مرافعة الطبقة الوسطى في الحرب السودانية
تاريخ النشر: 27th, February 2025 GMT
مرافعة الطبقة الوسطى في الحرب السودانية
كارثة سقوط المدن عسكرياً تمهيد لفصل إداري للمدن وليس فصل سياسي للأقاليم 6
▪️مقدمة
لطالما شكّلت الطبقة الوسطى العمود الفقري للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في السودان، حيث تجمع بين الموظفين، المهنيين، أصحاب المشاريع الصغيرة، ورواد الأعمال الذين يشكلون النواة الأساسية للإنتاج والاستهلاك.
إن مستقبل السودان مرتبط إلى حد كبير بمصير طبقته الوسطى، فإذا ما استمر انهيار هذه الفئة، فإن الدولة ستدخل في مرحلة انهيار شامل لن تقتصر على الاقتصاد فقط، بل ستشمل جميع نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية. لهذا، لا بد من دراسة أوضاع الطبقة الوسطى في السودان، تأثير الحرب عليها، وكيف يمكن إنقاذها قبل فوات الأوان.
▪️الطبقة الوسطى: المفهوم والتركيب
ما هي الطبقة الوسطى؟
على الرغم من تعدد التعريفات لمفهوم الطبقة الوسطى، والتأكيد على اتسامها بدرجة عالية من التباين في مستويات التعليم والدخل والمكانة الاجتماعية، إلا أن هناك اتفاقًا واسعًا على أنها تجمع بين بعض سمات القوة العاملة (مثل عدم امتلاك وسائل الإنتاج في معظم الأحيان) وبين بعض صفات البرجوازية (مثل المشاركة في إدارة رأس المال والسيطرة جزئيًا على السوق).
وتشمل هذه الطبقة:
• الموظفين والمهنيين من أصحاب المرتبات والدخول الثابتة، مثل المعلمين، الأطباء، المهندسين، المحامين، والمحاسبين.
• أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مثل التجار والحرفيين وأصحاب المصانع الصغيرة.
• أصحاب الحيازات الزراعية المتوسطة، مثل المزارعين الذين يمتلكون مساحات زراعية صغيرة أو متوسطة.
• الشرائح العليا من موظفي القطاع الخاص، الذين يحصلون على دخول جيدة ولكنهم لا يملكون وسائل الإنتاج الكبرى.
• العاملين في مجال المعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة، الذين ظهروا مع العولمة ويمارسون أعمالًا قائمة على الخدمات الرقمية والبرمجيات.
• الرعاة والعاملين في قطاع الثروة الحيوانية، الذين يشكلون قطاعًا حيويًا في الاقتصاد السوداني، حيث يعتمد ملايين المواطنين على منتجاتهم الغذائية.
▪️أهمية الطبقة الوسطى في الاقتصاد والمجتمع
تمثل الطبقة الوسطى الركيزة الأساسية للنمو الاقتصادي، فهي تستهلك المنتجات، تستثمر في التعليم والصحة، وتساهم في استقرار السوق عبر الطلب المستمر على السلع والخدمات. كما أنها تُعتبر الأساس لاستقرار الأنظمة السياسية، حيث ترتبط غالبًا بالنشاط المدني، والمشاركة في الحياة العامة، ونشر قيم الحداثة والديمقراطية.
لكن في السودان، تواجه هذه الطبقة اليوم خطر التلاشي بسبب الحرب المستمرة، حيث فقدت مصادر دخلها، وتراجعت قدرتها على الاستثمار في أبسط متطلبات الحياة، مما أدى إلى تحولها نحو الطبقة الفقيرة أو حتى إلى النزوح خارج البلاد.
الاقتصاد في ظل حكومتين: الطبقة الوسطى في مهب الريح
1. تدمير القطاع الصناعي: الطبقة الوسطى تفقد مصادر رزقها
قبل الحرب، ساهم القطاع الصناعي بنسبة 21% من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لتقارير بنك السودان المركزي. لكنه واجه تحديات كبرى مثل ضعف التمويل، ارتفاع تكلفة التشغيل، أزمة الطاقة، الضرائب الباهظة، وإغراق الأسواق بالسلع المستوردة. ومع اشتداد الحرب، تعرض حوالي 90% من القطاع الصناعي للدمار، حيث تضررت (3,493) منشأة صناعية في ولاية الخرطوم وحدها، شملت:
• المنشآت المتوسطة والكبيرة، حيث فقد 150,000 عامل وظائفهم.
• المنشآت الصغيرة، حيث فقد 100,000 عامل أعمالهم.
بذلك، تضرر 250,000 فرد من الطبقة الوسطى الذين كانوا يعتمدون على وظائف القطاع الصناعي، مما أدى إلى انزلاق آلاف الأسر إلى الفقر.
2. انهيار القطاع الزراعي: تدمير الإنتاج المحلي
يُعد القطاع الزراعي من القطاعات الأساسية في السودان، حيث يساهم بنسبة 32.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ويشمل ملايين المزارعين الذين تعتمد عليهم الطبقة الوسطى والفقيرة في الغذاء والاستهلاك. لكن الحرب تسببت في:
• نقص حاد في الإنتاج الزراعي بسبب انعدام الأمن وغياب التمويل اللازم للمزارعين.
• فقدان السودان 50% من محاصيله، ما أدى إلى أزمة غذائية حادة.
• تراجع زراعة الحبوب، مما أدى إلى زيادة الاعتماد على الواردات وارتفاع الأسعار.
3. تأثير الحرب على قطاع الثروة الحيوانية
يعتمد ملايين السودانيين على قطاع الثروة الحيوانية الذي يشكل مصدر دخل رئيسي لكثير من أفراد الطبقة الوسطى، سواء في شكل مزارع دواجن، أو تجارة الماشية، أو الصادرات الحيوانية. لكن الحرب تسببت في:
• فقدان 50% من القطيع القومي بسبب غياب الأمن والنهب.
• توقف الصادرات الحيوانية، خاصة نحو مصر، بسبب غياب الاستقرار وتضرر طرق النقل.
• تأثر قطاع الدواجن بنسبة 85%، حيث تركز الإنتاج في ولايتي الجزيرة والخرطوم، وكلاهما تضرر بشدة.
4. انهيار قطاع الخدمات: فقدان الوظائف وانخفاض الإيرادات
يُعتبر قطاع الخدمات الأكثر ارتباطًا بالطبقة الوسطى، حيث يشمل المعلمين، الأطباء، المهندسين، المحامين، موظفي الحكومة، التجار، والعاملين في مجالات المال والتكنولوجيا. ووفقًا لتقارير بنك السودان المركزي، كان هذا القطاع يساهم بنسبة 46% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن الحرب أدت إلى:
• إغلاق آلاف الشركات والمؤسسات الخدمية بسبب النزوح والدمار.
• تراجع الإيرادات الحكومية بنسبة 80%، ما أثر بشكل مباشر على رواتب الموظفين.
• فقدان أكثر من 8-9 ملايين وظيفة، تشمل القطاعين الرسمي وغير الرسمي، أي ما يعادل 60-65% من الوظائف في البلاد.
▪️خاتمة: نحو مستقبل مظلم
رغم هذه التقديرات الواردة في التقارير الرسمية والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الحكوميين، والتي تعكس الأرقام الأولية لحجم الضرر، إلا أنها قد تكون أقل من الواقع الفعلي نظرًا لعدم القدرة على حصر جميع الأضرار في ظل الظروف الأمنية المعقدة، وانهيار البنية التحتية الإدارية التي كانت تساهم في جمع البيانات الاقتصادية والاجتماعية.
مع استمرار الحرب والانقسام الإداري في السودان، وتشكيل حكومة موازية لقوات الدعم السريع في مناطق سيطرتها، تتجه الطبقة الوسطى إلى مرحلة خطيرة من التهميش والقمع. فقد أصبحت هذه الطبقة تعيش تحت تهديد السلاح، وتواجه مصادرة حقوقها، وإفقارها بشكل ممنهج، حيث لم تعد تملك القرار السياسي أو الاقتصادي، ولم تعد قادرة على الإنتاج والمساهمة في بناء الدولة.
إن أخطر ما في الأمر هو أن التشظي السياسي الحاصل اليوم ينذر بوضع بذور الانفصال المستقبلي، حيث تتجه البلاد نحو انقسامات عميقة قد تجعل من إعادة توحيد السودان مهمة مستحيلة.
احمد بن عمر
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الطبقة الوسطى فی القطاع الصناعی هذه الطبقة فی السودان ما أدى إلى لکن الحرب حیث فقد قطاع ا
إقرأ أيضاً:
دائرة مفرغة.. هل دخلت حرب السودان نفق الاستنزاف؟
تتجه الحرب في السودان نحو مرحلة أكثر تعقيدا واتساعا، مع انتقال ثقل المواجهات إلى ولايات كردفان ودارفور وتصاعد الهجمات والهجمات المضادة دون قدرة أي طرف على تحقيق حسم واضح.
ويعكس هذا المسار واقعا ميدانيا يقوم على حرب استنزاف طويلة الأمد، يتكئ فيها الجيش السوداني -حسب محللين- على شرعية الدفاع عن الدولة ومؤسساتها، في حين تراهن قوات الدعم السريع على القدرة على السيطرة الميدانية وتثبيت واقع جديد على الأرض.
وفي قراءة لمسار الحرب ورهانات طرفيها، يرى الكاتب والمحلل السياسي عبد الماجد عبد الحميد أن ما يجري في جبهات القتال "استمرار طبيعي للحرب"، مؤكدا أن الجيش "يدافع عن أرض السودان" ويتقدم وفق "خطة واضحة" لتأمين شمال كردفان وغربها واسترداد المناطق التي "دنستها مليشيات التمرد".
ووفق حديث عبد الماجد لبرنامج "ما وراء الخبر"، فإن الحرب بدأت بـ"تمرد داخل القصر الجمهوري" بهدف السيطرة على السلطة، واصفا "الدعم السريع" بأنها "مليشيا بلا رؤية ولا برنامج" خانت الجيش وهاجمته من الداخل.
وأكد أن الجيش يخوض "واحدة من أعقد الحروب في العالم"، إذ تمكن من طرد الدعم السريع من الخرطوم إلى مناطق أخرى، مؤكدا أن الجيش والشعب السوداني يعتمدان على "النفَس الطويل" لحسم التمرد.
ونفى عبد الماجد اتهامات الطرف الآخر بشأن رفض التفاوض، مشيرا إلى أن مرجعية الجيش "مبنية على اتفاق جدة" الذي وقّعته قوات الدعم السريع ثم "تنصلت" من التزاماتها، وفق تعبيره.
ومنذ أسابيع، تشهد ولايات كردفان الثلاث (شمال وغرب وجنوب) اشتباكات عنيفة بين الجيش والدعم السريع، ضمن حرب اندلعت في أبريل/نيسان 2023، ما تسبب بمقتل عشرات الآلاف ونزوح نحو 13 مليون شخص.
تقسيم السودانأما رئيس تحرير صحيفة "الوسط" السودانية فتحي أبو عمار فرسم صورة مغايرة، معربا عن قناعته بأن السودان "تقسم عمليا" إلى منطقتين وحكومتين وجيشين، وأن أحد الطرفين يرفض الحل السياسي ويصر على استمرار الحرب.
إعلانوحسب أبو عمار، فإن الظروف الميدانية أتاحت للدعم السريع السيطرة على "أكثر من نصف السودان، بما يشمل دارفور ونحو 90% من كردفان"، وأن احتمالات تقدمه تبقى قائمة.
كما أن انسحاب الدعم السريع من بعض المناطق لم يكن بسبب تفوق عسكري مباشر للجيش -وفق أبو عمار- بل نتيجة ما يسميه "المسيّرات الإستراتيجية والسلاح الكيماوي" الذي استخدم بكثافة في جبهات محددة، وهو ما أجبر قوات الدعم السريع على إعادة التموضع.
وأكد أن الرواية التي تتهم طرفا واحدا ببدء الحرب "غير صحيحة" بنظره، مشيرا إلى أن جذور الصراع أعمق من لحظة الانفجار العسكري، وترتبط -كما يقول- بـ"حكم السودان بالحديد والنار لعقود طويلة"، وهو ما أنتج دولة هشة وبنى أمنية متنازعة أوصلت البلاد إلى هذا المشهد.
"دائرة مفرغة"من جانبه، قال الكاتب الصحفي عثمان فضل الله إن الحرب تحولت إلى "قتال استنزاف" ينهش الطرفين والمدن والمجتمعات المحلية على حد سواء، مشبّها المشهد العسكري بـ"معارك دائرة مفرغة" لا تحقق حسما ولا تُحدث تغييرا إستراتيجيا.
ويشير فضل الله إلى أن الخارطة الميدانية تكشف تقدما ملموسا لقوات الدعم السريع في الفاشر (شمال دارفور) وبابنوسة (غرب كردفان) ومحيط مدينة الأُبيّض (شمال كردفان)، مما يعمّق حالة الاستنزاف ويطيل أمد الصراع دون مؤشرات على نهاية قريبة.
وخلص إلى أن الحسم العسكري "صعب جدا إن لم يكن مستحيلا"، إذ يمتلك الطرفان مخزونا بشريا وموارد تتيح إطالة أمد الحرب، في حين يغيب الحماس للتفاوض، في ظل "عدم وجود مشروع سياسي واضح" لدى أي منهما.
ومن أصل 18 ولاية بعموم البلاد، تسيطر قوات الدعم السريع حاليا على جميع ولايات إقليم دارفور الخمس غربا، عدا بعض الأجزاء الشمالية من ولاية شمال دارفور التي لا تزال في قبضة الجيش الذي يسيطر على معظم مناطق الولايات الـ13 المتبقية في الجنوب والشمال والشرق والوسط، بما فيها العاصمة الخرطوم.