د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
المرحلة الثالثة - الفلسفة الوضعية
منهجية الفلسفة الوضعية
تعتمد المنهجية الوضعية بشكل كبير على التجريب وعلى التجارب. ويتم وضع الفرضيات في شكل اقتراحات أو استفسارات تتعلق بالعلاقات السببية بين الظواهر.
ويتم جمع إثبات أو اثباتات أو برهان أو براهين الملاحظة أو المشاهدة؛ ومن ثم يتم دراسة الدليل المرصود وتعريفه بطريقة أو في شكل نظرية تشرح وتوضح وتفسر تأثير المتغير التوضيحي (المتغير المستقل) على المتغير الموضح (المتغير التابع).
وتعتبر طريقة تحليل هذه البيانات طريقة استنتاجية. أولاً، يتم اقتراح فرضية، ثم يتم قبولها أو رفضها، من خلال اثباتها أو نفيها، بالاعتماد على نتائج التحليل الإحصائي الدقيقة جداً. والهدف من ذلك هو قياس، ومراقبة، وتنبؤ، وبناء القوانين والسببية المرتبطة.
فإذا كان من المحتمل إثبات أن "A" يؤثر على "B"، فسيتم تعريف النظرية لتطبيقها على نطاق أوسع والتي ستوضح العلاقة السببية بين "A" و"B": "A" يسبب "B" أو "A" يؤدي إلى "B".
ولكي يكون قادراً على القيام بذلك، يجب على الباحث أو الدارس التأكد من أنه بلا شك كان "A" هو الذي تسبب في "B"، وليس أي شيء آخر. إنه يدعو إلى الضبط أو المعالجة كما هو الحال في العالم الاجتماعي؛ فهناك دائماً العديد من اللاعبين الذين يمكن أن يؤدوا إلى تأثير معين وليس لاعباً واحداً.
ولكي تكون النظرية مؤثرة، يجب أن تكون قادرة على مكافحة الجهود لدحضها تجريبياً وعملياً. وللتأكد من عدم تسبب أي متغيرات أخرى في التأثير على أو في النتيجة، يحاول الباحثين الوضعيين التحكم في المتغيرات الخارجية وضبطها، حيث تكون مجموعتان أو أكثر خاضعة لظروف مماثلة مع الاختلاف الوحيد وهو المتغير المستقل.
إن تكون هناك علاقة سببية بين الظواهر دون أي تدخل من المتغيرات الخارجية، يعني أن التجربة لها صلاحية داخلية نعم داخلية. ورغماً عن ذلك، يظل الباب موارباً ويُترك مفتوحاً لمناقشة مسألة الصلاحية الخارجية.
وكلما كان مسعى الدارس أو الباحث دقيقاً في التحكم في المتغيرات الإضافية الأخرى، زاد تأثيره على قابلية تعميم النتائج أو التعميم بصورة عامة. أما إذا كان مقدار أو درجة التحكم والضبط جعل من صورة البيئة المجردة من الواقع لا يوجد لها مثيل أو شبيه في العالم الحقيقي، عندها تكون نتائج التجربة بلا معنى ولا طائل من وراءها، وتصبح وكأنها لم تكن ولا كانت، فهي بهذه الطريقة محض عبث.
بشكل عام يعمل البحث الوضعي على تطوير البيانات العددية. ونظراً لاستئناف نظرية المعرفة تلك، فإن عناصر الواقعية الاجتماعية لها ثبات عبر الزمن وعبر السياقات، ويمكن فصل ميزة محددة، ويمكن أن تتخيل عقلياً كمتغير، وأي كجسم يمكن أن يأخذ قيماً مختلفة. ويمكن أن تكون هذه القيم قابلة للتحويل كمقاييس عددية.
والبيانات الكمية التي يستخدمها الباحثين الوضعيين للرد على أسئلة البحث وتطوير النظريات التي يمكن الوصول إليها من خلال تجارب حقيقية أو شبه تجارب أقل دقة، واختبارات موحدة ومسوحات كبيرة أو صغيرة باستخدام استبيانات مغلقة، والبيانات الرقمية التي يتم إنشاؤها بواسطة هذه الأساليب مشروطة بالتحليل الإحصائي الوصفي أو الاستنتاجي.
ووفقاً للنظرية الوضعية، يُفترض أن يكون البحث ذا جودة مواتية إذا امتلك التالي:
• الصلاحية الداخلية
• الصلاحية الخارجية
• الموثوقية
• الموضوعية
لنفترض أن الباحث أكد أن المتغير المستقل (وليس المتغيرات الأخرى) هو الذي كان له تأثير على المتغير التابع، فإن الدراسة تعتبر ذات صلاحية داخلية.
وأما إذا كانت النتائج التي تم التوصل إليها قابلة للتعميم، ففي هذه الحالة تكون لها صلاحية خارجية. وإذا أجرى باحثون مختلفون البحث في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة وإطارات أو سياقات مختلفة واستنتجوا نتائج مماثلة ومتشابه، فسيكون ذلك البحث موثوقاً به.
وإذا درس الدارسون أو بحث الباحثون الظواهر دون تسميم مخاوفهم أو مداركهم ودون محاولة منهم التأثير الذاتي على الدراسة ونتائجها، فإنهم يعتبرون موضوعيين جداً، ودراستهم تعتبر موضوعية جداً.
منهجية الفلسفة الوضعية وطرقها
التركيز السائد والهم العظيم للطريقة الوضعية هو الكشف عن العلاقة السببية، أي ما الذي يربط السبب بالنتيجة (Creswell، 2009) والتعميمات أو القوانين العلمية (Ernest، 1994) السائدة في الكون أو في الوجود. ولتحقيق تلك الغاية، يعتمد الوضعيين على المنهجية الكمية للبحث.
وتحتوي هذه المنهجية الكمية على أنواع البحث التجريبية وغير التجريبية. ويتم استخدام البحث التجريبي للكشف عن ارتباطات وعلاقات السبب والنتيجة، ودراسة تلك العلاقات وتحليلها. وبعد ذلك يتم شرح ما تم اكتشافه وما تم تعميمه أو استخدامه كقوانين عامة.
ويتم إجراء البحث المبتكر الإبداعي بانتظام في بيئة خاضعة للرقابة حيث يتحكم فيها الباحث ويقدر يتعامل مع المتغيرات أو المواقف. والبحث غير التجريبي هو "عكس الدراسة الأولية"، حيث لا يتم فيه التحكم في المتغيرات أو الحالات وتشكيلها، والاكتشافات الناتجة لا يتم شرحها ولا توظيفها كقوانين عامة.
وبالمثل، فإن المنهجية الوضعية تهتم بتوضيح الروابط والعلاقات بين عدة ظواهر. ويمتثل ويلتزم الوضعيين بمبادئ الإثبات والدراسة والعلاقات السببية بين أجزاء المعلومات المستخدمة ويتعرفون على الأسباب التي تؤثر على النتائج أو تخلق النتائج.
ويدور بحثهم حول نهج كمي، أي تجريبي (السبب والنتيجة) وغير تجريبي، حيث يتم افتراض الاستفسارات والفرضيات مسبقاً بطريقة افتراضية. يتم إخضاعهم أي اخضاع الفرضيات لاختبار تجريبي (تزييفي/محاكي لا حقيقي) - (falsification)- لدراستهم في ظل مواقف يقظة واعية، ويمكن التحكم فيها (يتم معالجتها). لذلك، لا تتأثر النتائج (Guba and Lincoln، 1994).
وتهدف هذه الطريقة إلى تحليل الارتباط الضروري بين المتغيرات المتسقة في الوقت وفي السياق. والجزء الأساسي منه هو الاهتمام بتحكم الباحثين ومعالجاتهم للظروف بشكل مستقل من أجل تحديد الأحداث وفقاً لاهتماماتهم ورغباتهم.
وفي الطرق غير التجريبية، وخاصة في الدراسات والبحوث الارتباطية، يمتنع الباحث عن تحديد أو تكوين المتغير المستقل. وهنا يتعلق الأمر، بشكل أساسي بعلاقة الباحث بالمتغيرات، وبين المتغيرات نفسها (Cohen et al.، 2007).
تتمثل حدودية أو محدودية هذه العلاقة في أن الباحث يكون عاجزاً عن تعميم النتائج بسبب إمكانية وجود مبررات أخرى أو أسباب أخري قد تكون في متناول اليد وحاضرة دون ابطاء كما هو الحال في بحث (العلاقة السببية) السبب والنتيجة.
ويعتبر هذا البحث الوضعي بحث استنتاجي ويعتبر استنباطي. وكل طرق جمع البيانات المهمة، المرتبطة بالبحث الإيجابي او الوضعي، هي الاختبارات والمقابلات والمسوحات المنظمة.
والأساليب المختارة لها ارتباط مع الغرض من الدراسة وهدفها البحثي. ويتم استخدام جمع البيانات متبوعاً بتحليلها، وكذلك يتم استعمال برامج تحليل البيانات العامة للحصول على إحصائيات وتحليلات دقيقة.
ويتبع النموذج العلمي التنبؤات والتعميمات، لذلك عادةً ما تخلق عدة طرق بيانات كمية. وعلى سبيل المثال، التجارب وأشباه التجارب والاختبارات الموحدة والمقاييس والاستبيانات وأيضاً الاستبيانات المغلقة والمقابلات المنظمة ووصف الظواهر باستخدام أدوات المراقبة الموحدة.
خصائص البحث في النموذج الوضعي
يجب أن يساعد الملخص القادم أو التالي الباحث في التعرف على السمات الرئيسية للبحث، تلك التي توجد عادة في النموذج الوضعي، وهذه السمات هي:
• الإيمان بأن هذا النهج أو المنهج عالمي، ويمكن أن يكون قانون التعميمات جاهز وموجود في السياقات.
• افتراض أن السياق ليس ذات أهمية أو ليس مهما بتاتاً.
• الاعتقاد بأن الحقيقة أو المعرفة "موجودة بشكل موضوعي وهي في انتظار اكتشافها واخراجها للعيان" من خلال البحث والدراسة.
• الايمان بأن "السبب والنتيجة" قابلين للاكتشاف وللتقسيم تجريبياً.
• الاعتقاد بأن نتائج الدراسة يمكن قياسها كمياً.
• قبول وجهة النظر القائلة بأنه يمكن استخدام النظرية للتنبؤ بالنتائج وللتحكم فيها وضبطها.
• الفكرة القائلة بأن البحث يجب أن يتبع المنهج العلمي في الدراسة.
• يرتكز ويعتمد البحث على إدارة ودراسة وتحليل الفرضيات.
• يستخدم البحث الأساليب التجريبية أو التحليلية.
• يسعى البحث للبحث الموضوعي المحايد عن الحقائق.
• يؤمن بالقدرة على مشاهدة ومراقبة المعرفة.
• الهدف النهائي للباحث هو وضع نهج شامل كامل يهتم بالسلوك البشري الإنساني والاجتماعي.
• يعمل على تنفيذ وتطبيق المنهج العلمي.
وفيما يلي بعض الخصائص الأخرى للفلسفة الوضعية:
• يعتبر العلم هو المعرفة الصالحة الوحيدة في الوجود.
• الحقيقة هي موضوع المعرفة الرئيسي.
• لا تمتلك الفلسفة أبداً أسلوباً مغايراً للعلم.
• وظيفة الفلسفة هي معرفة المبادئ العامة المألوفة لجميع العلوم وتوظيف مثل هذه المبادئ كدليل للسلوك البشري الانساني وكقاعدة للتنظيم الاجتماعي.
• الفلسفة الوضعية لا تعترف بل تعارض وترفض الحدس، والمنطق المسبق، والمعرفة اللاهوتية والميتافيزيقية.
• يجب أن تعتمد جميع المعارف العلمية على الخبرة المباشرة لملاحظة ولمشاهدة حقيقية ما أو تعتبر الخبرة المباشرة هي الطريقة المحددة والواضحة للحصول على المعرفة العلمية.
• عرّف (La Certitute) التجربة المباشرة للواقع أو للوجود على أنها كمال الطريقة العلمية. وبذلك هو يعني أن فروع التحقيق أو الدراسة المختلفة مميزة من خلال موضوع دراستها وليس بطريقتها.
• يحتاج مصطلح كمال الطريقة العلمية إلى الدقة، أي المعني المقصود هو "هدف علمي مشترك لتطوير نظريات قابلة للاختبار". إنه يعني أنه لا توجد أحكام قيمية في البحث العلمي.
• يجب أن تساعد النظرة الوضعية للعلم على أن يتضمن مبدأ استخدام المعرفة العلمية، في تحقيق هدف مفيد. ويجب أن تستخدم كأداة للهندسة الاجتماعية.
• تعتبر المعرفة الوضعية او الإيجابية معرفة نسبية، وهذا يعني أن المعرفة العلمية المطلقة لا تتحقق اطلاقاً، لأنه لا توجد معرفة مطلقة في العلم على الاطلاق، بل معرفة نسبية فقط. وفي نهاية المطاف، يمنحك العلم مقدرة التنبؤ، ومنها يأتي الفعل ومنها يكون العمل.
... للسيرة سلسلة متتابعة من الحلقات...
bakoor501@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الفلسفة الوضعیة التحکم فی من خلال یمکن أن یعنی أن یجب أن
إقرأ أيضاً:
احذر من جاهل حفظ سطرين وفقير جمع قرشين
سلطان بن ناصر القاسمي
تلتقي في هذه الحياة بأنواعٍ شتى من الخلق، وتجتمع مع مختلف البشر، وتحاور العديد من المثقفين والعلماء، فتكتسب منهم معرفةً واسعة وتجارب ثرية. غير أنك قد تجد في بعض المجالس من يدّعي المعرفة ويرفع صوته دفاعًا عن رأي لا يقوم على علم، بل يتدخّل في حديثٍ لا يعنيه، وكأنَّ الصدفة وحدها هي التي جمعته بمن يتحاورون.
وحقيقةً، ما جعلني أتأمل في هذه المقولة القديمة "احذر من جاهلٍ حفظ سطرين وفقيرٍ جمع قرشين" موقفٌ مرّ بي ذات يوم خلال لقاءٍ ثقافيٍ جمع عددًا من المتحدثين من خلفيات مختلفة. كان الحوار يدور حول قضية فكرية تحتاج إلى عمقٍ ومعرفة، وبينما كانت النقاشات تسير في مسارٍ راقٍ ومنطقي، تدخّل أحد الحاضرين باندفاعٍ ظاهر، وبدأ يُلقي أحكامًا قاطعة في موضوع لا يفقه منه سوى عناوين سطحية قرأها عرضًا. وحين سُئل عن مصدر معلوماته أو تجربته، لم يكن لديه سوى إجاباتٍ عامة لا تصمد أمام أي نقاش. عندها أدركت أن الجدال مع الجاهل مضيعة للعقل والوقت، وأن من الحكمة أن تُغلق باب الحوار قبل أن تُسحب إلى متاهته.
إن مثل هذه الشخصيات تذكّرنا بخطورة من يملك قليلًا من العلم ويظن أنه امتلك الكثير، فيتعالى على الآخرين ويخشى التعلّم منهم. فهو شخص حديث النعمة في العلم، يظن أن ما يحمله من فتات المعرفة كافٍ لأن يجعله عالمًا أو ناقدًا، بينما في الحقيقة جهله أعمق مما يظن. والمعنى العام لهذه العبارة يحذّر من هذا النوع من الناس الذي يصبح متكبرًا ومتعاليًا، معتقدًا أنه بلغ الغاية. فالجهل المقترن بالغرور يولّد شعورًا زائفًا بالفوقية، يدفع صاحبه إلى الاعتقاد بأنه يمتلك كل الإجابات، فيتحدث في كل شأنٍ ويظن نفسه خبيرًا في كل مجال.
وهذا ما يُعرف في علم النفس المعاصر بظاهرة "قمة الغباء الواثق"، وهي نتيجة لغياب الوعي بالذات وعدم إدراك حدود المعرفة الحقيقية. فيتصرف صاحبها وكأنه العارف بكل شيء، بينما يفتقد القدرة على التقييم الموضوعي، فيقع في الخطأ تلو الآخر. وخطر هذا النوع يكمن في تضليل الناس من خلال حديثه في أمور لا يدركها حقًّا، فيفتنهم بجرأته ويصرفهم عن الحقيقة، كما أنه يرفض سماع الرأي الصحيح ويتعالى على المتعلمين. إنهم في الواقع أشدّ خطرًا من الجاهل الذي يعترف بجهله، لأنهم يظنون أنهم علماء وهم لا يملكون إلا ظلال العلم، وهؤلاء هم ما يُعرفون بـ"الجاهل المركّب"؛ يجهلون ويجهلون أنهم يجهلون.
وهنا تتجلّى الحكمة في التمييز بين من يسعى إلى المعرفة ليفهم، وبين من يتظاهر بها ليعلو فالعلم لا يرفع من لم يتأدب به، ولا ينفع من لم يتواضع له، لأن المعرفة الحقة تُثمر خشوعًا لا غرورًا، وتمنح صاحبها اتزانًا لا جدالًا.
أما الشطر الآخر من المقولة فيحمل تحذيرًا مختلفًا: "احذر من فقيرٍ جمع قرشين". فهو يشير إلى من كان ذا حالٍ بسيط، ثم امتلك مالًا جعله يتحوّل فجأة من شخصيةٍ عادية إلى شخصيةٍ اعتبارية في المجتمع، فيتوهّم أن المال وحده كفيلٌ بأن يصنع له المكانة. فتجده لا يحبّ تذكّر ماضيه الذي كان فيه محتاجًا، بل يراوغ ويتنصل من علاقاته القديمة، باحثًا عن صداقات جديدة تمجّده وترفع من قدره.
مثل هؤلاء يظهرون في المجتمع بشكلٍ متكرر، وتنعكس تصرفاتهم على محيطهم، متأثرين بعوامل كثيرة كالوضع الاقتصادي والمستوى الثقافي والتغير الاجتماعي. وتراهم يلهثون خلف المظاهر، يشترون الحاجيات الفاخرة والسلع الباهظة ولو أغرقوا أنفسهم في الديون، وكل ذلك من أجل التفاخر والتباهي. يريدون أن يُقال عنهم إنهم أثرياء أو أصحاب نفوذ، حتى وإن كانت حقيقتهم أبعد ما تكون عن ذلك.
وتجد أحدهم كثير الكذب والمراوغة، يستعبد من يعمل لديه، ولا يهتم إلا بجمع المال والوصول إلى الثراء دون اعتبار للقيم المجتمعية أو الإنسانية. ولو أن هؤلاء استخدموا ما لديهم من مالٍ في خدمة الناس، لكان أثرهم طيبًا، ولساهموا في بناء مجتمعٍ متراحمٍ متعاون، ولكنهم بدّلوا نعمة الرزق كِبرًا وغرورًا، فخسرت أرواحهم قبل أن تفقد أموالهم قيمتها.
إن المال إذا لم يُستخدم في الخير صار نقمةً لا نعمة، وإن الغنى إذا أورث التفاخر فقد صاحبه معناه. فالقيمة الحقيقية ليست في كمّ ما تملك، بل في أثر ما تمنح. ولو أن حديثي النعمة تذكروا أن المال زائل، وأن القيمة في البذل لا التفاخر، لكان المجتمع أرقى وأجمل.
وهنا نستحضر قول الإمام عليّ بن أبي طالب - كرّم الله وجهه: "ما جادلتُ جاهلًا إلا غلبني، وما جادلتُ عالمًا إلا غلبته".
فالعالم يجادل بعقلٍ منضبطٍ وروحٍ متواضعة، أما الجاهل فيجادل بجهله فلا يُرجى من حديثه فائدة. ومن هنا كان التواضع خلقًا عظيمًا يحثّ عليه الإسلام، فهو يُحسّن العلاقات بين الناس، ويجعل الإنسان محبوبًا قريبًا من الله. قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].
تصف هذه الآية عباد الرحمن بأنهم يمشون على الأرض بسكينةٍ وتواضع، ويتجنبون الجدال العقيم مع الجاهلين، لأنَّ الحكمة في الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام، ولأنَّ التواضع زينة العالم، والصبر صفة العاقل، والإحسان هو ما يخلّد الأثر الطيب بين الناس.
رابط مختصر