تقرير:

يكاد لا يسمع العربي والفلسطيني اسم أي رئيس أمريكي أو الولايات المتحدة الأمريكية حتى يعود ذهنه سريعاً إلى المجازر التي ارتكبها كيان الاحتلال الصهيوني طوال عقود بحق الشعب الفلسطيني برعاية أمريكية وسلاح ودعم عسكري ودبلوماسي وسياسي أمريكي، حتى صارت المتلازمة في العقل العربي والفلسطيني وفي كل دول الجنوب العالمي (المضطهدة) أن “كيان الاحتلال الصهيوني” هو أمريكا.

تختلف الآراء والتحليلات عادة بين أن هل “كيان الاحتلال” تابع للولايات المتحدة الأمريكية، أم أن الأخيرة تعمل لصالح المشروع الصهيوني في ظل سيطرة اللوبيات على المؤسسات الأمريكية السيادية، وفي المقابل فإن تغلغل العقائد الصهيونية في عقل الرؤساء الأمريكييين، والمصالح الاستراتيجية التي يحققها وجود كيان الاحتلال في منطقتنا، يجعل في المطاف الأخير من الحفاظ على التفوق الصهيوني والهيمنة على المنطقة مصلحة أمريكية لإدامة منع استقلال عربي وإسلامي يحقق إنهاء الاستعمار ونهب الثروات.

عرفت الولايات المتحدة الأمريكية منذ قيام كيان الاحتلال بعد نكبة الشعب الفلسطيني، في 1948، عديد الرؤساء لكن ما اجتمعوا عليه رغم اختلاف أيدلوجياتهم وعقائدهم السياسية والاجتماعية هو الاستمرار في دعم “كيان الاحتلال الصهيوني لقتل وتدمير وتشريد الشعب الفلسطيني”.

ترومان… صاحب أول اعتراف بكيان الاحتلال

كانت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس هاري ترومان أول دولة تعترف بـ”بكيان الاحتلال”، فور إعلان ديفيد بن غوريون قيام ما وصفها بدولة اسرائيل في أيار/ مايو 1948 على أنقاض مئات القرى والمدن الفلسطينية التي تدمرت وأجبر أهلها على الخروج منها تحت المجازر والقصف والهجمات الوحشية التي نفذتها العصابات الصهيونية.

وأطلق الاعتراف الأمريكي بكيان الاحتلال بداية الدعم الواسع على الصعيد الاقتصادي، والعسكري، والتسليحي، والسياسي

وكان ترومان أعلن في 1946 عن دعمه لفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين ودعا بريطانيا التي كانت قوة الاحتلال حينها إلى تسهيل انتقال اليهود إلى البلاد.

ورغم أن مسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية وأجهزة أخرى حذروا ترومان من قيام “كيان الاحتلال”، في فلسطين، بسبب خشيتهم من تحولها إلى تابع للاتحاد السوفياتي الذي كان أيضاً من المعترفين الأوائل بدولة كيان الاحتلال، في البدايات، قبل أن تتحول إلى حليف وتابع أمريكي في السنوات اللاحقة، إلا أن ترومان بدأ عهد التحالف الأمريكي – الصهيوني الذي سيصل في هذه المرحلة إلى الحد الذي تقود فيه الولايات المتحدة الأمريكية الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب.

آيزنهاور… الغضب من “كيان الاحتلال” والحرص على دعمه !!

يشير المؤرخون دائماً إلى مرحلة الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور بالموقف الذي اتخذه بإجبار كيان الاحتلال على الانسحاب من سيناء وغزة، بعد احتلالها، في العدوان الثلاثي (الصهيوني – الفرنسي – البريطاني).

تقول المصادر التاريخية إن آيزنهاور غضب من العدوان المشترك بين كيان الاحتلال، وفرنسا، وبريطانيا على مصر في 1956 جاء بسبب خوفه على المصالح الأمريكية في المنطقة، ولأنه اعتبر أن العملية أخذت أنظار العالم من الثورة في هنغاريا على الاتحاد السوفياتي.

ورغم “غضب” آيزنهاور من كيان الاحتلال الصهيوني وإجباره على الانسحاب من غزة وسيناء إلا أنه واصل التأكيد على دعم وجود كيان الاحتلال في المنطقة العربية والإسلامية، ورفض الطلب المصري بالتزود بالسلاح.

وفي عهد آيزنهاور الذي لم يكن الدعم التسليحي المباشر قد بدأ إلا أن قيمة المساعدات المالية الأمريكية لكيان الاحتلال كان يبلغ 100 مليون دولار.

كينيدي… رفع الحظر عن تسليح “كيان الاحتلال”

بعد وصوله إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، قرر الرئيس جون كينيدي رفع قرار ترومان وآيزنهاور حظر تسليح “كيان الاحتلال” وبدأ عهد الدعم العسكري المباشر لكيان الاحتلال، الصهيوني ووافق على تزويده بنظام “هوك” المضاد للصواريخ

كينيدي وصف العلاقات الأمريكية – الصهيونية بـ”العلاقة الخاصة” وأكد لرئيسة حكومة الاحتلال السابقة، غولدا مائير، على “القيمة المعنوية والأخلاقية”، حسب تعبيره، للدعم الأمريكي لـ”للاحتلال”.

هذا رغم أن بعض المصادر التاريخية تربط بين اغتيال كينيدي واللوبي الصهيوني و”الموساد” إذ ترى أن “اغتياله جاء بعد تصميمه على تفتيش المنشآت النووية الإسرائيلية التي أقيمت حينها من قبل فرنسا للتأكد من عدم تحولها إلى مفاعل عسكري”، وتقول إن منفذ الاغتيال كان في زيارة قبلها إلى دولة الاحتلال، وما زالت هذه الروايات لم تؤكد وفي إطار الجدال التاريخي.

عهد جونسون… حرب 1967 تثبت أهمية “كيان الاحتلال” الاستراتيجية

ير مختصون في العلاقات الأمريكية مع كيان الاحتلال أن انتصاره على الدول العربية، في حرب 1967، أثبت للولايات المتحدة الأمريكية أن “كيان الاحتلال ذات أهمية استراتيجية كبرى”، في المنطقة العربية والإسلامية، خاصة في فترة الصراع مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يقدم الدعم حينها لمصر وسوريا وقوى أخرى في المنطقة، بينها منظمة التحرير الفلسطينية.

الرئيس الأمريكي حينها ليندون جونسون كان يحمل “نظرة متعاطفة وعاطفية” تجاه كيان الاحتلال، كما تصفه دراسات تاريخية، وكان هو من ضغط على الرئيس آيزنهاور لمنع فرض عقوبات على “كيان الاحتلال” في حال لم تنسحب من غزة وسيناء خلال العدوان الثلاثي على مصر.

وكان جونسون أول رئيس أمريكي يمنح كيان الاحتلال منظومة أسلحة هجومية، وبعد الحرب أصبح “كيان الاحتلال” قوة عسكرية تعتمد عليه الولايات المتحدة في مواجهة التهديدات التي تواجهها مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في مواجهة القوى المدعومة من الاتحاد السوفياتي حينها.

وشاركت الولايات المتحدة حينها مع بريطانيا في ضمان تحقيق كيان الاحتلال انتصاراً سياسياً، بعد انتصارها العسكري في العدوان على الدول العربية، وانحازت إلى موقف حكومة ليفي أشكول الصهيونية التي رفضت الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها، وربطتها بإجبار الدول العربية على الاعتراف بها، وبقيت قضية احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة معلقة بالاعتبارات الأمنية والسياسية لكيان الاحتلال.

نيكسون… إنقاذ “كيان العدو الصهيوني”

تعرض كيان الاحتلال الصهيوني في عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لتجربة شديدة القسوة، بعد أن شنت القوات المصرية والسورية هجوماً على جبهتي سيناء والجولان، في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، تعرضت فيه قوات الاحتلال في الأيام الأولى لخسائر فادحة وانتكاسة كبيرة تقول مصادر صهيونية إنها دفعت وزير الحرب حينها، موشيه دايان، للتفكير باستخدام الأسلحة النووية.

تشير مذكرات القادة الصهاينة والأمريكيين عن تلك المرحلة، إلى الدور الذي لعبه مستشار الأمن القومي الأمريكي كيسنجر اليهودي الذي بقي ملتزماً بتوفير أسباب بقاء “كيان الاحتلال” وضمان تفوقه طوال حياته السياسية، في فتح المخازن الأمريكية لتزويد كيان الاحتلال بالأسلحة طوال أيام الحرب، بالإضافة لمساعيه السياسية والدبلوماسية لمنع العرب من تحقيق الانتصار، كما أعلن بوضوح في لقاءات إعلامية وصحفية لاحقة معه.

وبعد الحرب عمل كيسنجر على اتفاقيات ثنائية بين كيان الاحتلال والدول العربية، ضمن سياسة “خطوة بخطوة”، توازياً مع مخططاته لتهميش القضية الفلسطينية، ومنع عقد اتفاق شامل في المنطقة، يحقق قيام دولة فلسطينية مستقلة، وانشغل من خلال زياراته للمنطقة على السعي للتوصل لاتفاق بين مصر – وكيان الاحتلال وكذا بين سوريا وكيان الاحتلال يحقق إقصاء لمنظمة التحرير الفلسطينية ومطالبها بحق عودة اللاجئين وإقامة دولة فلسطينية، وضمان أمن “كيان الاحتلال” وإجبار العرب على الاعتراف بوجودها في المنطقة.

مرحلة جيرالد فورد… كيسنجر يقود مرحلة تأمين “كيان الاحتلال” في المنطقة

واصل كيسنجر في مرحلة فورد مساعيه لتحييد مصر وسوريا عن الصراع مع دولة الاحتلال، وسعى إلى توقيع اتفاقيات فض الاشتباك، وكان رحلاته المكوكية للمنطقة تهدف لضمان أمن “كيان الاحتلال” والاعتراف بوجوده في المنطقة، مع الاستمرار في تهميش القضية الفلسطينية.

وكان مؤتمر جنيف في 1973 الذي عقد بمساع أمريكية ومشاركة الأمم المتحدة والاتحاد السوفياتي ومصر والأردن، وإقصاء منظمة التحرير الفلسطينية، والتمثيل الفلسطيني، ضمن هذه الجهود التي قادها كيسنجر.

هذا مع استمرار الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي ورغم الخلافات الجزئية خلال مفاوضات فض الاشتباك على الجبهتين السورية والمصرية إلا أن كيسنجر أعلن في الجلسات مع الرئيس فورد هو أن السياسة المثلى مع ” كيان الاحتلال” هو “الاستمرار في احتضانه ودعمه ودفعه نحو تنازلات في المفاوضات”.

كارتر… التأسيس لقطع الطريق على دولة فلسطينية

كان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر يؤمن باستراتيجية في الشرق الأوسط تخالف ما سار عليه كيسنجر والرئيس فورد، وهو التوصل إلى اتفاق تسوية شامل يشمل جميع الأطراف، بما فيها تحقيق نوع من “الكيان السياسي” للفلسطينيين، الذي اعتبر أنهم حرموا من حقوقهم بعد تهجيرهم.

تقول مصادر تاريخية إن كارتر رسم خطة مع أقطاب الأمن القومي والخارجية في عهد حكومته للتوصل إلى حل شامل لمختلف القضايا، بما فيها القضية الفلسطينية واللاجئين وغيرها، وكان البند الأول في مساعيه هو ضمان “أمن كيان الاحتلال” وبقائها في المنطقة وقبول الدول العربية بها.

وبعد خطاب ذكر فيه كلمة “الوطن” للفلسطينيين ثارت عليها الجماعات اليهودية وأعلنت غضبها، وتراجع ليقول إنه يقصد قيام كيان فلسطيني ضمن ترتيبات أمنية إسرائيلية ومع الأردن، وأكد أن على منظمة التحرير الفلسطينية “نبذ الإرهاب”، حسب وصفه، والاعتراف بالقرارات الدولية وبحق “إسرائيل في الوجود”.

لكن في الواقع فإن خضوع كارتر لبرنامج مناحيم بيغن الذي كان وصوله إلى السلطة على رأس حزب “الليكود”، في السبعينات، بمثابة “انقلاب” في تاريخ السياسية الصهيونية، بعد سنوات من سيطرة حزب “العمل”.

أعلن بيغن من اللقاء الأول مع كارتر أنه يرفض أي انسحاب من الأراضي العربية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس أمام الفلسطينيين سوى التعامل معهم كأقلية “ثقافية” ولها “حقوق” اقتصادية وإنسانية، ولا سبيل لإقامة أي دولة فلسطينية.

رغم أن إدارة كارتر كانت تعلن معارضتها للتوسع الاستيطاني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أنها استمرت في دعم “كيان الاحتلال”، وكان الاتفاق الذي رعته بين مصر وكيان الاحتلال الذي عرف باسم “اتفاقية كامب ديفيد”، هو الأساس الذي حرم الفلسطينيين من أي دولة في المستقبل حتى لو على جزء من أرضهم التاريخية، بعد أن خضعت الولايات المتحدة الأمريكية ومصر لرؤية بيغن حول الحكم الذاتي الذي لا يمنح الفلسطينيين أي مقومات دولة ويبقيهم تحت الحكم كيان الاحتلال الاستعماري، وهو ما يسميه الباحث الأمريكي سث أنزيسكا “قطع الطريق على فلسطين” في الكتاب الذي أصدره، قبل سنوات، وتحدث فيه بالتفاصيل كيف أسس “كامب ديفيد” والإدارة الأمريكية والسادات لقطع الطريق على إقامة أي دولة فلسطينية، وكانت مباحثات الحكم الذاتي حينها هي الأساس الذي قامت عليه اتفاقية “أوسلو” التي قسمت القضايا الرئيسية ولم تحمل للفلسطينيين أي دولة حتى الآن.

ريغان.. اجتياح لبنان

حمل أرئيل شارون معه إلى وزارة الحرب في كيان الاحتلال مخططاً استراتيجياً لتغيير المنطقة على النمط الذي يريده “الاحتلال”، خطط لاجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، وتدمير منظمة التحرير الفلسطينية، وإجبار الفلسطينيين في المخيمات على الخروج إلى الأردن وإقامة دولة هناك تكون بديلاً عن الضفة وغزة.

زار شارون الولايات المتحدة الأمريكية قبل الاجتياح واجتمع مع أقطاب في إدارة الرئيس رونالد ريغان، وأطلع وزير الخارجية حينها ألكساندر هيغ على المخطط، كما تقول مصادر تاريخية مختلفة، ورغم التصريحات الأمريكية حينها حول معارضة الوصول إلى بيروت، إلا أن الوقائع تؤكد أن الإدارة الأمريكية كانت تريد من “الاحتلال” تدمير القوة العسكرية والسياسية لمنظمة التحرير في لبنان، لإجبارها على الخضوع لمطلب “الاعتراف بكيان الاحتلال الصهيوني” وجرها نحو اتفاقيات التسوية والقرارات الدولية التي تسقط الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في فلسطين كاملة.

لعب المبعوث الأمريكي حينها فيليب حبيب دوراً استراتيجياً في تحقيق الأهداف الإسرائيلية، من خلال ضغه الدبلوماسي المتزامن مع الهجوم العسكري، على الفلسطينيين والشخصيات اللبنانية المختلفة، لضمان تحقيق إخراج منظمة التحرير.

ورغم القرار الذي أصدره ريغان حينها بتعليق توريد أسلحة عنقودية إلى دولة الاحتلال، وأكمل وزير الخارجية الأمريكي شولتز الذي حل مكان هيغ الذي استقال خلال الحرب، مسار العمل السياسي الأمريكي لضمان تحقيق نجاحات سياسية إسرائيلية من الحرب بعد تدمير قوات منظمة التحرير.

وفي عهد ريغان اتخذت الولايات المتحدة مجموعة خطوات لدعم دولة الاحتلال، بينها التهديد بالانسحاب من الاتحاد البرلماني الدولي إذا أصدر قراراً يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وقررت اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في “الكونجرس” الأمريكي الموافقة على مشروع قرار نقل السفارة الأمريكية من “تل أبيب” إلى القدس المحتلة، وأكد وزير الخارجية الأمريكي حينها على رفض الولايات المتحدة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة رغم مساعي دول عربية وقيادات في منظمة التحرير للاتصال مع الأمريكيين وفتح مفاوضات للتوصل إلى اتفاقيات تسوية، وقررت الإدارة الأمريكية حينها إغلاق مكتب مقر منظمة التحرير لدى الأمم المتحدة.

بوش الأب… عهد جديد في المنطقة عنوانه اتفاقيات التسوية

كان عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب حافلاً بالانقلابات، في العالم والمنطقة، خاصة مع انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى عقب اجتياح العراق للكويت ودخول دول عربية في مرحلة المفاوضات للوصول إلى تسوية مع كيان الاحتلال.

عمل جورج بوش وإدارته على عقد مؤتمر دولي للسلام عرف بـ”مؤتمر مدريد”، شاركته فيه دول عربية بينها الأردن وممثلون عن الفلسطينيين، وضغطت الولايات المتحدة على كيان الاحتلال التي كان يقود حكومته حينها اسحاق شامير، للمشاركة فيه بعد تهديدها بوقف المساعدات.

ورغم الاندفاع الأمريكي للوصول إلى تسوية في الشرق الأوسط، تحقق الاعتراف العربي بـ”كيان الاحتلال”، ومنع المشاريع الأخرى التي تدعو لمقاومته وإزالته من الوجود، إلا أن المفاوضات في النهاية خضعت لتصور شامير الذي رفض الانسحاب من الضفة وغزة أو وقف الاستيطان واعتبر أن الاستراتيجية المثلى هي المفاوضات حتى النهاية.

ولم تزعزع الخلافات الجزئية بين حكومة الاحتلال والإدارة الأمريكية حينها على قضايا مثل تزويد السعودية بطائرات مقاتلة من الدعم الأمريكي لكيان الاحتلال خاصة في قضية القرض لتوطين اليهود الذين قدموا من الاتحاد السوفياتي.

كلينتون… السلام على الشرط الصهيوني

جاء بيل كلينتون إلى السياسة الأمريكية وهو يحمل مشروع توطيد “السلام”، في الشرق الأوسط، بداية من اتفاقية “أوسلو” التي حملت انقلاباً تاريخياً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي انتقلت من مربع حركة تحرر إلى “شبه دولة”، حصلت على شبه ما ثبته بيغن منذ عهد كارتر، وهو حكم ذاتي فلسطيني يريح “كيان الاحتلال” من الأعباء المادية والاقتصادية والاجتماعية لحكم الفلسطينيين المباشر، ويضم أجهزة أمنية فلسطينية على تنسيق مع أجهزة الاستخبارات والعسكر الاحتلال.

كان كلينتون من معارضي مناقشة ملف الاستيطان، في مفاوضات أوسلو، وجاء الاتفاق ليؤجل كل القضايا الرئيسية مثل القدس واللاجئين وغيرها، وطوال سنوات حكمه منح كيان الاحتلال دعماً كبيراً من خلال القروض والمنح، وكانت معارضة التوسع الاستيطاني على المستوى اللفظي، بينما منع إصدار قرارات من الأمم المتحدة لإدانة الاستيطان في الضفة والقدس وغزة.

وهكذا حصل كيان الاحتلال، في هذه السنوات، على الاعتراف الفلسطيني الرسمي به مع عدم الانسحاب من الضفة وغزة والقدس، والاستمرار في الاستيطان، وإغراق الفلسطينيين ودول الطوق العربي في مفاوضات التسوية والسلام.

وفي مفاوضات “كامب ديفيد” التي شارك فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات أمام رئيس حكومة الاحتلال حينها، إيهود باراك، انحاز كلينتون للموقف الصهيوني وحمَل القيادة الفلسطينية مسؤولية فشل المفاوضات.

وخلال عهده نفذ كيان الاحتلال عمليات عدوانية على لبنان، كما في عدوان “عناقيد الغضب”، في نيسان/ إبريل 1996، الذي كان للولايات المتحدة الأمريكية دور سياسي فيه من خلال زيارات وزير خارجيتها الذي حاول تحقيق إنجاز سياسي لصالح كيان الاحتلال.

هكذا استمرت السياسة الأمريكية في الخضوع للمطالب الإسرائيلية، رغم الخلافات الجزئية، واستمر حرمان الفلسطينيين من دولة حتى على أقل من مساحة أرضهم التاريخية

جورج بوش الابن… الحرب على المنطقة

جاء جورج بوش الابن إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، في أوج انتفاضة الأقصى، مدججاً بأفكار أعضاء إدارته الذين يمزجون بين التطلعات نحو الصهيونية والطموح لتغيير المنطقة العربية والإسلامية والقضاء على بؤر المقاومة فيها. واستغلت الإدارة الأمريكية عملية أيلول/ سبتمبر 2001 لإعلان الحرب على المنطقة تحت شعار “الحرب على الإرهاب”.

رئيس حكومة الاحتلال حينها، أرئيل شارون، أعلن أن حربه على انتفاضة الفلسطينيين ضمن الحرب الأمريكية على “الإرهاب”، وحظي بدعم مطلق من إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش، الذي توافقت معه على أهدافه حينها وهي القضاء على الانتفاضة، وضمان أمن “كيان الاحتلال”، وتدمير التنظيمات الفلسطينية، وإقصاء الرئيس ياسر عرفات، وتنصيب قيادة على السلطة الفلسطينية تسير وفقاً للبرنامج الذي أعلنه شارون في مؤتمر هرتسيليا للأمن وهو في خلاصته: فلسطيني خاضع مقابل بعض الحقوق.

نفذت الإدارة الأمريكية، خلال فترة الانتفاضة، برنامجاً مركباَ من الضغوط السياسية والدبلوماسية على السلطة ودول المنطقة، لوقف الانتفاضة، وتدمير الفصائل الفلسطينية، وواصلت تقديم الدعم العسكري والغطاء للمجازر والعمليات العدوانية التي نفذها أرئيل شارون، في الضفة وغزة، تزامناً مع الجهود لإحلال قيادة فلسطينية بديلة عن الرئيس ياسر عرفات، الذي اعتبر “كيان الاحتلال” والولايات المتحدة أنه يدعم العمليات وعقبة في وجه المرحلة الجديدة.

خلال هذه السنوات احتلت القوات الأمريكية العراق وأسقطت نظام صدام حسين، وكان ضمان “أمن كيان الاحتلال” من التهديد العراقي، ضمن حزمة الأهداف التي لم تعلنها الإدارة الأمريكية، وصار كيان الاحتلال يعلن أنه يريد تغيير المنطقة لصالحه.

وفي حرب 2006 على لبنان، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية حينها كونداليزا رايس عنوان الهجوم السياسي والدبلوماسي على المقاومة، وأعلنت أن أميركا تريد شرق أوسط جديد، على جثة المقاومة وجثث الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، وكان فشل جيش الاحتلال في الحرب كسراً للمشروع، كما شهدت فترة بوش الإبن الحرب الإبادية الأولى على غزة في 2008 التي ارتكب الاحتلال فيها مجازر بشعة باستخدام أسلحة أمريكية ودعم أمريكي.

أوباما… انتعاشة العلاقات رغم قناع “الخلافات”

سادت صورة النمطية للعلاقات بين إدارة أوباما وكيان الاحتلال هي الخلافات، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والاستيطان، وحل الدولتين، والملف النووي الإيراني، خاصة مع المزاعم التي حملها أوباما إلى المنطقة خاصة بعد انطلاق ما سمي بالربيع العربي حول نواياه لنشر السلام والتعاون مع العرب وإنصاف الفلسطينيين وغيرها.

تقرير لمجلس الأمن القومي الأمريكي يقول عكس هذه الصورة وهو أن العلاقات الأمريكية – الصهيونية في عهد أوباما، شهدت انتعاشة كبيرة.

وقع أوباما مع كيان الاحتلال في 2008 معاهدة تنص على تقديم دعم أمريكي له بقيمة 30 مليار دولار، خلال 10 سنوات، بالإضافة لمبلغ 3 مليار دولار لبناء نظام دفاعي جوي، وقدمت الإدارة الأمريكية 140 مليون دولار خلال 6 أعوام للمساهمة في نقل اليهود إلى فلسطين المحتلة، عارضت الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترته 18 قراراً في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد “كيان الاحتلال”.

ترامب… صهيوني صريح في الإدارة الأمريكية

مثل وصول دونالد ترامب نقلة نوعية لصالح تحقيق برامج اليمين واليمين الصهيوني الديني، في دولة الاحتلال، الذي أصبح قوة رئيسية، خلال السنوات الماضية.

أعلن ترامب منذ اليوم صهيونيته ومنح دولة الاحتلال عدة هدايا، خلال فترة رئاسته، بينها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وإعلان ما سميت ب”ًصفقة القرن” التي تعني منع قيام أي دولة فلسطينيو مستقلة، واعترف بسيطرة كيان الاحتلال على الجولان السوري المحتل، ووعد بضم الضفة الغربية له.

وأطلق ترامب وأركان إدارته مشروعاً لتطويع المنطقة، في الزمن الاحتلال، من خلال اتفاقيات التطبيع التي أشرفت عليها مع الإمارات، والبحرين، والمغرب، وفتح علاقات مع السودان وجهات أخرى في المنطقة بينها السعودية، لضمان سيادة كيان الاحتلال” على المنطقة العربية والإسلامية.

وكان هدف ترامب من الاتفاقيات بالإضافة لضمان بقاء “كيان الاحتلال” هو تهميش القضية الفلسطينية وجلب العرب إلى “التطبيع” حتى قبل تحقيق مشروع “حل الدولتين”.

بايدن… راعي حرب الإبادة

يمكن وصف الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، بأنه راعي “حرب الإبادة الجماعية” الصهيونية في قطاع غزة بداية ثم في لبنان.

منذ اللحظات الأولى للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن بايدن ووزير خارجيته بلينكن ووزير الدفاع أوستن ومختلف أركان الإدارة عن دعمهم المطلق لكيان الاحتلال في الحرب على الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، وزار الرئيس الأمريكي كيان الاحتلال، وتوالت زيارة المسؤولين الأمريكيين طوال هذه الشهور.

قدمت الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية العدوان على غزة أكثر من 14 مليار دولار لكيان الاحتلال، وفتحت مخازن السلاح له وشغلت قطاراً جوياً يحمل العتاد والصواريخ التي استخدمت في قتل الأطفال وتدمير المساجد والمنازل والمنشآت السكنية والمدنية والقطاع الطبي.

ودفعت الولايات المتحدة الأمريكية بحاملات الطائرات للمنطقة للدفاع عن دولة الاحتلال، وعملت على المستوى السياسي والدبلوماسي لمنع أي تدخل لوقف الحرب على غزة، أو تقديم دعم عسكري للمقاومة الفلسطينية، وعملت على حملة تضليل للمجتمع الدولي حول أنها حريصة على التوصل لاتفاقيات تهدئة وتبادل للأسرى، بينما دعمت باستمرار حكومة الاحتلال في الاستمرار في مخططاتها لتدمير المقاومة والسيطرة على غزة.

ولم تكتف بالدعم العسكري بل شاركت في الدفاع عن كيان الاحتلال، من خلال الدفاعات الجوية وقواعدها المنتشرة في المنطقة، في التصدي للهجمات الإيرانية، وعبر حلفائها الذين كانت دفاعاتهم الجوية حاضرة في التصدي عن “كيان الاحتلال”، وشاركت أيضاً في الحرب على لبنان من خلال الضغوطات السياسية والدعم العسكري والاستخباري كما تؤكد مصادر مختلفة.

ورغم حملة التضليل الإعلامي والحديث منذ بداية الحرب عن خلافات بين بايدن ونتنياهو، إلا أن الواقع يقول إن الولايات المتحدة دعمت حرب الإبادة منذ بدايتها وحتى الآن، وربما لم تتجاوز الخلافات التفاصيل الصغيرة التي تتعلق بحرص على أفضل صورة من “أمن كيان الاحتلال”، وقد منعت الإدارة الأمريكية حتى الإدانات الدولية في المؤسسات لدولة الاحتلال، وسعت إلى تجاهل وإخفاء تقارير صادرة حتى من وزارة خارجيتها تؤكد ارتكاب “كيان الاحتلال” للتجويع، في قطاع غزة.

 

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: المنطقة العربیة والإسلامیة الولایات المتحدة الأمریکیة منظمة التحریر الفلسطینیة کیان الاحتلال الصهیونی الإدارة الأمریکیة الخارجیة الأمریکی القضیة الفلسطینیة الاتحاد السوفیاتی من کیان الاحتلال کیان الاحتلال فی الشعب الفلسطینی الأمریکیة حینها الرئیس الأمریکی لکیان الاحتلال وکیان الاحتلال حکومة الاحتلال بکیان الاحتلال الضفة الغربیة دولة فلسطینیة الدول العربیة الدعم العسکری دولة الاحتلال الاستمرار فی الشرق الأوسط الانسحاب من على المنطقة الضفة وغزة فی المنطقة الحرب على فی الضفة جورج بوش الذی کان قطاع غزة خاصة فی من خلال على غزة أی دولة فی عهد إلا أن

إقرأ أيضاً:

حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه

في 19 مارس/ آذار 2024، ألقى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش خطابًا في العاصمة الفرنسية باريس، ظهر فيه على منصة دعائية خُصصت لفعالية تحمل خريطة مثيرة للجدل، تضم فلسطين، والأردن تحت مسمى واحد: "إسرائيل".

الخريطة التي كانت تحمل شعار إحدى المنظمات الصهيونية، تعكس تصورًا أيديولوجيًا توسعيًا يقوم على أن "إسرائيل الكبرى" تمتد لتشمل كامل الأراضي بين البحر والنهر، بل وتمتد أيضًا لتشمل الضفة الشرقية لنهر الأردن.

وجاء هذا المشهد متقاطعًا مع خطاب آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب في 15 أغسطس/ آب 2024، أعرب فيه عن دهشته من ضآلة مساحة "إسرائيل"، مقارنة باتساع المنطقة المحيطة، متسائلًا: "هل من طريقة يمكن أن تحصل بها إسرائيل على مزيد من الأراضي؟".

هذه التساؤلات وإن جاءت مغلّفة بلغة سياسية معاصرة، إلا أنها تعكس امتدادًا لخطاب استيطاني إحلالي قديم، لطالما استهدف شرق الأردن كجزء من الطموحات التوسعية الصهيونية.

البدايات الاستعمارية للفكرة: من لينش إلى أوليفانت

منذ منتصف القرن التاسع عشر، استهدفت المشاريع الاستعمارية الغربية -وفي مقدمتها المشروع الصهيوني- الأراضي الأردنية باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لفلسطين التوراتية.

فقد أرسلت الحكومة الأميركية عام 1848 بعثة بحرية بقيادة الضابط وليم فرانسيس لينش إلى نهر الأردن والبحر الميت، في أول مهمة رسمية ذات أهداف تتجاوز الجانب العلمي، وصولًا إلى البحث في إمكانية إنشاء وطن قومي لليهود في شرق الأردن، بما يشمل "ترحيل السكان المحليين إلى محميات بشرية"، على حد تعبير الوثائق المعاصرة.

إعلان

لينش، في تقاريره، لم يُخفِ انحيازه الأيديولوجي. فقد شبّه السكان المحليين بـ"الهنود الحمر" في أميركا، وعقد مقارنة مثيرة بينهم وبين السكان الأصليين في أميركا "الهنود الحمر"، الذين رأى أنهم كانوا متوحشين وتحولوا إلى متمدّنين بفضل الاستيطان الأوروبي.

وبهذا المنطق الاستعماري، استنتج لينش أن سكان شرق الأردن "عكسوا" تلك المسيرة، وأن استبدالهم ضروري لتحقيق التقدم. في تقريره، تنبأ لينش بأن "تفكك الإمبراطورية العثمانية"، سيُمهد لعودة اليهود إلى فلسطين، وصرح عقب رفع العلم الأميركي في المنطقة بأن ذلك "قد يبشّر بإحياء الشعب اليهودي".

لم تكن أفكار لينش استثناءً. في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات مماثلة. فقد دعا يهوشع يلين، أحد مؤسسي مستوطنة "نحلات شيفع" في القدس، إلى توسيع الاستيطان نحو شرق الأردن.

وفي عام 1871، أسس شركة بالتعاون مع رجال أعمال يهود، وادعى أنهم توصلوا إلى اتفاق مع بعض شيوخ عشيرة "عرب النمر" لفلاحة أراضي غور النِّمرين شمال شرقي البحر الميت.

وفي السياق نفسه، قدّم الضابط البريطاني في سلاح الهندسة السير تشارلز وارن، وهو أحد الباحثين المرتبطين بـ"صندوق استكشاف فلسطين"، مقترحًا صريحًا لتوسيع الاستيطان اليهودي شرقي نهر الأردن.

دعا وارن إلى تأسيس شركة استيطان تستأجر الأراضي من الدولة العثمانية مقابل سداد جزء من ديونها الخارجية، وذلك ضمن إطار رؤية استعمارية تجمع بين الطموح الصهيوني، والمصالح الإمبريالية البريطانية.

ومن أبرز الشخصيات الأوروبية التي قدمت دعمًا نظريًا وميدانيًا للمشروع الاستيطاني الصهيوني في شرق الأردن كان لورانس أوليفانت. ففي عام 1889، نشر الطبعة الأولى من كتابه النادر: "أرض جلعاد"، والذي دوّن فيه مشاهداته وآراءه عقب رحلته إلى لبنان، وسوريا، وفلسطين، وشرق الأردن في عام 1880.

إعلان

رأى أوليفانت في أراضي شرق الأردن "مساحات خصبة صالحة لأقصى درجات التطوير الزراعي"، مؤكدًا أن توفر الموارد الطبيعية والظروف المناخية، يجعل من هذه المنطقة هدفًا استثماريًا جذابًا للمهاجرين اليهود.

في تحليله للسكان المحليين، أشار أوليفانت إلى أن العشائر الأردنية المتجولة "لا تملك سندًا قانونيًا للأرض"، مما يجردهم -من وجهة نظره- من أي شرعية في الوجود.

بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وصفهم بأنهم نشروا "الخراب والفوضى"، وأن تهجيرهم إلى الصحراء التي جاؤُوا منها هو "الحل المنطقي"، على حد تعبيره.

أما المنطقة التي اقترحها للاستيطان اليهودي، فشملت كامل إقليم البلقاء من وادي الموجب جنوبًا إلى نهر الزرقاء شمالًا، وتمتد شرقًا إلى درب الحاج، وحتى أجزاء من عجلون شمال نهر يبوق (الزرقاء)، بمساحة تقارب مليونًا ونصف المليون هكتار، بحدود غربية تصل إلى نهر الأردن وساحل البحر الميت.

مشروع أرض مدين

لم تكن المحاولات الصهيونية للتمدد شرق نهر الأردن حكرًا على لورانس أوليفانت، بل مثّلت جزءًا من توجّه استعماريّ أوسع تجاوز الشخصيات الفردية وتحول إلى مشاريع متكاملة تقودها شخصيات، وجمعيات، ومؤسسات.

في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، حاول الثري اليهودي الألماني الأصل، بول فريدمان، تنفيذ مشروع استيطاني استعماري مشابه، ولكن هذه المرّة في منطقة مدين جنوب شرق الأردن، بدلًا من "جلعاد" التي كان أوليفانت يركز عليها.

نشر فريدمان في عام 1891 كُتيبًا من 18 صفحة بعنوان: "أرض مدين" في برلين، عارضًا فيه تصورات جغرافية واقتصادية وسكانية عن المنطقة، مدعومة بإحصاءات تفيد بأن عدد سكانها الأصليين حينها بلغ نحو 23 ألف نسمة.

وقد وُجّه هذا الكتيب إلى شخصيات يهودية نافذة في بريطانيا، والنمسا، وألمانيا بهدف كسب الدعم السياسي والمالي للمشروع. حاول فريدمان إقناع المهاجرين اليهود بأن السكان المحليين سيرحبون بهم، زاعمًا أن سكان العقبة ينحدرون من عشيرة يهودية تُدعى "بني سبت" احتفظت ببعض التقاليد الدينية اليهودية، واستنتج أن مدين كانت في الماضي جزءًا من الكيان اليهودي القديم.

إعلان

قام فريدمان بتجنيد خمسين متطوعًا من علماء ومهندسين وجغرافيين، إضافة إلى ثلاثين عائلة يهودية مهاجرة. تلقى هؤلاء تدريبات عسكرية في معسكرات خاصة بهنغاريا، والنمسا، بإشراف ضابط ألماني يُدعى لوثر فون سيباخ، بمشاركة ضباط يهود من النمسا.

وخصص فريدمان يختًا تجاريًا أطلق عليه اسم "إسرائيل"، حمّله بالمتطوعين، وكميات كبيرة من الذخائر والأسلحة وفّرها له الجيش النمساوي، ثم أبحر من ميناء ساوثهامبتون البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1891، تحت العلم النمساوي. انضمّ إلى الحملة خلال توقفها في الإسكندرية عدد من اليهود المصريين الناطقين بالعربية، وتوجهت السفينة إلى منطقة "الطور" قرب مدين، حيث نُصبت الخيام وأُنشئ معسكر في وادٍ قريب.

نجح فريدمان في شراء قطعة أرض قرب قلعة المويلح، وشرع بمحاولات إضافية لشراء مزيد من الأراضي في المنطقة. ومع أن المشروع انهار في نهاية المطاف، بعد أن كلّفه ما يعادل 170 ألف مارك ألماني، إلا أن فريدمان أصر على "إنقاذ الشرف اليهودي"، وفقًا لتعبيره، ورفع دعوى ضد الحكومة المصرية مطالبًا بتعويض قدره 25 ألف جنيه إسترليني، كما حاول إعادة تمويل المشروع لاحقًا.

مشاريع استيطانية

في ذات العام (1891)، أعلن إلياهو شيد، المسؤول عن مستوطنات البارون روتشيلد، نية البارون شراء أراضٍ شرقَ الأردن لتوطين ألف مستوطن، يليهم لاحقًا آلاف آخرون. أُثيرت تساؤلات حول البنية التحتية، فأكد شيد أن خططًا قائمة لتعبيد الطرق، بل وتُدرس مشاريع مثل مدّ خط سكة حديد أو قناة مائية تربط البحر الأبيض المتوسط ببحيرة طبريا.

وفي السياق ذاته، قام الحاخام شموئيل موهيلبر، أحد مؤسسي حركة "أحباء صهيون" في روسيا، بجولة ميدانية شرق الأردن، وأعد تقريرًا خلص فيه إلى أن الاستيطان هناك أفضل من الجليل، من حيث جودة الأرض وتكلفة شرائها، شرط وجود "مائة عائلة قادرة على مواجهة أخطار البدو".

إعلان

ومن روسيا أيضًا، كتب يهوشع سيركن، أحد زعماء الجماعات اليهودية في مينسك، تقريرًا يؤكد فيه خصوبة الأراضي ورخصها شرق الأردن، معتبرًا أن مخاوف الاعتداءات البدوية لا أساس لها من الصحة، وداعيًا إلى توطين عشرات الآلاف من الصهاينة فيها.

وقد أبدت جماعة يهودية من مدينة فيلنه السوفياتية اهتمامًا مباشرًا بالاستيطان، إذ قررت إرسال ممثل لدراسة شروط الإقامة في شرق الأردن. وفي مايو/ أيار 1891، قدمت عشرون عائلة يهودية ميسورة من باكو طلبًا إلى أ. زافشتاين، تستفسر فيه عن إمكانية شراء أراضٍ للاستيطان في المنطقة.

تكررت هذه المحاولات لاحقًا. ففي عام 1893، حاول هنري دي أفيغدور شراء أراضٍ في منطقة حوران لتأسيس قاعدة استيطانية، إلا أن المشروع فشل نتيجة رفض الدولة العثمانية، وغياب الدعم اليهودي الكافي.

وفي العام نفسه، قدم أفيغدور، بالتعاون مع صموئيل مونتاغو وباسم جمعية "أحباء صهيون"، التماسًا إلى السلطان عبدالحميد الثاني للسماح بالاستيطان شرق الأردن، بعد أن فُرضت قيود على شراء الأراضي داخل فلسطين.

كما طرح الدكتور بوهلندورف خطة لجمع عدد كبير من اليهود في شرق الأردن، وتنظيم عمليات مقاومة مسلحة ضد السكان البدو، بهدف تهجيرهم وتأسيس قاعدة لما وصفه بـ"الدولة اليهودية".

في خضم هذه التحركات، برزت قضية الأراضي السلطانية (الجفالك) التي نُقلت ملكيتها من السلطان عبدالحميد إلى الخزينة العامة عقب عزله عام 1909. وقد طلب نجيب إبراهيم الأصفر – إحدى الشخصيات اللبنانية النافذة- امتيازًا لاستئجار هذه الأراضي مقابل قرض بمائة مليون فرنك، شريطة استصلاحها وبيعها لاحقًا للزراع. لاحقًا، تبيّن أن شركة بلجيكية ذات صبغة صهيونية كانت المستأجر الفعلي، في محاولة للالتفاف على التشريعات العثمانية.

كشفت صحف سورية وفلسطينية، على رأسها جريدة الكرمل، هذه الصفقة، محذّرة من خطورة المشروع على الوجود العربي في جنوب سوريا، وفلسطين، وشرق الأردن، ومسلّطة الضوء على دور جمعية "فلسطين اليهودية" خلف الكواليس.

إعلان خطة روتنبرغ (1936): الترحيل الممنهج

في عام 1936، قدّم بنحاس روتنبرغ، أحد أبرز رموز المشروع الصهيوني الاقتصادي، خطة استيطانية طموحة تستهدف جانبي وادي نهر الزرقاء في شرق الأردن. قامت الخطة على تقسيم استيطاني دقيق، حيث تُخصّص الضفة الجنوبية للفلاحين العرب، فيما تُخصّص الضفة الشمالية للمستوطنين اليهود.

جاء هذا المشروع ضمن سياق أوسع يسعى لخلق تواصل جغرافي بين المستوطنات اليهودية في غور بيسان والباقورة، من جهة، والمناطق المستهدفة شرقي نهر الأردن، من جهة أخرى، بما يعزز السيطرة الصهيونية على مفاصل زراعية ومائية حيوية.

واقترحت الخطة إنشاء شركة خاصة برأس مال يصل إلى مليوني جنيه فلسطيني، يُخصص نصف هذا المبلغ لتمويل عملية إعادة توطين الفلاحين الفلسطينيين المُرحّلين من أراضيهم داخل فلسطين إلى أراضٍ جديدة في شرق الأردن، بينما يُخصص النصف الآخر لتوطين المستوطنين الصهاينة في المنطقة نفسها.

تُظهر خطة روتنبرغ هذا المزج الدقيق بين الطابع الاستيطاني الإحلالي والآليات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى لإضفاء مشروعية إدارية واستثمارية على مشروع جغرافي- سياسي قائم على الترحيل الطوعي للعرب والتوطين المنظم لليهود.

كما تعكس الخطة انخراطًا صهيونيًا متقدمًا في معادلة شرق الأردن، في وقت كان يُفترض فيه أن هذا الإقليم خارج حدود "وعد بلفور" المعلن رسميًا عام 1922.

أخيرًا، رغم فشل تلك المخططات المتعددة والمتتالية، فإن الأطماع الصهيونية في شرق الأردن لم تنتهِ، بل ظلت كامنة وتظهر كلما توفرت الفرصة، كما في التصريحات العلنية الأخيرة لرموز سياسية إسرائيلية، والتي تؤكد أن الأردن، بموقعه وحدوده، لا يزال في "عين العاصفة" ضمن التصور التوسعي للمشروع الصهيوني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • في ذكرى رحيله.. شعبان حسين “أبو تلاتة” الذي أضحك القلوب وترك بصمة لا تُنسى(تقرير)
  • أمريكا تكسر الصمت: هذا هو موقفنا من وحدة اليمن
  • حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه
  • مندوب الجامعة العربية في الأمم المتحدة: تحركات قوية لحماية الشعب الفلسطيني |فيديو
  • في ذكرى رحيله.. مدحت السباعي المخرج الذي كتب اسمه بين الكبار بصمت وعمق (تقرير)
  • تقرير عبري .. اقليم كوردستان يتحرك لتوثيق التعاون مع أمريكا وتحقيق التوازن مع تركيا وإيران
  • بت اقرب الان لقول المسؤولة الأمريكية التي قالت قبل أشهر ان السودان فاشل في عرض قضيته
  • فصائل المقاومة الفلسطينية توجه التحية للجيش اليمني وأنصار الله على الوقفة الصادقة لإسناد الشعب الفلسطيني
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • مسير وعرض لطلاب الدورات الصيفية في حجة تضامناً مع الشعب الفلسطيني