع الذي خلَّف منذ عام 2009 أكثر من مليوني نازح و40 ألف قتيل.
وقد أسفر المد الإرهابي الجديد في نيجيريا، في إبريل 2025، عن أكثر من 100 قتيل، وترافق مع صدور تقارير حول استخدام تطبيق “تيك توك” في حملات الدعاية والتجنيد. ونشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية، في 19 مايو 2025، ملخصاً مشتركاً مع وكالة الأنباء الفرنسية لتقريرها بشأن حسابات على التطبيق تروج للأفكار المتطرفة ومعاداة الغرب، بطريقة مشابهة لتلك التي دأب عليها الزعيم السابق لبوكو حرام، أبو بكر شيكاو، قبل مقتله عام 2021.
ويعكس استخدام التنظيمات الإرهابية والمتطرفة لتطبيق “تيك توك”، اهتمامها بمزاياه في خوض “المعارك الرقمية” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالتوازي مع العمليات العسكرية المكثفة والمتصاعدة في ميادين القتال؛ لذلك بثَّت في وقت سابق حسابات تابعة لجماعة بوكو حرام على التطبيق، مقاطع لطائرات مُسيَّرة أثناء مراقبتها مواقع للجيش النيجيري قبيل مهاجمتها.
الإرهاب الرقمي:
انخرطت التنظيمات الإرهابية في استخدام التكنولوجيا الرقمية منذ العقد الأول من الألفية، لتحقيق “الحكامة” و”الفاعلية” في تنفيذ أجندتها ما دامت لا تعود عليها بمخاطر أمنية؛ مستغلة حالة السيولة في الفضاء الرقمي وضعف التنسيق الدولي في الرقابة على المحتويات الإلكترونية مثل الرسائل النصية واستخدام الأقراص المدمجة؛ الأمر الذي سمح بذيوع الكتب الممنوعة من التداول بالطرق التقليدية، وساعد على انتشار الخطب التحريضية ووصفات صناعة الأسلحة اليدوية وإعداد المتفجرات.
كما التفتت هذه التنظيمات إلى أهمية استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للدخول في علاقات “افتراضية” مع مختلف الأوساط الشعبية، ونجحت في تحويل هذه العلاقات، في الكثير من الحالات، إلى علاقات “واقعية” بعد إقناع العناصر المستهدفة بالالتحاق بمعسكرات التدريب والقتال المنتشرة عبر مواقع متفرقة من العالم؛ بل اتضحت خطورة هذا الاستخدام في حالات التحول الفجائي نحو التطرف وترجمته عملياً عبر عمليات الدهس والطعن في شوارع المدن الغربية.
وفي هذا الأفق المحكوم بخلفية “انتهاز الفرص”، عملت التنظيمات الإرهابية على توظيف الوسائط الجديدة مثل “فيسبوك” و”إكس” و”واتساب” و”إنستغرام” و”تليغرام”، ثم في الفترة الأخيرة تطبيق “تيك توك”، المملوك لشركة “بايت دانس” الصينية العملاقة (Bytedance)؛ لانسجامه مع متطلبات العمل الإرهابي في صورته الهجينة، حيث صارت هذه الجماعات تستخدم “تيك توك” لتعزيز قدراتها في النشر والدعاية والتجنيد عبر بث مقاطع تظهر الأسلحة والذخائر ومشاهد التدريب، وعرض للأموال التي يُحتمل تحصيلها من الهجمات، وترديد خطابات التهديد والتحريض والتضليل. وهذا ما أكدته وكالة الأنباء الفرنسية من مراجعتها لـ19 حساباً على “تيك توك”، قالت إنها تبث بشكل متكرر مشاهد لعناصر يرتدون زياً دينياً، ويحرّضون على العنف ضد الحكومة، ويتعاونون مع حسابات تعرض كميات كبيرة من الأسلحة، وتروج لتسجيلات قديمة لمؤسس جماعة بوكو حرام، محمد يوسف، وأخرى للواعظ السلفي المتشدد عيسى غارو، المعروف بخطاباته العنيفة والذي تم منعه من إلقاء الخطب في الأماكن العامة بولاية النيجر لهجومه على الديمقراطية ومظاهر الحضارة الغربية.
ولعل التجارب السابقة في استخدام “تيك توك” من جانب الجماعات الإجرامية المنتشرة في المنطقة الشمالية الغربية وولاية النيجر بالمنطقة الشمالية الوسطى في نيجيريا، والتي تنوعت أنشطتها بين سرقة الممتلكات وعمليات الاختطاف؛ تُوفر لجماعة بوكو حرام وغيرها تجربة عملية في إدارة المحتوى الرقمي من خلال التطبيق، حيث شرح بولاما بوكارتي، الخبير في شؤون مكافحة التطرف ونائب رئيس مؤسسة “بريدجواي” ومقرها تكساس في الولايات المتحدة، بمنشور على حسابه في منصة “إكس” بتاريخ 17 إبريل الماضي، أن استخدام “تيك توك” بدأ في نيجيريا مع قطاع الطرق.
كما أن هذه التجارب قد استعادها تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا، الذي تعرَّض عدد من حساباته على “تيك توك” للمنع من إدارة التطبيق بعد استلامها إحاطة من وكالة “ستوريفول” (Storyful) استناداً إلى تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، كشف في 21 أكتوبر 2019، عن ترويج مقاطع فيديو عبر التطبيق تظهر صور جثث معروضة في الشوارع ومسلحين وأغانٍ تمجد العنف، غير أن معظم الحسابات المعنية لم تصل حينها، بحسب تقرير الصحيفة، إلى حاجز الألف متابع.
وفي تاريخ لاحق، حدَّدت وزارة الاتصالات والتكنولوجيا الصومالية، يوم 24 أغسطس 2023، موعداً نهائياً لمزودي الإنترنت في البلاد للتوقف عن توفير الوصول إلى “تيك توك”، بجانب “تليغرام” وموقع المراهنة عبر الإنترنت (1xBet)؛ باعتبارها منصات رقمية للدعاية الإرهابية، وذلك في أوج حربها على حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة. وفي ذات السياق، وثقت منظمة “هم أنجل” (HumAngle)، المتخصصة في تغطية النزاعات والإرهاب والأزمات الإنسانية في غرب إفريقيا، في أغسطس 2024، نحو 730 مقطع فيديو على “تيك توك” يتم ترويجها عبر 25 حساباً تخضع لإدارة جهات تدعم الجماعات المسلحة.
جاذبية “تيك توك”:
يأتي استخدام تطبيق “تيك توك” من جانب التنظيمات الإرهابية في سياق بحثها المستمر عن أدوات التأثير والانتشار وتنويع مصادر التعبير عن حضورها، وعموماً يمكن تحديد الدوافع المباشرة لاتجاه هذه التنظيمات نحو التطبيق الصيني، فيما يلي:
1- شعبية “تيك توك” لدى الشباب: أصبح تطبيق “تيك توك”، عام 2024، الأكثر تحميلاً في العالم بـ825 مليون مرة؛ ليسجل أكثر من خمسة مليارات عملية تنزيل منذ إطلاقه عام 2017. فيما بلغ عدد مستخدمي “تيك توك” النشطين في نيجيريا وحدها، العام الماضي، قرابة 24 مليون مستخدم.
ويُعتبر الشباب فئة مهمة من رواد التطبيق؛ إذ إن نحو 66% من مستخدميه تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة، حسب إحصائيات (DemandSage) الصادرة في أوائل مايو 2025؛ لذلك بات التطبيق يشكل هدفاً للجماعات الإرهابية الساعية لتملك أدوات التواصل مع الشباب بغرض التجنيد، وهذا ما أوضحه جهادي سابق انشق عن جماعة بوكو حرام، في تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية، بقوله إن الجماعات التي اتجهت إلى “تيك توك” هجرت الأساليب التقليدية “المملة” في خطابها، وصارت تتبنى لغة عصرية جذَّابة وذات فاعلية تجاه الشباب، بين 16 و30 سنة، وهي الفئة الأكثر عُرضة للاستقطاب.
2- البث المصور والمباشر: يوفر تطبيق “تيك توك” إمكانية البث المصور والمباشر في ذات الوقت؛ الأمر الذي يتيح التفاعل الحي بين صاحب المحتوى ومتابعيه؛ ومن ثم خلق حالة من الشعور بالثقة المتبادلة يعززها ظهور عناصر التنظيم بوجه مكشوف وملابس تقليدية وملامح مألوفة لدى سكان المنطقة وتداول مفردات معهودة في خطابهم المحلي؛ الأمر الذي تطور في حالات مؤكدة، حسب تقرير وكالة الأنباء الفرنسية، إلى فتح مجال للتحادث من خلال طرح الأسئلة والجواب عليها ووضع التعليقات والتجاوب معها، وهو الأمر الذي عدَّته الوكالة مصدر قلق، خاصة أنه ينطوي على مخاطر أكبر تتمثل في فتح قناة جديدة للتمويل؛ إذ تتلقى بعض الحسابات من متابعيها “هدايا رقمية” قابلة للتحويل إلى نقود.
كما يمكن توقع الأسوأ في حال نجاح هذه التنظيمات، من خلال تكرار مشاهد البث بالصوة والصورة، في إشاعة ثقافة “الجهاد” في الأوساط المُستهدفة، بجعل الدعوة إلى التمرد وحمل السلاح وغيرها روتيناً يومياً يسهم في تطبيع العنف ومظاهر القتل بالمجتمع؛ ومن ثم توسيع حواضنها الشعبية بزيادة أعضائها والمتعاطفين مع مشروعها.
3- قصور الرصد اللغوي للغات المحلية: تعتري أنظمة الرقابة المُعتمدة من طرف “تيك توك” على محتوياته الرقمية، جملة ثغرات تقنية تشكل منافذ لدى العناصر الإرهابية والمتطرفة لتمرير خطاباتها. وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتخذتها إدارة التطبيق؛ فإن جهودها على مستوى رصد المحتوى المتطرف ما زالت تتسم بالبطء والقصور.
وأمام تصاعد التحدي الإرهابي، تبدو شراكات التعاون الأمني التي أبرمها “تيك توك” مع الجهات المختصة غير كافية، خاصةً أن مبادرة “التكنولوجيا ضد الإرهاب” (Tech Against Terrorism)، المدعومة من الأمم المتحدة، قد أنهت تعاونها مع التطبيق منذ مطلع 2024.
بيد أن التحدي الأكبر الذي يواجه “تيك توك” في مناطق شمال شرقي نيجيريا، يتمثل في استخدام اللغات المحلية مثل “الفولفولدي” وخاصةً “الهوسا” التي يتحدث بها نحو 72 مليون شخص في غرب إفريقيا، حيث تعجز خوارزميات التطبيق عن تفعيل إشارات فورية بشأن المحتوى المتطرف؛ مما يتيح لهذا المحتوى فترات زمنية من النشر قد تمتد لأسابيع وحتى أشهر قبل حذفه، وذلك بفعل تحدي البث المباشر وغياب إمكانات الحذف الآلي.
4- فتور الاهتمام الأيديولوجي: لعل اعتماد مقاطع فيديو قصيرة عبر “تيك توك” في حملات الدعاية والتجنيد، يؤكد هيمنة الدوافع المادية في عمليات التطرف على حساب القناعات الأيديولوجية؛ ومن ثم يعكس مصداقية التقارير التي تحدثت عن تحكم الميول النفسية والسوسيولوجية والاقتصادية في سلوك الإرهابيين بشكل أكبر من السرديات الدينية. ومن ذلك التقرير الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في فبراير 2023، حول دوافع التطرف في دول مثل نيجيريا وبوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر والكاميرون والصومال، وخلص إلى أن الأيديولوجية “الإسلاموية” ليست الدافع الأساسي للانخراط في المجموعات الإرهابية؛ معتبراً عامل “العمل” هو الدافع الرئيسي بنسبة 40%، يليه “الالتحاق بالعائلة أو الأصدقاء” بنسبة 22%، ثم “العامل الديني” في المرتبة الثالثة بنسبة 17% فقط.
وبالتالي فإن الترويج للتطرف والإرهاب عبر نشر الصور والفيديوهات وليس النصوص الدينية، جاء نتيجة لتعاظم الميول “المادية” في قرارات الشباب المقبل على التطرف؛ ليوفر له التسويغ الشرعي والاطمئنان الديني. ولهذا يرتقب أن يوفر النشاط الإرهابي عبر “تيك توك” تحفيزات إضافية لانخراط الشباب في التنظيمات المسلحة مقابل مكاسب مادية تحت غطاء ديني.
تطوير الاستجابة:
إن توجه التنظيمات الإرهابية نحو الاستغلال المكثف لتطبيق “تيك توك”، باحترافية متزايدة سواء على مستوى المحتوى أم الجوانب الفنية؛ يفرض ضرورة تطوير تكنولوجيا الرقابة في الفضاء السيبراني، وتعزيز التعاون الدولي في مجالات البنية التحتية الرقمية وتأهيل الكوادر المتخصصة، وهو ما قد يتحقق وفق مسارين اثنين هما:
1- معالجة القصور اللغوي لدى “تيك توك” بإدماج اللغات المحلية في مناطق انتشار الظاهرة الإرهابية ضمن نظام الحماية السيبرانية، وذلك على غرار اللغات الـ75 التي يشملها نظام الإشراف الآلي للتطبيق؛ الأمر الذي يوجب، حسب تقرير منظمة “هم أنجل” في أغسطس 2024، تعزيز التعاون مع المنظمات غير الحكومية المحلية؛ من أجل فهم التعبيرات الثقافية والخطابية للغات المحلية، واستيعابها ضمن منظومة الوقاية.
2- انتباه الحكومات إلى إمكانية حدوث طفرة جديدة على مستوى تطور الظاهرة الإرهابية؛ نتيجة الاستخدام الرقمي والاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تسجيل تفاعل أكبر وأعمق بين الدعوات المتطرفة والنزعات الشبابية الخاضعة لتقلبات المزاج وإحباطات الفشل والتحولات في القيم الحياتية والأخلاقية؛ ومن ثم تبلور نوع جديد من “الإرهاب الهجين” يجمع بين الدافع الديني والنزعة العدمية؛ مما يجعله أكثر قدرة على الاستقطاب والدفع نحو الفعل، وأقل عُرضة للرقابة الأمنية.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”