الدكتورة مونيكا حنا تكتب: تراث إنساني للأجيال
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
الآثار القبطية ليست فقط ملك الكنيسة القبطية، ولكن هى جزء من الإرث التاريخى للشعب المصرى ككل وجزء من الشخصية المصرية المعاصرة، ولا يجب أن يُنظر إليها فقط على دورها الدينى بل دورها الثقافى والمجتمعى، ولهذا تدمير الكثير من هذه الكنائس الأثرية أو ترميمها بشكل خاطئ يُعتبر جريمة فى حق التراث الإنسانى والأجيال القادمة، حتى لو بدافع جيد وهو إنشاء كنائس جديدة.
للأسف الشديد توجد مبانٍ أثرية وتاريخية دينية مهمة يتم هدمها من قبَل الكنيسة القبطية لبناء كنائس حديثة، وهو ما يخالف القانون فى أحيان كثيرة، فالكنيسة القبطية قوتها الحقيقية فى أنها تحمى تقليدها الأثرى والمعمارى والروحى منذ 2000 عام، ولكن فى الـ10 سنوات الماضية تم هدم العديد من الكنائس الأثرية والتاريخية أو ترميمها بشكل غير متخصص، مما أفضى إلى ضياع طرازها التاريخى والأثرى مثل كنيسة أبوسرجة فى مصر القديمة أو هدم مطرانية مطاى فى المنيا.
يجب أن تعى الكنيسة القبطية أن حفاظها على تاريخها القبطى ودورها فى المجتمع مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث القبطى الذى حافظت عليه لمدة 2000 عام وتفرط فيه اليوم بسبب عدم دراية القائمين من الأساقفة والمطارنة الذين يعتقدون أن نجاح هذه الأبرشيات هو ببناء كنائس حديثة بالرخام، والتى فى أغلب الأحيان يكون لها طراز معمارى سيئ جداً، لا يمت لعمارة الكنيسة القبطية الفريدة بصلة، ولذلك يجب الاستعانة بالمختصين خلال عمليات الترميم.
كذلك يجب اتباع ميثاق البندقية للترميم من خلال عدم الإخلال بالطبيعة الأثرية والتاريخية للمبنى الأثرى والتاريخى، وأن يكون هناك إشراف علمى حقيقى من خلال المكاتب الاستشارية الدولية والخبراء فى الترميم وليس فقط الأكليروس الكنسى الذين يهتمون بالكنيسة ولكن ينقصهم الكثير من الخبرة العلمية فى أسس الترميم السليمة، وهو ما أدى لترميم العديد من الكنائس والأديرة بشكل خاطئ، أضاع طرازها التاريخى وأهميتها التراثية، وأن تكون مستقبلاً لها دور فى السياحة العالمية.
هناك العديد من الكنائس والأديرة المهمة غير المعروفة بشكل كبير، ويجب المحافظة عليها من الهدم، وللأسف معظمها مبنى من الطوب اللبن الذى يحتاج لعمليات ترميم طويلة ودقيقة، ويجب حمايتها من الهدم مثلما حدث مؤخراً فى الدير الملحق بمعبد خونسو بالكرنك، الذى تم هدمه لبناء مخزن بالمنطقة الأثرية، مثلما تم فى القرن التاسع عشر فى الدير الأثرى فى معبد الدير البحرى.
أما عن كيفية أن نستفيد من آثارنا وتراثنا القبطى الفريد القديم والحديث فذلك من خلال ترميمها بشكل سليم، فالأصل فى الترميم هو الحفاظ على الشكل الأصلى للأثر، وليس إعادة بنائه، وهو ما يدمر موثوقية الأثر، مما يُفقد الأثر قيمته التاريخية والتراثية، وذلك للأجيال القادمة، وينبغى إعادة إحيائه بأشكال مختلفة فى حركة الفن والثقافة المعاصرة، لأنها تشكل جزءاً مهماً من الشخصية المصرية فى القرن الواحد والعشرين.
أيضاً، يجب إعادة هيكلة طريقة إدارة التراث القبطى كله، وأن يكون هناك صندوق تابع للكنيسة القبطية بالاشتراك مع وزارة الآثار لحماية وإدارة الآثار والتراث القبطى، وأن تتم مراجعة جميع أعمال الترميم من خبراء ومهندسين دوليين فى الترميم، بحيث لا يتم الإشراف فقط من داخل الكنيسة القبطية أو قطاع المشروعات مثلما هو متبع الآن، فالكنيسة القبطية الآن هى الحارس الأمين على هذا التراث الفريد، ويجب أن تحمى هذا التراث للأجيال القادمة من المصريين جميعاً من خلال الاستماع لذوى العلم والخبرة فى مجال الترميم السليم.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الآثار القبطية السياحة الدينية العائلة المقدسة الکنیسة القبطیة من خلال
إقرأ أيضاً:
البحرية اليمنية…إنقاذٌ إنساني في قلب المعركة، ورسالة رادعة من عمق البحر
في مشهدٍ يُجسّد التقاء القيم الإنسانية بالصلابة العسكرية، وزّع الإعلام الحربي اليمني مشاهد مصوّرة لعملية بحث وإنقاذ نفذتها القوات البحرية اليمنية لطاقم السفينة «إترنيتي سي»، بعد أيام من استهدافها وإغراقها في التاسع من يونيو نتيجة خرقها قرار الحظر البحري المفروض على موانئ الكيان الصهيوني.
لم تكن العملية مجرّد ردع عسكري ينتهي بإغراق هدف معادٍ فحسب، بل امتدت لتُبرز جانبًا آخر من أخلاقيات المعركة اليمنية، وهو الالتزام الإنساني تجاه الأرواح، حتى وإن كانت من طاقم سفينة اخترقت الحظر وتعاونت مع عدو الأمة. وعلى مدى يومين متواصلين، خاضت فرق البحرية اليمنية عملية بحث معقدة وسط أمواج البحر المفتوح، حتى تمكنت من إنقاذ 11 فردًا من طاقم السفينة، بينهم جريحان تلقيا الرعاية الطبية اللازمة، في حين تم انتشال جثة أحد أفراد الطاقم من داخل السفينة قبل غرقها، ونُقلت إلى ثلاجة مستشفى ميداني.
إن ما كشفته المشاهد المصوّرة من لحظات الإنقاذ، يعكس بجلاء أن العمليات العسكرية اليمنية لا تنطلق من نزعة عدوانية أو عقلية انتقام، بل من رؤية منضبطة تُحكمها القيم والمبادئ، وتوازن بين مقتضيات الحرب وضرورات الإنسانية. هذه هي المدرسة التي تخرّج منها المجاهدون اليمنيون، الذين لم تمنعهم قسوة المواجهة ولا حرارة الميدان من الالتفات إلى الجريح والناجي، أياً كان انتماؤه أو موقعه.
وفي تسجيلات موثّقة، أدلى طاقم السفينة باعترافات صريحة، مؤكدين أن «إترنيتي سي» كانت متجهة إلى ميناء أم الرشراش (إيلات) في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في مهمة تجارية لصالح الكيان الصهيوني، انطلاقًا من ميناء بربرة في الصومال، في حين تم إدراج ميناء جدة السعودي كوجهة ظاهرية لغرض التموين والتمويه.
لم تكتفِ هذه الاعترافات بتأكيد مشروعية العمل العسكري اليمني، بل حمَلَت معها إدانة ضمنية للكيان الإسرائيلي ولكل من يتعاون معه تجاريًا، إذ وجّه أفراد الطاقم رسائل واضحة وصريحة إلى شركات الملاحة الدولية: «توقفوا عن المتاجرة مع إسرائيل، فالبحر لم يعد آمنًا لمن يخترق قرارات الشعوب الحرة ويستخف بدماء الفلسطينيين.» كما لم يتردد أفراد الطاقم في التعبير عن اعتذارهم للشعب الفلسطيني، مؤكدين أن ما حدث لم يكن خيارًا شخصيًا لهم، بل قرارًا فُرض عليهم في إطار العمل التجاري الدولي.
إن هذا التطور النوعي، الذي يجمع بين البعد الإعلامي والعسكري والإنساني، يؤكد أن البحرية اليمنية لم تعد مجرد قوة دفاعية تحرس المياه الإقليمية، بل أصبحت قوة إقليمية فاعلة ترسم خطوطًا حمراء وتفرض معادلات جديدة في قلب البحر الأحمر وخليج عدن. فلم تكن عملية استهداف «إترنيتي سي» مجرد ضربة عسكرية فحسب، بل كانت رسالة استراتيجية مزدوجة: واحدة موجهة للعدو الصهيوني بأن الحصار لن يمرّ، والأخرى موجهة لكل من يتعامل معه بأنهم تحت طائلة الاستهداف.
لقد غيّرت هذه العملية قواعد الاشتباك، وأعادت تعريف مفهوم السيادة البحرية في زمن الصراع الشامل. فاليمن، رغم العدوان والحصار، لم يتخلّ عن مسؤوليته القومية، بل تصدّر مشهد الردع البحري دفاعًا عن فلسطين وعن كرامة الأمة، في الوقت الذي صمتت فيه أنظمة تمتلك أساطيل بحرية وجوية لكنها رهنت إرادتها للوصاية الأجنبية.
إن رسالة طاقم السفينة، التي بثّها الإعلام الحربي، لم تكن عابرة، بل تعبّر عن حجم التأثير اليمني في وعي الأعداء والمتواطئين، وتؤكد أن من يخاطر بالإبحار نحو موانئ الاحتلال، يخاطر بمصيره وسمعته وربما بحياته.
وفي المحصلة، فإن عملية «إترنيتي سي» لم تكن مجرد نجاح أمني أو عسكري، بل نموذج متكامل لعملية نوعية جمعت بين الحسم والرحمة، وبين الصرامة والإنقاذ، لترسل إلى العالم أجمع صورة ناصعة عن مقاومة تعرف متى تضرب، ومتى تُنقذ، ومتى تتحدث بلسان الأخلاق والمبادئ.
هذه هي اليمن… تصنع المعجزات في زمن الانحدار، وتُبحر بثقة من بحر العزة نحو شاطئ الحرية، حاملةً لواء القدس، وراية الأمة، وضمير الشعوب.