مصر تقود تحالف المَدِينِينَ وتدعو لتدشين نادي المقترضين.. إعلان إفلاس أم محاولة إنقاذ؟
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
عكس إعلان وزير المالية المصري، أحمد كجوك، دراسة مصر وشركاء دوليون إنشاء "ناد للمقترضين" لتوحيد مواقفها في إدارة الديون، ردود فعل بالأوساط الاقتصادية والسياسية حول نجاعة ودوافع ومآلات الخطوة، وقدرتها على فك رموز أصعب أزمة يعيشها المصريون خلال حكم رئيس النظام عبدالفتاح السيسي.
وأمام المؤتمر الاقتصادي المصري الأفريقي الأول بالقاهرة، قال كوجك، -يقود الوزارة منذ منتصف 2024- إن "إنشاء ناد للمقترضين، يسمح بتوحيد الصوت، وتبادل الخبرات، ووضع أجندة مشتركة للتعامل الجماعي مع قضايا الديون".
وخلال قمة "مجموعة العشرين" الشهر الماضي بجوهانسبرج، دعا مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة ورئيس فريق الخبراء المعني بالديون، المصري محمود محيي الدين، لإنشاء "نادي المقترضين" كإحدى توصيات لجنة خبراء الأمم المتحدة، لدعم الدول المدينة.
فرصة تصحيح أم إعلان إفلاس؟
الفكرة التي تباينت ردود الأفعال بشأنها بين مثمن لها كفرصة قد تخفف من أثقال الدين، وقائل إنها "تسيئ لسمعة اقتصاد مصر وملف الاستثمار بها"، فاقمت المخاوف من أن تكون إشارة لإعلان "إفلاس"، أو عجز ثاني أكبر اقتصاد قاري والثالث عربيا عن سداد فاتورة دين خارجي يفوق 5.162 مليار دولار.
ويرى مراقبون أنها قد تكون "خطوة نحو تصحيح خلل هيكلي بالنظام المالي الدولي، الذي يتمتع فيه الدائنون بوجود (نادي باريس) للدول الدائنة منذ عام 1956، و(نادي روما) الذي يضم صانعي السياسات العالمية منذ1968 ، بينما لا يوجد ناد للمقترضين، وأنها محاولة لفرض التوازن في طاولة المفاوضات، وفرصة لضخ أموال الديون المعادة جدولتها بمشاريع التنمية بدلا من خدمة الفوائد".
على الجانب الآخر، قد ترى بعض الدول والمؤسسات الدائنة، أنها محاولة من أنظمة الدول المدينة للهروب من المساءلة عن سوء الإدارة المالية المحلية أو الهروب من تطبيق إجراءات الإصلاح المؤلمة التي يطالب بها المقرضون الدوليون مثل صندوق النقد الدولي، مقابل التمويل".
وفي قراءتهم، يؤكد خبراء أن "إنشاء نادي للدول المدينة يعني أن تلك الدول بما فيها مصر، وصلت أقصى حدود قدرتها على تحمل الديون بالأسعار والشروط الحالية"، ويعتبرون أن "اتحاد الدول خطوة ذكية للتفاوض مع الدائنين على الإنقاذ قبل التعثر والانهيار والدخول في دوامة الركود الحاد، وفرصة لاستخدام رؤوس الأموال المستنزفة بخدمة الديون في الاستثمار والتنمية".
محاولات دولية سابقة
وحول مدى أهمية تدشين ذلك النادي، والذي يمكن أن يقدمه تحالف الدول المقترضة والمدينة من حلول لأزمة الديون، ومدى قبول الدول الدائنة والمؤسسات الدولية المُقرضة بتلك الخطوة، تحدث إلى "عربي21"، الخبير الاقتصادي عبدالنبي عبدالمطلب.
وقال إن "الحديث عن نادي للمدينين والمقترضين ناقشته لجان اقتصادية بالأمم المتحدة عام 2000، وعقدت مؤتمرات عن خطورة الدين العام على الاقتصاد العالمي، لكن الفكرة لم تلق اهتماما، لتجري منذ 2015، حوارات جادة حول الأزمة، خاصة مع ارتفاع الدين الأمريكي مستوى قياسي (36.56 تريليون دولار) آذار/ مارس الماضي".
ولفت المسؤول المصري السابق بوزارة التجارة والصناعة، إلى أنه "منذ عامين دعا الأمين العام للأمم المتحدة لعمل دراسة مستفيضة حول تأثير الديون على الاقتصاد العالمي، مطالبا بنظرة جديدة لإدارة الديون العالمية، بدلا من النظرة السائدة التي تقول: (مادامت الدول قادرة على دفع الأقساط والفوائد فلا توجد مشكلة)".
وأشار إلى أن "الأزمة إلى تفاقم حيث حذر اقتصاديون من تراجع قدرة الدول على دفع خدمة الدين، ما يتبعه مشاكل اقتصادية للشعوب، وحرمان الدول المدينة من استخدام مواردها بعمليات التنمية وتوليد دخول إضافية".
وحول أهمية تدشين نادي المقترضين، أكد الخبير الاقتصادي مجدي حسين، أنه "يمنح الدول المدينة صوتا تفاوضيا أقوى وجبهة موحّدة أمام الدائنين الكبار، ويتيح لها تبادل الخبرات بإدارة الديون والضغوط المالية، ويساعد في تنسيق إعادة هيكلة الديون، والضغط لأجل شروط أكثر مرونة، وتبادل سياسات تقليل المخاطر".
هل يحل أزمة مصر؟
وعن وضع مصر بهذه المعادلة، أوضح عبد المطلب، أن "مدفوعات الديون تلتهم تقريبا نسبة 100 بالمئة من إيرادات الدولة، ما يعني أن التزامات وفوائد الديون تقريبا في حجم الإيرادات المصرية؛ بل إن مدفوعات الديون بالربع الأخير من العام المالي الماضي تجاوزت إجمالي الإيرادات"، ملمحا إلى أن "الحديث فقط عن الدين الخارجي دون الداخلي".
وأكد أن "تدشين نادي المقترضين أو تكتل يضم الدول المدينة لتكون صوتا واحدا والاستفادة بالخبرات لمواجهة الدول الدائنة بنادي (روما) و(باريس) وبالمفاوضات مع الدول الدائنة؛ خطوة لإيجاد حلول لمشكلة الديون الخارجية، لا أقول إلغائها ولكن تقليل تأثيرها السلبي على عمليات التنمية، بإعادة هيكلتها وإلغاء وتخفيض الفوائد واستبدال بعضها باستثمارات".
إساءة لسمعة مصر
وفي السياق، انتقد الكاتب مصطفى عبدالسلام، المقترح المصري بتدشين ناد للمقترضين، مؤكدا أنه كان على الوزير "طرح خطة محددة لتقليص فاتورة الدين الخارجي لمصر، ويحدد موعدا نهائيا لوقف الاستدانة الخارجية، والحد من سياسة استبدال الديون وتدوير القروض".
وعبر صفحته بـ"فيسبوك"، أوضح أن دعوة "تأسيس تحالف للمقترضين يعطي انطباعا أن الحكومة المصرية تصر على إغراق البلاد بوحل الاستدانة الخارجية، ورهن مقدرات وثروات البلاد للدائنين"، معتبرا أنه "يسيء لسمعة مصر المالية والاقتصادية".
هل تقبل الدول الدائنة؟
وعن إمكانية التعاون بين النادي المقترح وبين تجمع الدول الكبرى الدائنة بنادي باريس وروما، والصين، وصندوق النقد الدولي، يعتقد عبدالمطلب، أن "ذلك يخضع لسياسة كل تكتل دائن، فرؤية الصين لإدارة ديونها تقوم على التواجد بالدول المدينة بالاستحواذ على موانئ واستبدال ديون باستثمارات، ضمن مبادرة (الحزام والطريق)".
وتحل مصر ثالثة بقائمة أكثر الدول الأفريقية اقتراضا من الصين منذ بداية الألفية الثالثة حتى نهاية 2023، بحجم قروض بلغ 9.7 مليار دولار، وفق مركز جامعة بوسطن لسياسات التنمية العالمية.
وحول صندوق النقد الدولي، أكد الخبير المصري أن "المسألة مختلفة؛ لأنه مؤسسة تُقرض دولها الأعضاء، ولأنه محكوم بقرار مجلس المديرين التنفيذيين لا أعتقد أن يبدي مرونة أو تنازلا عن بعض ديون الدول المدينة، فقط يمكنه إعادة هيكلتها، وببعض الأزمات كـ(جائحة كورونا) قدم دعما ومساعدات لأعضائه وليس قروضا".
وتحل مصر كثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، حيث حصلت منذ عام 2016، وحتى 2025، على حوالي 28 مليار دولار.
وبخصوص تجمع الدول الدائمة أو أعضاء نادي "روما" و"باريس"، توقع عبدالمطلب، "حدوث تفاهمات ومواءمات، تبدأ بإعادة جدولة الديون وربما يكون هناك إلغاء أو شطب جزء من الفوائد، وربما استبدال جزء من الديون باستثمارات".
وحول إمكانية تعاون النادي المقترح مع نادي باريس، والصين، وصندوق النقد الدولي، يرى الخبير مجدي حسين، أنه "ممكن لكنه معقد؛ لأن كل طرف له مصالح مختلفة"، موضحا أن "النادي المقترح قد يعمل ككتلة تفاوضية تتعامل مع هذه الجهات، ما قد يساهم بتعديل ميزان القوى وتحسين شروط التفاوض".
وتوقع ألا "تتنازل القوى الدائنة الكبيرة بسهولة عن نفوذها أو تسمح بقيام تكتل قوي من الدول المدينة يحد من تأثيرها؛ لكن التجارب أثبتت أن الدول حين تتعاون وتوحد مواقفها تستطيع على الأقل تحسين شروط التفاوض".
حجم الأزمة المصرية
تشير الأرقام الرسمية إلى وصول أزمة الديون المصرية لمنعطف خطير وغير مسبوق، خاصة وأن الحكومة تواصل الاستدانة بمزيد من القروض، وتدوير ما يحل موعد سداده منها، واستبدال الديون بأخرى جديدة، وتوجيه القروض لمشروعات ترفية وترفيهية دون قطاعات التنمية الاقتصادية والمجتمعية.
أحدث الأرقام كشفت أن فوائد الديون تلتهم أكثر من قيمة الإيرادات (863.9 مليار جنيه)، حيث أنفقت مصر 899.1 مليار جنيه على فوائد الدين بأول 4 شهور من العام المالي (2025/ 2026).
وزادت فوائد الديون العجز الكلي لموازنة مصر إلى 3.2 بالمئة بذات المدة مقابل 2.6 بالمئة من الناتج المحلي بالفترة نفسها العام الماضي، مسجلا 662.3 مليار جنيه مقابل 453.23 مليار جنيه، بحسب تقرير لوزارة المالية.
تفاقم العجز جاء مدفوعا بارتفاع إجمالي مدفوعات الفوائد المستحقة على الموازنة بنسبة 54.1 بالمئة لتصل إلى 899.1 مليار جنيه مقارنة بـ 583.4 مليار جنيه، مدفوعة بالنمو الكبير في الفوائد المحلية.
ووفق تقرير للبنك الدولي تصل استحقاقات الديون الخارجية بالربع الأخير من 2025، نحو 10.8 مليار دولار، فيما ترتفع بالربع الأول من 2026، إلى 23.96 مليار دولار، وفي الربع الثاني تبلغ 12.3 مليار دولار، بنحو (36 مليار دولار) بالنصف الأول من العام المقبل.
ويواصل البنك المركزي المصري الاقتراض عبر طرح أذون الخزانة المقومة بالدولار، بهدف سداد عطاءات سابقة حلت آجال سدادها.
والاثنين، طرح البنك أذون خزانة لأجل عام بـ950 مليون دولار، لسداد العطاء السابق في 3 كانون الثاني/ ديسمبر 2024، والمستحق الثلاثاء، ليقترض بذلك البنك المصري 2 مليار 480 مليون دولار في 20 يوما، بعد الطرح السابق 11 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
ويعقد صندوق النقد الدولي المراجعة الخامسة والسادسة لاقتصاد مصر، من الاثنين، وحتى 12 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، في إطار قرض المليارات الثمانية، ما قد يتبعه حصول القاهرة على 2.7 مليار دولار.
والخميس الماضي، أقرر السيسي قرض الاتحاد الأوروبي بقيمة 4 مليارات يورو، ضمن حزمة دعم أوروبية مقررة منتصف 2024، تُقدر بـ7.4 مليار يورو يتم صرفها حتى عام 2027.
خلل هيكلي خطير
وضع الديون المصرية، وصفه مجدي حسين، بأنه "خلل هيكلي خطير"، موضحا أن "البيانات المذكورة تعكس تحديا جوهريا في هيكل الموازنة العامة، إذ إن تجاوز مدفوعات فوائد الدين لحجم الإيرادات خلال 4 أشهر فقط يشير إلى اختلال هيكلي يتطلب معالجة عاجلة".
وأوضح لـ"عربي21"، أن "استمرار هذا النمط يعني أن جزءا متزايدا من موارد الدولة يُوجه لخدمة الدين بدلا من الاستثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية، وهو ما يحد من قدرة الاقتصاد على تحقيق نمو مستدام".
ويعتقد أن "الحل لا يكمن فقط في ضبط الإنفاق، بل في إعادة هيكلة أولويات الموازنة العامة، وتعزيز الإيرادات الحقيقية عبر توسيع القاعدة الإنتاجية، وتحسين مناخ الاستثمار، وتقليل الاعتماد على الاقتراض قصير الأجل مرتفع التكلفة"، موضحا أنه "بدون مسار واضح لخفض عبء الفوائد، ستظل الضغوط على الموازنة قائمة، بما يحد من قدرة الدولة على تنفيذ سياسات تنموية فعالة".
ومع تفاقم أزمة الديون الخارجية، تواصل القاهرة طرح شركات عامة وأراضي استراتيجية ومناطق حيوية يمس بعضها الأمن القومي على مستثمرين خليجيين، بصفقات يتم استخدام جزء منها لسداد خدمة الديون الخارجية، وفق تصريحات وزير المالية، أحمد كجوك، بحق صفقتي "رأس الحكمة" (35 مليار دولار)، و"علم الروم"، (3.5 مليار دولار).
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية المصري الديون السيسي صندوق النقد مصر السيسي صندوق النقد ديون المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صندوق النقد الدولی الدیون الخارجیة الدول المدینة ملیار دولار ملیار جنیه
إقرأ أيضاً:
الذهب والنفط والسلع الزراعية: كيف خسر السودان 40 مليار دولار في عقد واحد؟
عمر سيد أحمد
في بلدٍ أنهكته الحرب والانقسام وغياب مؤسسات الدولة، يطفو سؤال جوهري على السطح: كيف لاقتصاد يمتلك ذهبًا وفيرًا وموارد نفطية معتبرة وقطاعًا زراعيًا ضخمًا أن ينحدر إلى واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم؟ وكيف يمكن لثروات طبيعية تُعدّ من بين الأكبر في إفريقيا أن تختفي دون أثر يُذكر في المالية العامة، بينما يعيش المواطن تحت وطأة التضخم وانهيار العملة وشحّ الدولار؟
تكشف تقارير دولية حديثة أن القصة ليست مجرد فساد إداري أو سوء سياسة اقتصادية، بل هي نتاج منظومة مالية موازية تبتلع موارد الدولة وتخرجها عبر قنوات غير مشروعة، قبل أن تتحول – مع الحرب – إلى اقتصاد حرب يمول القتال ويزيد من تفكك الدولة. ووفقًا لتقرير Global Financial Integrity (GFI) الصادر عام 2020، فقد السودان نحو 5.7 مليارات دولار بين 2012 و2018 نتيجة التلاعب في الفواتير التجارية وحدها. لكن هذا الرقم، على ضخامته، لا يمثل إلا بداية القصة.
تقرير أحدث، نشره Sudan Transparency and Policy Tracker (STPT) في أغسطس 2024، يذهب أبعد من ذلك بكثير؛ فهو يكشف أن السودان خسر ما يقارب 28.9 مليار دولار من الذهب، و4.1 مليارات دولار من النفط خلال العقد الماضي، قبل أن تتفاقم الخسائر بعد حرب 2023، لتصل التقديرات الكلية إلى ما بين 38 و40 مليار دولار حتى عام 2024. هذه الأرقام لا تحكي قصة سوء إدارة مالية فحسب، بل تحكي قصة دولة تفقد السيطرة على مواردها الأساسية لصالح اقتصاد ظل يتغذى على ضعف مؤسساتها.
الفجوات التجارية: الشرارة الأولى للنزيف
قبل أن يصبح الذهب والنفط في قلب اقتصاد الحرب، كانت التجارة الخارجية هي المدخل الأول لفهم النزيف. ففي تقرير GFI، جرى تحليل فجوات التجارة السودانية من خلال مقارنة بيانات الجمارك السودانية ببيانات الدول الشريكة في التجارة، ليتضح أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين ما يعلن رسميًا وما يسجَّل في دفاتر الشركاء التجاريين.
خلال الفترة 2012–2018، قُدِّرت الفجوة بحوالي 5.7 مليارات دولار، وهي نتيجة لعدة ممارسات؛ أبرزها تضخيم فواتير الواردات بغرض إخراج المزيد من النقد الأجنبي، وتخفيض فواتير الصادرات لتقليل العائدات المعلنة، إضافة إلى تهريب حصائل الصادر عبر قنوات مصرفية موازية.
هذا النمط لم يكن مجرد فساد هنا أو هناك، بل كان يعكس بنية اقتصادية مزدوجة: دولة رسمية ضعيفة، واقتصاد موازي قوي، يتغذى على تعدد أسعار الصرف، وضعف الرقابة الجمركية، وتغوّل الشركات المرتبطة بالأجهزة الأمنية في النشاط التجاري. ومع الوقت، تحوّل هذا الاقتصاد الموازي من هامش إلى مركز، ثم وجد في الذهب فرصة تاريخية لتوسّع غير مسبوق.
الذهب: من أمل الإنقاذ إلى وقود الحرب
بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 وفقدان الخرطوم لثلاثة أرباع عائداتها النفطية، اتجهت الأنظار إلى الذهب باعتباره المنقذ الجديد للاقتصاد. إذ تشير التقديرات إلى أن السودان أنتج نحو 962 طنًا من الذهب بين 2011 و2022. غير أن المفارقة الصادمة هي أن ما دخل في السجلات الرسمية لم يتجاوز 352 طنًا فقط.
الفارق، وهو أكثر من 610 أطنان، يعادل في قيمته نحو 28.9 مليار دولار وفق متوسط الأسعار العالمية خلال تلك الفترة. هذا ليس مجرد تهريب عابر، بل هو استنزاف منظم لواحد من أهم الموارد السيادية في البلاد، يتم عبر شبكات تمتد من مواقع التعدين الأهلي وشركات الامتياز، إلى تجار حدود وسماسرة إقليميين، وصولًا إلى أسواق الذهب في دبي وغيرها.
الأخطر أن جزءًا كبيرًا من هذا الذهب لا يمر عبر النظام المصرفي، بل يُباع نقدًا أو عبر حسابات خارجية، بما يحرم الدولة من العملة الصعبة ومن القدرة على رسم سياسة نقدية مستندة إلى موارد حقيقية. ومع ضعف الرقابة، وتعدد الجهات النافذة، تحوّل الذهب إلى اقتصاد داخل الاقتصاد، له قواعده وشبكاته ومصالحه الخاصة.
ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، انتقلت قصة الذهب إلى مستوى جديد تمامًا؛ إذ أصبح الممول الأول للحرب. فمناطق التعدين في دارفور وكردفان وجبل عامر وقعت بدرجة كبيرة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، بينما بقيت مناطق الإنتاج في الشمال، وبعض معامل التكرير، أقرب إلى سيطرة الجيش. هكذا انقسم الذهب بين طرفين متحاربين، في ظل غياب شبه كامل لدور الدولة المركزية.
النتيجة ظهرت سريعًا في الأرقام: بين أبريل وأغسطس 2023، لم يسجّل السودان سوى تصدير رسمي قدره 2 طن فقط من الذهب، مقابل 18 طنًا للفترة نفسها من عام 2022. هذا يعني اختفاء 16 طنًا في غضون أربعة أشهر، تعادل قيمتها نحو 960 مليون دولار. وتشير تقديرات STPT إلى أن السودان يفقد، منذ اندلاع الحرب، ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار سنويًا من الذهب، معظمها يصبّ في تمويل الحرب أو يغذّي شبكات التهريب الإقليمية.
النفط: موارد تتسرب بين الأنابيب والدفاتر الموازية
النفط، رغم تراجعه بعد الانفصال، ظل جزءًا مهمًا من معادلة الموارد السودانية، خاصة عبر رسوم عبور نفط جنوب السودان. لكن هذا القطاع بدوره لم يكن بمنأى عن التلاعب والفجوات.
تقرير GFI يشير إلى أن السودان أعلن تصدير 62.3 مليون برميل نفط خلال 2012–2018، بينما سجّلت الدول المستوردة استلام 112.2 مليون برميل. الفارق، البالغ نحو 49.9 مليون برميل، يعادل خسائر مقدّرة بنحو 4.1 مليارات دولار. هذه الفجوة تكشف، مثل الذهب، عن وجود قنوات بيع خارج الدفاتر الرسمية، وأسعار غير معلنة، وعقود غير خاضعة للشفافية.
بعد اندلاع الحرب، أصبح النفط عنوانًا آخر لتقسيم الاقتصاد بين أطراف الصراع. الجيش يحتفظ بالسيطرة على خط أنابيب النفط الخام القادم من جنوب السودان، وعلى ميناء التصدير في بورتسودان، وعلى الشركة الوطنية المشرفة شكلًا على القطاع. في المقابل، سيطرت قوات الدعم السريع، لفترات حاسمة، على أجزاء من مصفاة الجيلي وعلى شبكات توزيع الوقود في العاصمة ومناطق أخرى.
في ظل هذا الوضع، لا تعود الأرقام الرسمية كافية لمعرفة أين تذهب عائدات رسوم العبور، ولا كيف يتم تسعير الوقود المستورد، ولا كم من الإيرادات يضيع عبر الرسوم الموازية والتهريب عبر الحدود. تقديرات STPT تشير إلى أن الفاقد الحالي من النفط والوقود ورسوم العبور الموازية يتراوح بين 1 و1.5 مليار دولار سنويًا، وهو رقم يُضاف إلى الخسائر التاريخية السابقة.
الصادرات الزراعية والحيوانية: الثقب الأسود المنسي
إذا كانت قصة الذهب والنفط قد حظيت ببعض الاهتمام الإعلامي والدولي، فإن قطاع الصادرات الزراعية والحيوانية يمثل الثقب الأسود الأقل تناولًا، رغم أنه مصدر فاقد كبير للاقتصاد السوداني.
فالسودان يُعد من أكبر منتجي السمسم في العالم، لكن جزءًا كبيرًا من هذه السلعة الاستراتيجية يُهرَّب عبر الحدود أو يُباع عبر وسطاء بسعر أقل من الأسعار العالمية، ما يفقد البلاد مئات الملايين من الدولارات سنويًا. تقديرات خبراء القطاع تشير إلى أن الفاقد من تجارة السمسم وحدها قد يراوح بين 700 و900 مليون دولار سنويًا، نتيجة التهريب والتسعير المتدني وفوضى القنوات التسويقية.
الأمر ذاته ينسحب على الثروة الحيوانية؛ إذ يُصدَّر عدد كبير من المواشي عبر موانئ خارج السيطرة الكاملة للدولة، أو عبر حدود مفتوحة مع دول الجوار، ما يحرم الخزينة العامة من رسوم الصادر والعبور. تقديرات غير رسمية تضع هذا الفاقد بين 500 و700 مليون دولار سنويًا.
ويأتي الصمغ العربي في مقدمة السلع التي تتعرض لظلم تسعيري وخسائر غير منظورة؛ فالسودان يسيطر على النسبة الأكبر من الإنتاج العالمي، لكنه لا يحصل إلا على جزء محدود من القيمة المضافة، بسبب بيع جزء من الصادرات عبر وسطاء، وبأسعار أقل من إمكاناتها الحقيقية، ما يفقد البلاد ما لا يقل عن 250–300 مليون دولار سنويًا.
وعندما نضيف إلى ذلك صادرات الفول السوداني والقطن طويل التيلة والحبوب الزيتية والكركدي، والتي كثيرًا ما تُباع بآليات مزدوجة تجمع بين السعر الرسمي والسعر الموازي، يصبح من الراجح أن يبلغ مجموع الخسائر في قطاع الصادرات الزراعية والحيوانية ما بين 2 و3 مليارات دولار سنويًا، في بلد يفترض أن يشكّل فيه هذا القطاع ركيزة الاستقرار الاقتصادي لا مصدرًا إضافيًا للنزيف.
اقتصاد الحرب: عندما يصبح النزيف شرطًا لاستمرار الصراع
ما تكشفه هذه الصورة الكلية هو أن السودان لم يعد يعيش حالة «فساد في ظل دولة»، بل حالة دولة في ظل اقتصاد موازٍ. فموارد البلاد الأساسية – الذهب، النفط، المحاصيل النقدية، والثروة الحيوانية – تتحرك اليوم في فضاء تتحكم فيه أطراف متعدّدة، بعضها مسلح وبعضها اقتصادي، بعيدًا عن الموازنة العامة وعن سلطة البنك المركزي ووزارتي المالية والتجارة.
بهذه الطريقة، يتحول الاقتصاد إلى أداة في خدمة الحرب، لا مشروعًا للتنمية أو إعادة الإعمار. فلكل طرف من أطراف الصراع مصادر تمويل ذاتية: الدعم السريع يعتمد بدرجة كبيرة على ذهب الغرب ومناطق التعدين، والجيش يعتمد على رسوم عبور النفط وعلى ذهب الشمال، وشبكات تجارية محلية وإقليمية تستفيد من تهريب السلع الزراعية والحيوانية. وفي الخلفية، تقف صناعة كاملة من الوسطاء والمضاربين وتجار الحدود وشركات الظل.
في مثل هذا السياق، تصبح الحرب أقل اعتمادًا على الموازنة العامة، وأكثر ارتباطًا باقتصاد ظل قادر على تمويل استمرارها. هذا ما يجعل إنهاء الحرب، من منظور اقتصادي، أكثر تعقيدًا؛ فإيقاف القتال لا يعني بالضرورة إيقاف تدفق الأموال التي تغذيه، ما لم يُمسّ جوهر اقتصاد الظل ذاته.
40 مليار دولار… وأكثر: حجم النزيف الكامل
إذا جمعنا الخسائر التاريخية والمستمرة التي تشير إليها التقارير المختلفة، تتضح لنا لوحة مقلقة:
28.9 مليار دولار فاقد تاريخي في الذهب؛ 4.1 مليارات دولار فاقد تاريخي في النفط؛ ما بين 3 و5 مليارات دولار سنويًا فاقد ذهب مستمر بعد الحرب؛ ما بين 1 و1.5 مليار دولار سنويًا فاقد نفط ووقود ورسوم موازية؛ ما بين 2 و3 مليارات دولار سنويًا فاقد في الصادرات الزراعية والحيوانية.ومن زاوية محافظة، يمكن القول إن السودان خسر ما بين 38 و40 مليار دولار حتى 2024، مع احتمال تجاوز الرقم 50 مليارًا إذا أُخذت في الاعتبار كل قنوات التهريب غير الموثّقة. هذا الرقم لا يمثل مجرد فاقد مالي، بل يمثل فقدانًا لفرصة تاريخية كان يمكن أن تغيّر وجه الاقتصاد لو استُثمرت هذه الموارد في البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والزراعة، والتصنيع.
خاتمة: السودان لا يفتقر إلى الموارد… بل إلى الدولة
في ضوء هذه الصورة، يبدو واضحًا أن مشكلة السودان ليست في غياب الموارد، بل في غياب الدولة القادرة على حمايتها وإدارتها. فبلد يملك هذا الحجم من الذهب والأراضي الزراعية والثروة الحيوانية والموقع الجغرافي، لا يمكن أن يُختزل إلى أزمة «نقص في الإمكانيات»، بل إلى أزمة في نظام الحكم والحوكمة.
إن وقف هذا النزيف لا يتطلب فقط وقف الحرب، رغم أن ذلك شرطٌ لا غنى عنه، بل يتطلب أيضًا تفكيك اقتصاد الحرب وإعادة بناء مؤسسات الدولة المالية والرقابية من الصفر تقريبًا: توحيد سعر الصرف، رقمنة الجمارك، إنشاء بورصة وطنية للذهب، ضبط تصدير المحاصيل، إخضاع رسوم عبور نفط الجنوب للشفافية الكاملة، وتمكين البنك المركزي ووزارة المالية من استعادة السيطرة على التدفقات النقدية.
السودان لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى دولة. ودون استعادة هذه الدولة لدورها السيادي على موارده، سيظل الذهب والنفط والسلع الزراعية تعمل لصالح اقتصاد ظل يعمّق الحرب، بدلًا من أن تكون ركيزة لسلام مستدام وتنمية حقيقية.
???? المصادر المعتمدة (مختارة ومحدودة)
Global Financial Integrity (GFI). Sudan and Trade Integrity: Assessing Illicit Financial Flows 2012–2018. Washington, DC: GFI, 2020. Sudan Transparency and Policy Tracker (STPT). On the Road to War: The Role of Illicit Financial Flows in Sudan. August 2024. OECD. Due Diligence Guidance for Responsible Mineral Supply Chains in Conflict-Affected Areas. Paris: OECD Publishing, 2020. UNCTAD. Illicit Financial Flows in the Extractive Sector in Africa. Geneva: United Nations, 2021. International Monetary Fund. Sudan: Selected Issues Report. IMF Country Report No. 20/61, 2020.الوسومعمر سيد احمد