المقاومة جاهزة للرد.. هل تلجأ إسرائيل مجددا لسياسة الاغتيالات؟
تاريخ النشر: 25th, August 2023 GMT
رفعت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من درجة اليقظة والاستعداد لأي هجوم إسرائيلي محتمل ضدّ عدد من قادة المقاومة وعناصرها، الذين تربطهم علاقة بدعم العمل المقاوم في الضفة.
يأتي ذلك في وقت أكد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" صالح العاروري، أن تهديدات الاحتلال باغتيال قادة الحركة أو أي من قادة فصائل المقاومة لا تخيفهم، مشددا على أن القادة لن تستسلم، وتسير على نفس الدرب مع شعبها.
ووفق مصادر فلسطينية تحدثت لصحيفة "الأخبار" اللبنانية المقربة من "حزب الله" اللبناني، فإن الفصائل اتّخذت إجراءات أمنية مشدّدة خشية تكرار جيش العدو السيناريو نفسه الذي لجأ إليه في مايو/أيار الماضي، عندما اغتالت طائراته 3 من كبار قادة "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي".
وسبق أن تعرض قطاع غزة، خلال مايو/أيار الماضي، إلى عدوان إسرائيلي كبير بدأ باغتيال 3 من أبرز قادة الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي "سرايا القدس"، وأسفر عن 33 شهيداً و190 جريحاً، ودمار كبير في المباني والمنشآت.
وحسب تقديرات المقاومة، فإنه على الرغم من تلميحات بعض الكتّاب والمحلّلين الإسرائيليين إلى أن الاغتيالات المتوقّعة قد تطال قيادات كبيرة، إلّا أن جيش الاحتلال قد يذهب إلى خيار تصفية قيادات وسطى أو عناصر، وهو ما سيؤدي إلى تصعيد يستمرّ ليوم أو يومين.
وحذّر مصدر في المقاومة (رفض الكشف عن هويته)، من أن ردّ الأخيرة على أيّ اغتيال "سيكون أكبر من توقّع الاحتلال، الذي سيتفاجأ بطريقته وحجمه"، منبّهاً إلى أن "مثل هذه الخطوة قد تؤدّي إلى تصعيد كبير سيطال مختلف الجبهات التي تستطيع المقاومة العمل فيها".
اقرأ أيضاً
اغتيال 3 فلسطينيين بقصف إسرائيلي في جنين.. وتفجير منزل في نابلس (فيديو)
ولفت المصدر إلى أن حكومة العدو "تسعى من خلال لجوئها المحتمل إلى عمليات اغتيال خارج الضفة إلى صنع معادلة جديدة عنوانها الردّ على الهجمات في الضفة بالاغتيالات، وسط عجزها عن تنفيذ أيّ فعل يوازي العمليات الفدائية".
وتابع: "المقاومة لن تسمح للاحتلال بتغيير قواعد الاشتباك في قطاع غزة أو خارجه".
وعليه، استبعد المصدر لجوء العدو إلى تفعيل الاغتيالات مجدّداً، مشيراً إلى أن "هذا الخيار معقّد أمام الاحتلال نظراً إلى المعادلة التي رسّخها الحلف المقاوم، والتعهّدات الصادقة التي قدّمها بحماية المقاومين وقادتهم".
وكانت القناة "12" العبرية، قد ألمّحت إلى أن إسرائيل على وشك تنفيذ ما سمّاه "نشاطاً عملياتياً كبيراً" في خارج فلسطين أو في قطاع غزة، مشيراً إلى اتّهام حكومة بنيامين نتنياهو الواضح للمقاومة في لبنان وغزة بأنها هي التي يشرف على تصاعد الأوضاع الأمنية في الضفة.
وفي الاتجاه نفسه، قالت القناة "13" العبرية، بالتزامن مع الاجتماع الذي عقده وزير الأمن، يوآف غالانت، مع القادة الأمنيين الإسرائيليين: "طالما أنّ (رئيس حركة حماس في قطاع غزة) يحيى السنوار، منشئ الإرهاب، محصَّن ويعيش بسلام، فإن الإرهاب لن يتوقّف".
وأضافت: "يجب أن يشعر قادة الإرهاب بالخطر على حياتهم. يجب أن تكون الرسالة أن أيّ هجوم في الضفة سينتهي بتصفية قائد في غزة أو سوريا أو لبنان".
اقرأ أيضاً
التصعيد الإسرائيلي ضد غزة يتواصل باغتيال قادة الجهاد.. وفشل الوساطة
وعقب الاجتماع المذكور نفسه، أعلن مسؤول في جيش الاحتلال أن الأخير "سيضطرّ إلى الشروع في عملية واسعة النطاق لجمع الأسلحة والذخيرة والمطلوبين في وقت واحد في الضفة، وذلك في أعقاب سلسلة العمليات التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية، والتي قُتل فيها ثلاثة مستوطنين".
أما موقع "رأي اليوم"، فنقل عن مصادر فلسطينية، تحذير العديد من الدول العربية فصائل المقاومة الفلسطينية، من تنفيذ إسرائيل "في أي لحظة مقبلة" عمليات اغتيال كبيرة وواسعة لأبرز القادة الفلسطينيين، قد تتسبب في قلب المنطقة والدخول بجولة تصعيد جديدة.
وأكدت المصادر الفلسطينية، أن بعض الدول العربية نقلت للفصائل الفلسطينية هذا التحذير الساخن، وأكدت وجود نية إسرائيلية لتنفيذ عمليات اغتيال قريبة وقد تكون لشخصيات ذات وزن ثقيل من داخل قطاع غزة وخارجه.
وأوضحت المصادر، أن الدول العربية (لم تسمها) أبلغت كذلك الفصائل الفلسطينية أن حجم عمليات الاغتيال لا يمكن لأحد أن يتوقعه، لكنها أوضحت أن الحكومة الإسرائيلية ستسعى لتنفيذ هذه الورقة للهروب من الأزمات الداخلية التي تضربها من كل جانب، ومحاولة إظهار نتنياهو أنه الرجل الأقوى والذي لا يزال مُسيطرًا على الوضع رغم ما يجري من عمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية في الضفة خلال الأيام الماضية، هزت الحكومة وجيشها.
وجاءت هذه التهديدات في وقت يتصاعد فيه غضب المستوطنين وقادتهم وانتقادهم للحكومة وأجهزتها على خلفية فشلها في وقف موجة العمليات الفدائية.
وكانت إذاعة جيش الاحتلال، نشرت صباح الخميس، تقديرات كبار المسؤولين الأمنيين، والتي تفيد بـ"(أنّنا) حتى اللحظة لم نصل بعد إلى ذروة موجة العمليات"، محذّرةً، نقلاً عن هؤلاء، من ازدياد "احتمالات تنفيذ عمليات مشابهة".
اقرأ أيضاً
اغتيال قيادي بارز في الجهاد الإسلامي.. استشهاد 3 فلسطينيين بقصف إسرائيلي جنوب غزة (فيديو)
في المقابل، قال العاروري، في مقابلة عبر قناة "الأقصى" الفضائية، الخميس، إن تهديدات الاحتلال باغتيال قادة الحركة لا تخيفها، ولن تستسلم وسائرة على نفس الدرب مع شعبها.
وأضاف: "هذا ليس جديدا أن يهددوا، وهم يغتالون، وكل يوم هناك شهداء، ونحن في حركة حماس جزء من الشعب، ولذلك نستشهد ونعتقل مثل شعبنا، وتهدم بيوتنا ونُلاحق ونُطارد، وهذا هو الوضع الطبيعي لهذا الاحتلال، ولكن أيضا نحن نقاوم ونطارده، ونحن نقاتل وأصحاب حق لأنه هو محتل أرضنا ومعتدٍ علينا".
وتابع العاروري": "هو يهددنا بالقتل، وليس لدينا خيارات لأن نستسلم وأن نتوقف عن المقاومة، وبكل صدق ومسؤولية وشفافية، مثل ما يستشهد أبناء شعبنا، وأصغر شهيد من أبناء شعبنا تاج على رؤوسنا وأكرم منا لأنه سبقنا بالشهادة، ونحن على نفس الدرب".
وزاد: "نحن مثلنا مثل أبناء شعبنا، ونقطة قوتنا التي لا يمكنهم أن يبارونا فيها أننا نحب الشهادة ونرغب بالشهادة، ونراها قد طالت، ولا تخيفنا أبدا تهديداتهم لنا بالشهادة".
وشدد على أن "التهديدات لم تخفنا سابقا ولا تنفيذ التهديدات، مشيرا إلى أن قيادات الحركة وكوادرها ومجاهديها وأبرياء استشهدوا، والشيخ نزار ريان قصف الاحتلال بيته وهو يعلم أن أكثر من 20 فردا من أسرته داخل البيت، واستشهد وإياهم جميعا، وماذا يهددونا بعد ذلك؟".
وأشار العاروري إلى أن الاحتلال منذ أن بدأ الصراع يرتكب الجرائم بحق شعبنا ولم يتوقف، ومن يوم نشأة الكيان بدأ مسيرته بمجازر ضد شعبنا الآمن، وقتلوا الأهالي في بيوتهم ومزارعهم من أجل أن يروعوا شعبنا ويهجروه ويقيموا الكيان على أنقاضه.
اقرأ أيضاً
المقاومة الفلسطينية تحذر من تفعيل سياسة الاغتيالات: إسرائيل ستدفع الثمن
الأمر ذاته، أكده عضو المكتب السياسي لحركة "الجهاد الإسلامي" وليد القططي، حين قال إن الحركة تتعامل بجدية كاملة مع تهديدات إسرائيل المتكررة، مشدداً على أن كل السيناريوهات واردة ومحتملة.
وحذر المقاومة من تكرار سيناريوهات الاغتيال السابقة، لافتاً إلى أن كل ما يجري هو مُعالجات تكتيكية أزمات الاحتلال.
وشدد القططي، في تصريحات لإذاعة محلية، على أن عمليات الاعتقال والقمع والقتل والاقتحامات والاستيطان هي محاولات يائسة من الاحتلال لإخماد المقاومة وايقاف حركة الشعب الفلسطيني النضالية التي بدأت تتصاعد بعدما فقد الاحتلال توزانه واتزانه.
وأشار إلى أنه منذ بداية الكيان الصهيوني، يقوم بالقتل والاعتقال وتدمير البيوت والاقتحامات، أساليب مجربة ولم تثني الشعب الفلسطيني عن مواصلة نضاله، وهي اشارة أن الكيان يتعمق مأزقه السياسي والأمني والوجودي.
يأتي ذلك في وقت دعت فصائل المقاومة في غزة، إلى تصعيد المواجهة مع الاحتلال، ورفع مستوى التنسيق مع المقاومين في الضفة.
وخلال ورشة عمل للفصائل في مقرّ "الجهاد الإسلامي" في غزة، بعنوان "المسجد الأقصى لن يقسم"، بمناسبة مرور 54 عاماً على إحراق المسجد الأقصى، دعا عضو المكتب السياسي للحركة خالد البطش، إلى "تعزيز كلّ أدوات الاشتباك مع الاحتلال، سواء الشعبية أو التظاهرات أو مسيرات العودة أو الكفاح المسلح".
اقرأ أيضاً
المقاومة الفلسطينية تحذر من تفعيل سياسة الاغتيالات: إسرائيل ستدفع الثمن
فيما حضّ القيادي في حركة "حماس" إسماعيل رضوان، على تعزيز الوحدة الميدانية في الضفة، وتصعيد الاشتباك هناك، وصولاً إلى عمليات نوعية فردية وجماعية تدكّ عمق الاحتلال.
فيما أكد عضو اللجنة المركزية لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ماهر مزهر، أن "تهديدات نتنياهو ووزير حربه بشن عملية عسكرية ضد قطاع غزة لن تثني المقاومة الفلسطينية عن مشوارها النضالي والفدائي ضد الاحتلال".
وتابع: "رسالة المقاومة واضحة بأن العدوان على الشعب الفلسطيني ستقابله عمليات فدائية توجع الصهاينة، وأنه لا أمن ولا أمان للمستوطنين إلا برحيلهم عن فلسطين".
وشهدت الضفة الغربية، منذ بداية العام الجاري، تصعيداً في عمليات المقاومة الفلسطينية تجاه المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي، رداً على الانتهاكات الإسرائيلية، خاصة ضد جنين ونابلس والمسجد الأقصى.
ومند بداية العام، قتل 35 إسرائيلياً في هجمات فلسطينية بالضفة و"إسرائيل"، وهو الرقم الأعلى منذ الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000، وفقاً لإحصائية نشرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت"، الإثنين الماضي.
وحسب الصحيفة، فقد أصيب 140 إسرائيلياً خلال الهجمات التي نفذت منذ مطلع العام في الضفة الغربية والقدس الشرقية وداخل إسرائيل.
وغالباً ما تتبنى كتائب الشهيد "عزالدين القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، و"سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، سلسلة من العمليات ينفذه مقاومين في الضفة الغربية المحتلة.
اقرأ أيضاً
حماس: تهديد إسرائيل بالعودة للاغتيالات سيقابل برد من المقاومة
المصدر | الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين الضفة غزة إسرائيل المقاومة المقاومة الفلسطينية اغتيال المقاومة الفلسطینیة الجهاد الإسلامی فصائل المقاومة جیش الاحتلال فی قطاع غزة اقرأ أیضا فی الضفة فی وقت على أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
سرديات المقاومة.. رحلة طاهر النور من تشاد إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة
يحشد الكاتب والروائي التشادي طاهر النور كل حواسه المدربة على التأمل المبكر، مصقولا بمعارف وثقافات ونضالات شتى بالحرف والكلمة ونتاج لعقود وسنوات من تبدل أحوال بلدان ومجتمعات، وتجارب ومحطات لمراحل من العواصف السياسية والعصف المعرفي الذي انبثق عن التماعات بزوغ التجربة وسردياتها الأثيرة.
ومن هذا التكوين المعرفي والتجريبي تتبلور رؤيته في تصوير اتحاد الوجود وتقاطعات المصير، وما يكتنف علاقة الإنسان والمثقف بالهويات الثقافية والمتخيلة في بلاده وبلدان أفريقية أخرى ممن بقيت متوارية تحت ستارة وإرث الاستبداد المحلي، تحفه قيم التحرر والكفاح في أفريقيا، وبلده تشاد بوجه خاص، إلى غير ذلك من تأثير اتصاله بحراك الثقافة الإنسانية والفكر وأسئلة الحداثة والكتابة الأصيلة، تلك التي أبقت دوما على موقف الإنسان في الفن والحياة.
في هذه المقابلة، التي تفارق تجربة الكاتب كقاص وروائي إلى تجربة أخرى خاضها هي أقرب إلى المغامرة والرؤية وشجاعة الرأي بأفق الترحال والسفر، مشفوعة بالشغف والاكتشاف.
يجول بنا طاهر النور في ثنايا كتابه "أفريقي في فلسطين" لمجلى آخر من التعبير، عبر وثيقة مشاهداته وشهاداته ويومياته، إلى رؤية كاتب ومثقف أفريقي من تلامذة مغامرين ورحالين قبله، كثيرا ما تذكر ملامساتهم الواقعية للنضال بمصافحتهم تراب فلسطين وشعبها وقضيتها إبان حصارات سابقة.
إعلانوفي هذه الوثيقة يتجلى موقف الأدب العالمي المقاوم في اختراق الحواجز والحدود بالقلم الحر من نماذج سوينكا وأشيبي وآخرين، وطاهر النور هنا على خطاهم ينقلنا إلى محطات لصيقة باللحظة الفلسطينية التي نديمها الوجع، وأنين التراب تحت أنقاض التراب، والحنين إلى الانبعاث.
إنه يتأمل العنقاء الجريحة المدماة، ويمضي شاهدا بملاحظاته، وموثقا راصدا بمخيلته الواقعية وحدسه أحداثا جرت وتجري في فلسطين المحتلة قبل الحرب على غزة بثلاثة أشهر. فإلى الحوار:
عندما وصلتني الدعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية، لم أستطع تصديق أن الأمر قد يكون ممكنا. انتابني إحساس بالفوضى. كان ذلك الإحساس في منتهى الغرابة، ولم أستطع استيعاب جوهره. ومع ذلك، فقد حان وقت السفر، ووجدت نفسي أمام الواقع. اعتقدت أن الأمور ستسير دون عوائق، لكن العوائق ظهرت على السطح منذ اللحظة التي وطأت فيها مطار بلدي. فليس من الشائع أن يسافر مواطن عادي إلى فلسطين لأي سبب من الأسباب.
وعندما تجاوزت كل تلك الحواجز والأزمات الشخصية، ووصلت إلى الضفة الغربية المحتلة، شعرت بأن علي توثيق هذه الرحلة. ثمة دين في عنقي يجب أن أؤديه حتى ينزاح الهم القابع بين جوانحي. لم أتصور قط أن أي شخص يحظى بالسفر إلى تلك البقعة العجيبة، يمكن أن يعود دون أن يساوره فضول الكتابة. ما يراه الزائر، وما يكتشفه وما تنقشه التجربة في ذاكرته، أبعد بكثير من تصوراته وهو في بلده. ففلسطين، بالنسبة للكثيرين، ليست أكثر من مجرد فكرة. شيء يفكر فيه الناس، ويتحدثون عنه، ويقرؤون عنه في الكتب، ولكن لا يمكنهم رؤيته. ومن لم يخض التجربة ربما لن يستطيع تفهم هذا الشعور.
إعلانوبما أنني رأيت وشاهدت فلسطين واقعيا، فإن الكتابة عن ذلك واجب علي القيام به. وتقريبا هذا هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الكتّاب فعله. فما الذي يمكنهم تقديمه لفلسطين كقضية؟ أليست الكتابة عما شاهدوه في الحواجز وفي المدن المحتلة، ونشرها ليسهموا في وعي قرائهم بغض النظر عن الرقعة التي تصل إليها كتبهم؟
لیس من الشاٸع أن یسافر مواطن عادي إلی فلسطین ولم أتصور أن أحظی بذلك دون أن یساورني فضول الكتابة.
تقول في كتابك "أفريقي في فلسطين": ما يحدث في غزة أن الهاجس الذي يشغلني لا يتعلق بالحرب فقط، وإنما كان يؤرقني منذ أن عدت من الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل الحرب على غزة بثلاثة أشهر".. كيف تجمل لنا الصورة هنا؟لقد خضت تجربة صعبة من الناحية النفسية، ليس فقط تلك الصعوبات التي واجهتها في مطار بلدي وفي مطار الأردن، والساعات الطويلة التي قضيتها في الانتظار، وإنما أيضا تلك الصعوبات التي اكتنفت دخولي عبر الحواجز الإسرائيلية. ناهيك عن مشاهداتي في مدن مثل القدس وجنين والخليل ورام الله وغيرها، وما حكاه الناس وما يعيشونه يوميا. كل ذلك ترك في نفسي أثرا عميقا.
الصمت، مثل الكتابة، لم يعد مجديا، خصوصا وأن الحرب المشؤومة جاءت عقب زيارتي تلك بثلاثة أشهر فقط. لي أصدقاء هناك، أتابع عن كثب صور الموت والنزوح والخراب. وهم مطوقون من كل جانب، لا يستطيعون الفرار إلى أي مكان. اليوم يهربون من المكان نفسه الذي هربوا منه بالأمس. يدورون في الحلقة المفرغة نفسها.
فإذن، أليس كل هذا كافيا ليهز ضمير أي إنسان في هذا العالم، أيا كان معتقده أو انتماؤه السياسي؟
يؤسفني أن أقول لك إن هذا هو الواقع، وهذا ما نعيشه اليوم دون مواربة أو حياء. مفاهيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان لم يعد لها معنى إلا في كليات القانون والعلوم السياسية، ولدى الطلبة الجدد. ليس لها أي معنى حتى في أروقة الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة، وليس لها معنى في الصحافة العالمية التي صارت أبواقا تكذب بجسارة غير مسبوقة وتبرر جرائم المحتل.
إعلانيمكن لأي دولة، طالما أنها تتمتع بالقوة أن تفعل كل شيء، وأن تقتل من شعبها أو من شعب دولة مجاورة دون أن تعترضها أي دولة في العالم، ودون أن تحاسبها أي منظمة أممية حسابا فعليا سوى خطابات الإدانة التي باتت صورة من صور العجز.
ما الشواهد المؤثرة التي غيرت من مفاهيمك حيال ما يحدث في فلسطين عامة، وغزة خاصة، وأثر ذلك على تجربتك الروائية؟القوي هو من يكتب سرديته. الدول الضعيفة لا حول لها ولا قوة سوى الانصياع لإملاءات الدول الكبرى. ومن يملك القوة يستطيع أن يكتب السردية التي يريدها لدرجة أن الناس سيصدقونها. وأكثر من ذلك، سوف يدافعون عن تلك السردية بكل ما أوتوا من حجة وصوت وبجاحة.
وبالمقابل، فإن السرديات المضادة الصادرة عن الدول ذات الصوت الأضعف لن تكون لها أي قيمة، لأنها "رواية غير صحيحة، معادية لدين ما، أو للسامية"، أو لحقوق الإنسان التي لم تعد تساوي الحبر الذي كتبت به. نحن نعيش، وبكل أسف، زمن السرديات الجديدة.
العالم لم یعد آمنا، فمن یملك القوة هو من یقر "حقوق الإنسان" لشعب، ویبید شعبا آخر.
هل يمكن القول إن بوادر الخير لا تزال موجودة بالعالم رغم الصمت العربي تجاه ما غدا معتادا لدى المشاهد العربي، وما تشهده الشعوب من تجريف للأرض والإنسان في فلسطين يوميا؟في السابق، كان الناس يعتمدون على الصحافة المكتوبة والتلفزيون، ومن السهولة أن نجعلهم يصدقون أي رواية نلفقها بين ليلة وضحاها. الكثير من السذج منهم سيصدقون طالما أن هذه الرواية قد قدمت بلغتهم وثقافتهم، وربما باستغلال عقيدتهم.
وبما أنه لا يمكن للظلام أن يكون شاملا، ولا بد أن يتخلله شيء من الضوء، فقد انقلبت موازين القوى الآن مثلما تعددت قنوات المعرفة بشتى أشكالها.
وهذه الثورة المضادة، المتمثلة في قنوات الإنترنت المختلفة، لم تعد في صالح تلك السرديات التي ينشرها الغرب بلا هوادة، رغم ما يملكه من إمكانيات مادية وبشرية هائلة. فهذه القنوات قادرة على تقويض أي سردية ما لم تكن بالطريقة الكلاسيكية المعتادة.
إعلانوبالتالي، فإن بإمكان أي شخص في العالم أن يصل إلى الرواية الحقيقية بضغطة زر. وهذا ما رأيناه خلال السنتين الأخيرتين، حيث برزت الأصوات من كل مكان، ترفض وتكذب الرواية الرسمية لبلدانها. صحيح أن هذه الأصوات تنتشر بشكل محدود، لكن من الواضح أن تأثيرها يتنامى، وهو أمر لم يكن واردا قبل سنوات قليلة.
بقي اعتداد الكثير من الناس بقوة وصلابة الإرادات الحرة وتمسكها بكفاحها، لكن المعادلة ربما تغيرت اليوم كثيرا وبتنا نشهد مظاهرات بإسبانيا وبلجيكا ودول أفريقية ولاتينية مناهضة لإسرائيل، في حين يرافق ذلك تأييد من بلدان وحكومات في المنطقة العربية وصمت مريب؟الأمر واضح جدا. بلدان أوروبا تمتلك قوة عسكرية واقتصادية كبيرة، ناهيك عن الوعي الجمعي والتماسك الاجتماعي، وهو ما لم يكن متوفرا في العالم العربي. على الرغم من أن بعض دول الشرق العربي تمتلك القوة الاقتصادية، فإن القوة الاقتصادية وحدها غير كافية، دون أن ننسى الأزمات السياسية التي عصفت بالعالم العربي خلال العقد الأخير.
أما الأصوات التي نشاهدها من أفريقيا وأميركا الجنوبية، فإنها تأتي ضمن موجة الوعي العام بفضل قنوات الإنترنت، موجة الوعي ضد المنطق الراسخ تبشر بأن العالم لم يعد كما هو قبل طوفان الأقصى، وأن أشياء كثيرة سوف تتغير على مستويات عدة.
هل يمكن للدول والشعوب أن تقف في وجه ما يسميه طاهر النور "شرور الوجود" أم إن النضال "أصبح خرافة" هو الآخر، و"العدالة متغيرة وليست ثابتة" كما تحكي وتوثّق في كتابك؟لا أحد يعرف متى تتغير موازين القوى، ولكن لا شيء يدوم. سوف تتغير أشياء كثيرة ولن يظل العالم على حاله. ستضمحل دول، وسوف تصعد أخرى، لأن من طبيعة الزمان أن يأخذ بتياره الجارف ما كان يقف بعنفوان على ظهر الأرض.
ولابد أن يأتي اليوم الذي تتوقف فيه ممارسات الطغيان. بالعلم والمعرفة والمواكبة يحدث ما لم يكن في الحسبان، والعالم يتقدم إلى الأمام باتجاهات شتى، وسيشهد تطورا طبيعيا ضمن مجريات الأمور.
إعلان إن "من يملك القوة هو من يقر حقوق الإنسان لشعب، ويبيد شعبا آخر"، يا لها من مفارقة يتغلب فيها الخطاب المهيمن على شعوب عزّل، في حين يتفرج العالم وكأنه داخل "حلبة مصارعة توجه لكمات تلو الأخرى لوجه العالم"، بطلاها إجرام ترامب ونتنياهو. هل من توضيح أكثر؟ترامب ونتنياهو نموذجان للإجرام العالمي، ولا يتوقف الأمر عندهما. لقد شهد العالم العديد من الجرائم على مر التاريخ، وكان الضحايا من الشعوب المستضعفة: الإسكيمو، والهنود الحمر في الأميركتين، والسود من أفريقيا، وإلى العالم. دون أن ننسى القتل الجماعي في ميانمار والهرسك، وجرائم الأنظمة الأوروبية طوال تاريخها الاستعماري.
تقول في مؤلفك "يوميات أفريقي في فلسطين": العالم لم يعد آمنا أبدا. فهل من بوادر سلام تلوح اليوم في "الأفق الإنساني" في ظل تغول وجبروت القوة الباطشة التي تفصح عن كامل السقوط الأخلاقي المريع لمنطق وجبروت القوة المادية، مع تفاقم الصراع والعدوان في المنطقة والعالم؟سأكرر مرة أخرى، ومرة تلو أخرى، العالم لم يكن آمنا قط. هذه أسوأ فترة للعالم منذ الحرب العالمية الثانية. يراودني إحساس مزعج بأن السلام الذي نتوق إليه لن يكون بوسعنا رؤيته قريبا. العالم عالق في هذه اللحظة، لا يستطيع التقدم إلى الأمام، ولا التراجع إلى الوراء. ونحن عالقون معه، رغم أنوفنا، على أمل أن ننجو من هذا العالم البربري المتوحش.