آخر النص الاخير .. من كتاب شفرات حيونسانية ..در البقرة ..!
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
بقلم : حسين الذكر ..
لم تكن المرة الأولى التي تبعثني أمي ؛ كي أشتري إناء لبن يسمى بلهجتنا الشعبية ( طاسة روبة ) من جارتنا الحاجة ، حيث كانوا يربون بقرة في بيتهم وسط المدينة بحالة كانت تعد طبيعية ، بل حالة معتادة وصورة متكررة في بيوت وأحياء أخرى كجزء من يوميات حياة طبيعية لا تشكل مثلبة أو مخافة للبيئة المدنية أيام السبعينات من القرن المنصرم .
في كل مرة أذهب لشراء الروبة كانت تنتابني نوبتان : الأولى سعيدة ، وأحتاجها حد الاجتياح ؛ إذ كنت أعشق دخول تلك الزريبة الحيوانية البسيطة بأجوائها الخلابة في نفسي ؛ إذ تستقبلني الحاجة بقبلة ، وتصطحبني إلى نقطة قريبة من البقرة ، حيث تناولني الطاسة ، وما كان يرافق ذلك ويتبعه من مشاهد جميلة ما زالت تعشش في أعماقي حينما أرى البقرة بشكلها المهيب ، وضخامتها ، وعطائِها بمعين لا ينضب ولا يُستغنى عنه في عصر البداوة ، ولا في ذروة المدنية العولمية ، فضلاً عن انتشار مجاميع الدجاج ، وصياح الديك ، ومعاء الماعز والخروف ؛ إذ إن بيت جارنا كان أشبه بقرية ، وحديقة حيوانات أليفة داجنة وسط المدينة .
ذلك ما كنت أحتاجه وأعيشه بصورة غريزية ودوافع باطنية ما زالت مجهولة .
بعد عقود من تلك الأيام البريئة الجميلة التي لا يمكن أن تعاد أبداً .. أما النقطة الأخرى فقد كنت أخشى من ضخامة البقرة ، وما تبعثه من مخاوف في نفسي ، لا سيما ذلك الثور القريب منها ، والذي أشعر بهيجانه وثورته الدائمَين بقرنين مخيفين ، وأستغرب مع ثورته كيفية تعامل الحاجة معه بعفوية وتلقائية كأمه ربيبها أو وليدها ، أو أحد أفراد أسرتها ، حيث أحسدها على ذلك الاطمئنان الحيواني الذي تمارسه وتعيشه ، بينما يشتعل بركان بين جوانحي منذ دخولي الزريبة حتى هربي بطاسة الروبة التي أحياناً أبدأ بالتهام بعضها قبل أن أصل إلى البيت ؛ إذ طالما كانت أمي ترمقني بنظرة عين كلها ملامة وعتاب ، كأنها تحاسبني نظرياً عن دناءة نفسي التي لا تصبر ساعة حتى يحين موعد الغداء ، بينما ألتهم ربع طاسة الروبة او نصفها في الطريق ، في الوقت الذي كانت فيه مخصصة كلياً لوالدي الذي يتناولها كوصفة دواء شعبي ، وليست مجرد غذاء .
منذ تباشير الحياة ودبيبها الحثيث كانت البقرة شريك الإنسان في بيئته ، بل هي من أوائل الحيوانات والآلات التي أسهمت في التشييد التام للحقول والمزارع والمدن .
الماء هو عنوان كل شيء ونماء ، و كذلك البقرة بقدسيتها المفترضة كمصدر للغذاء والكثير من الخيرات ، لا سيما عند بعض الشعوب ظلت مصدراً للنماء والارتقاء والبقاء ، و استطاعت أن تبني علاقة وثيقة مع الإنسان برغم جثتها وشكلها وصوتها ، وكذا مخلفاتها الروثية المتعددة المقززة التي لا يمكن أن يتم التعاطي معها مدنياً إلا في حقل ، وتربة زراعية يمكن من خلالها صناعة الأسمدة ، وتأكيد فاعلية الأبقار وتأثيرها على الإنسان .
ذات صباح حزين نهضنا على عواء وصراخ في شارعنا الذي شدنا مباشرة إلى جمهرة الناس في بيت قريب ، تأكدنا بعد لحظات أنه بيت الحاجة أم ( الروبة ) ؛ إذ تناقل الناس وشايات عديدة حول موت زوجها الحاج ، بعضهم قال : إنه مريض ، وقد قضى عليه مرض عضال ، وشكك آخرون في الأمر ، وحضر رجال الشرطة بعد أن قيل أن بقرةً قد نطحت الثور و أطاحت به ، أو داسته وهو نائم في الحقل ، لا سيما أن القصة بدت طبيعية ، ولا تحمل طابعاً جنائياً ؛ إذ إن النوم في الحقول ، والاستمتاع بأنفاس الطبيعة ، والمشاركة /الحيوانسانية/ تبتهج بذروة نقائها حد التقاسم لجمالية الخلق والإبداع والإحساس البيئوي الطبيعي الذي نراه في الحقول والبساتين والمزارع .
أحدهم ذهب أبعد من ذلك ، حينما قال : إن المسألة لن تكون كذلك ، فعدم وجود البقرة وسط هذه الأجواء الملغمة أحدث همساً ، بل نتج عنه توجيه أصابع اتهام معينة ، بأن العلمية برمتها تعد نتاجاً ورد فعل طبيعي لعملية سرقة قام بها أحدهم ، وما تلا ذلك من مقاومة الحاج للصوص وهم يسرقون البقرة التي ربما أدت إلى ضربة أو وقعة جراء مقاومة نتج عنها فقدان حياة الحاج المحبوب من قبل أبناء المنطقة ، وما يعنيه من حزن ، وانكسار تنكس معه الرؤوس والأعلام على فقْد أحد أعلام المدينة ، بما يمثله كيان الحاج وأخلاقياته من مصدر أمان واطمئنان وسلام وتعاون مع أبناء المنطقة .
قال بعضهم إن الحاجة زهقت جراء متابعتها ومداراتها الطويلة ومراعاتها الثقيلة لمرض الحاج ، ما أدى إلى ثورة غضب عبرت عنها بفك أسر البقرة التي هربت إلى جهة مجهولة ، مع أن هذه الحكاية لم تصدق ، ولم يكن لها نصيب ،لا سيما أن الحاجة قد بدأت منكسرة أكثر الجميع ، متأثرة بفقد زوجها وراعي بيتها ، إلا أن الشك ظل يحوم حول جميع الشبهات ، …
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات لا سیما
إقرأ أيضاً:
اللغة القانونية وتأثيرها في الوعي الجمعي
عيسى الغساني
القانون أيًّا كان موضوعه، يتكون من مجموعة نصوص قانونية يطلق عليها مواد أو بنود قانونية، وهذه النص يحمل في جوهرة فكرة يسعي النص الي تبليغها الى عقل ووعي المخاطب بها وكل من له صلة او اطلاع او تأثر او تأثير، فكما هو معلوم، ان نصوص القانون أداة لبناء الوعي وتشكيل السلوك الفردي والجمعي. وبمعني اخر تجيب على تساؤل ماهي صورة القانون في الوعي الجمعي؟ وما الطريقة التي يفهم بها المجتمع العدالة، والحق والتزام.
الكلمة القانونية تختزل قوة مضاعفة وهي قوة النص وقوة الجهة المصدرة للنص فعندما يقال يجب، يلتزم فان اللغة هنا تتجاوز الدلالة اللفظية لتصنع توجيها سلوكيا بوجدان الفرد والمجتمع الذي بمرور الوقت يكون العادة وعند ثبات العادة تصبح ثقافة.
ولعلة من المدرك والمعلوم أن اللغة القانونية تبني وتزرع أهم قيمة معنوية للوعي الجمعي وهي مفهوم وصورة العدالة، والكلمة والوعي ثنائي مترابط، ذلك أن الكلمة خيال وصورة وشعور فعند وضوح الكلمة تتضح الدلالة، هذه المقدمة تقتضي بالضرورة وضوح النص القانوني وبعدة عن الغموض او البعد عن الواقع، فالغموض القانوني يُشوِّه العدالة، وهذا شرط اجتماعي ونفسي ليس لإنتاج الثقة؛ بل لصحة النص القانوني.
كيف يكون النص القانوني غامضا؟ يقاس النص القانوني بالغموض عندما يكون للنص اكثر من تفسير بحيث يوجه نحو غايات واهداف بعيدة عن غايات التشريع او القانون او اللائحة التي ينتمي اليها هذا النص. وأقرب مثال لذلك نفس الحالة القانونية الاولى تعامل بالإيجاب والأخرى بالسلب دون سبب معلوم هنا يتولد الغموض المعطل لبناء لثقة في النص القانوني. وهذا الغموض يولد الخوف من التعامل مع القوانين، وهن الثقة، دور أكبر للوسطاء، وعنصر نفسي هو تقلص الشعور بالمساواة امام القانون.
بيمنا اللغة القانونية والنص القانوني الواضح تجعل القانون متاحا أكثر انتشارًا وقبولًا، وهناك ثلاث مسافات لغوية للصياغة القانونية، أولًا: مسافة القاموس: استخدام مصطلحات صعبة لا توجد في الثقافة الاجتماعية وغير مفهومة وهذا غموض غير منتج اذ يشكل فراغ بين القانون والمتلقي. ثانيًا: مسافة الطبقة وهي احتكار المشتغلين بالقانون لحق المعرفة ولفهم وانهم الوحيدون فقط من لهم حق فهم وتفسير القانون وهذا ينشي الانفصام بين النص القانوني والمتلقي والمخاطب، وهنا ينشي الفراغ المعرفي يملي بأدوات اخري نفسية واجتماعية لا تنسجم مع اهداف وغايات القانون ومنها محاولة بناء أدوات سلوك التحايل على القانون. وثالثًا: مسافة الواقع وهي ابتعاد القانون عن الواقع المعاش وكلما زادت هذه المسافة قل ارتباط المجتمع بالقانون.
والقاعدة هي أن القانون يتحدث والمجتمع يستقبل؛ فالكلمات القانونية تمثل تأثيرًا خفيًا على الوعي، فعندما يسمع الناس كلمات مثل النظام العام والمصلحة العامة والخير العام تتشكل صورة أن القانون جزء من النظام الاجتماعي وأحد مكونات الرعاية والتماسك الاجتماعي والضبط الاجتماعي.
اللغة القانونية ليست مجرد لغة؛ بل أداة تقنية تبني الثقة او تهدما، تخلق القبول او الرفض، تقرب القانون من المجتمع او تبعده عنهم، والاهم تحول العدالة من نص مكتوب الى تجربة اجتماعية وواقع معاش.
وأخيرًا.. هل يمكن قياس النص القانوني قبل صدوره؟ الجواب أن هناك العديد من الأنظمة القانوني تستخدم اختبار الصدمة لقياس مدى الأثر قبل صدور القانون بحيث يُعدَّل النص ويُطوَّر قبل صدوره لتقليل أي أثر سلبي وتعزيز عناصر قوة القانون؛ فاللغة القانونية ليست حيادية؛ بل فاعل اجتماعي، ووعي المجتمع بالقانون يبدأ من وعيه بلُغته.
رابط مختصر