التنوع الثقافي جذوره عميقة في الدولة السودانية
تاريخ النشر: 14th, April 2025 GMT
بقلم: تاج السر عثمان
١
تستمر الحرب اللعينة الجارية حاليا بكل دمارها ومآسيها الإنسانية والتي تدخل عامها الثالث، مع خطر تحولها لحرب عرقية وعنصرية تنسف وحدة التنوع والتعدد الثقافي الذي جذوره عميقة في الدولة السودانية، وكان ملازما لها منذ نشأتها. بالتالي من المهم التصعيد الجماهيري لوقف الحرب واستعادة مسار الثورة، حتى تقف سدا منيعا أمام تفكك الدولة السودانية.
معلوم ان التعدد الثقافي جذوره عميقة في الدولة السودانية منذ نشأتها وحتى قيام الدولة الوطنية الحديثة ، فما هي عناصر ذلك التنوع والتعدد؟.
- شهدت الدولة السودانية تعدد الأديان ابتداءاً من الوثنية إلى المسيحية ثم الإسلام ومازال التنوع والتعدد الديني موجوداً في واقعنا الماثل.
- كما شهدت تعدد اللغات مثل: اللغة المصرية القديمة ( الهيروغليفية)، ثم حدث الاستقلال اللغوي بقيام حضارة مروي التي عرفت اللغة المروية ، واللغة النوبية في حضارة النوبة المسيحية، ثم اللغة العربية التي انتشرت في عهد سلطنتي الفونج والفور، هذا إضافة للتنوع في لغات ولهجات أهل السودان ومكوناتهم الثقافية ( بجاوية، نوبية، زنجية) وناتج التلاقح اللغوي من الثقافات الحديثة ( تركية، انجليزية، فرنسية،حبشية الخ)، وبمراجعة قاموس اللهجة العامية في السودان للمرحوم د. عون الشريف قاسم ، نلاحظ التنوع والتلاقح اللغوي الذي شهده السودان منذ أقدم العصور..
- استوعبت الدولة السودانية التنوع الديني واللغوي والاثني وشهدت الاستمرارية في الثقافة السودانية خلال الحقب التاريخية المختلفة.
2
كما اشرنا سابقا، في مسارها التاريخي الطويل شهدت الدولة السودانية الحضارات الآتية :
- حضارة كرمة ( 3000 سنة ق .م) التي شكلت ميلاد الدولة السودانية، بعد ارتقاء الإنسان السوداني سلم الحضارة وتفكك المجتمعات البدائية التي تقوم على الصيد والتقاط الثمار وظهور المجتمع الزراعي والرعوي وتطور المدينة والصناعة الحرفية والتبادل التجاري وظهور أول انقسام طبقي واتساع الفروق الاجتماعية، وكانت نشأة الدولة السودانية مرتبطة بتفاعل عوامل سياسية ودينية وطبقية واجتماعية .
- حضارات نبتة ومروي والنوبة المسيحية التي كانت اوسع تطورا في الجوانب المادية والثقافية والفنية والروحية.
- المماللك الإسلامية ( الفونج ، دارفور ، تقلي المسبعات. الخ) التي استوعبت منجزات الحضارات السابقة المادية والفكرية وأضافت الجديد لها.
للمزيد من التفاصيل: راجع ، تاج السر عثمان الحاج : الدولة السودانية : النشأة والخصائص ، الشركة العالمية 2008)
* من سمات وخصائص الدولة السودانية أنها كانت في حالة تطور واتساع، في كل مرحلة تعرف حالات الازدهار والانحطاط والزوال،ثم تنبعث من جديد بشكل أوسع وأكبر مما كانت عليه في السابق، كما عرفت وحدة الاستمرارية والانقطاع، وتعدد المراكز أو العواصم. فضلا عن أنها كانت في حالة تطور باطني، وفي الوقت نفسه كانت في حالة تفاعل مع العالم الخارجي أخذا وعطاءاً.
- الشكل الحديث للدولة السودانية بدأ خلال فترة الحكم التركي - المصري (1821 -1885م) الذي شهد مولد السودان الحديث بشكله الحالي تقريبا، بعد ضم دارفور وسواكن وإقليم التاكا (كسلا حاليا)، والمديريات الجنوبية الثلاثة (الاستوائية ، بحر الغزال، وأعالي النيل، قبل انفصال جنوب السودان)، من خلال التوغل جنوباً، سواء لحملات تجارة الرقيق أو تجارة العاج أو لاكتشاف منابع النيل.
- كان صراع الهوّية ملازما لصراع الإنسان السوداني خلال الحقب التاريخية المختلفة ضد القهر والظلم من أجل الحرية ، ويتجلى ذلك في الثورات التي حدثت في دولة الفونج، والثورة المهدية ضد الاحتلال التركي، و ثورة الاستقلال ضد الحكم الإنجليزي ، وبعد الاستقلال: كانت ثورة أكتوبر 1964م ضد دكتاتورية الفريق عبود ، وانتفاضة مارس - ابريل 1985م ضد ديكتاتورية النميري، وثورة ديسمبر 2018 ضد ديكتاتورية نظام البشير أو الإنقاذ..
3
تجلي صراع الهوّية في علاقة الدين بالدولة ، فنجد أن الدولة السودانية مرت بكل المراحل التي عرفها التاريخ البشري، كما يتضح من الآتي:
- شهد السودان القديم الدولة الدينية أو الحكم بالحق الإلهي وعلى سبيل المثال :في دولة مروي كان كهنة آمون يحكمون بالحق الإلهي، وكان هناك صراع ضد القهر باسم الدين وحرية الاعتقاد، كما في صراع الملك "اركماني" ضد تسلط كهنة مروي، حتى تجح في الانتصار عليهم ، وغّير في المعتقدات والمفاهيم الدينية بعيد عن تسلطهم.
كما شهد السودان الوسيط: .
- ممالك النوبة المسيحية التي جمع فيها الملوك بين وظيفتي القس والحاكم، أي جمعوا بين السلطتين الزمنية والدينية .
- في سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء ، شهد البلاد الشكل الجنيني للدولة المدنية ،حيث كان مشايخ الطرق الصوفية مستقلين نسبيا عن ملوك سنار .
أما في السودان الحديث والمعاصر فقد قامت:
- الدولة المدنية في فترة الحكم التركي- المصري ،و تم التراجع إلى الدولة الدينية في فترة المهدية ، ثم اتسعت دائرة الدولة المدنية خلال فترة الحكم الإنجليزي.
- بعد الاستقلال ظلت الدولة مدنية حتى قوانين سبتمبر 1983م وبعد انقلاب 30/يونيو 1989م، تم التراجع مرة أخرى إلى الدولة الدينية التي ارتبطت بالقهر ومصادرة الحريات الدينية والثقافية واللغوية والتفرقة العنصرية والعرقية، وقمع ثقافات وهوّيات الأقليات القومية، وفرض تصورهم الديني القاصر عليها وفي مناهج التعليم، وبالفساد والنهب والإبادة الجماعية كما حدث في دارفور، وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق، وحتى انفصال الجنوب، وواصل شعب السودان الصراع ضدها حتى اسقاطها في ثورة ديسمبر ، وما زال الصراع مستمرا لإزالة آثارها المدمرة. كما في مقاومة انقلاب اللجنة الأمنية للنظام البائد في ١١ أبريل ٢٠١٩، وانقلاب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة والولايات، وحتى انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ الذي قاد للحرب الحالية بهدف تصفية الثورة ونهب ثروات البلاد من المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب، التي تهدد وحدة البلاد والتفريط في السيادة الوطنية.
4
ضمت الدولة السودانية شعوبا وقبائل ومناطق متباينة في التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ،وهذا التباين هو نتاج تطور تاريخي ، حيث شهد شمال ووسط السودان مولد الحضارات في السودان القديم وفي العصور الوسطى ، إضافة لسياسات المستعمر البريطاني الذي كرس الصراع القبلي والعنصري والادارة الأهلية، والانقسام الطائفي والقبلي، أي سياسة "فرق تسد" لاستمرار حكمه ، إضافة لتكريس التفاوت بين الشمال والجنوب من خلال نمط التنمية غير المتوازن ومن خلال قانون المناطق المقفولة الذي شمل الجنوب ومناطق الشرق ، وجنوب النيل الأزرق ، وجبال النوبة.
* من سمات وخصائص الدولة السودانية النشأة المستقلة ، فيما عدا الاحتلال المصري بعد انهيار دولة كرمة ، وفترة الحكم التركي المصري ، وفترة الحكم البريطاني، نلاحظ ان الممالك السودانية كانت مستقلة ، وكان الدفاع عن الوطنية السودانية مرتبطاً بالدفاع عن الدين والعقيدة ، كما حدث في مقاومة النوبة لحملة عبد الله بن أبى السرح والتي انتهت باتفاقية البقط ، والثورة المهدية التي قضت علي الاحتلال التركي ـ المصري، وثورة الاستقلال الثانية التي أنهت الحكم الاستعماري الانجليزي المصري عام 1956..
بعد الاستقلال واجهت الدولة الوطنية السودانية تحديات الديمقراطية التي لم تستقر بسبب الانقلابات العسكرية، وفشل النهضة السياسية والاقتصادية والثقافية ، وعدم قيام وحدة البلاد من خلال استيعاب تنوعها الديني والثقافي واللغوي في الدولة المدنية أو العلمانية الديمقراطية التي تسع الجميع، باعتبار ذلك مصدر إثراء واخصاب ونعمة بدلا أن يتحول لنغمة وحروب دامية لم تجنى منها البلاد غير الخراب والتخلف، وانفجرت مشكلة الجنوب عشية الاستقلال ، والتي ازدادت تعقيداً بعد أن أخذت الحرب طابعاً دينياً وخاصة بعد قوانين سبتمبر 1983م ، والتي زادت النيران اشتعالاً، حتى تمّ انفصاله بعد قيام نظام الانقاذ الدموي.
مما يطرح ضرورة وقف الحرب واستعادة مسار الثورة والمحافظة علي ما تبقي من الوطن بقيام دولة مدنية ديمقراطية المساواة فعلا لا قولا لرعاياها وحرية العقيدة والضمير والمساواة في الأديان وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء ومساواة المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن المعتقد أو العنصر أو الجنس وكفالة حرية البحث العلمي والفلسفي وحق الاجتهاد الديني وضمان الحقوق والحريات الأساسية والسياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وضمان حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، وتحقيق التنمية المتوازنة والسلام المستدام
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدولة السودانیة فترة الحکم فی الدولة من خلال
إقرأ أيضاً:
بعد ايقاف الإمارات الشحن الجوي والبحري للموانئ السودانية.. رحلة البحث عن البدائل
أثار قرار وزارة الطاقة والبنية التحتية الإماراتية والخاص بتعليق الإمارات التعاملات مع ميناء بورتسودان، والصادر بتاريخ الخميس السابع من أغسطس الجاري، جدلاً واسعًا في الأوساط الاقتصادية. وخلق القرار ذو الخلفية السياسية ربكة في الحركة التجارية بالبلاد، لجهة التعامل التجاري الكبير بين البلدين في السنوات الأخيرة.
وعلى الرغم من الأحداث السياسية والحرب الدائرة في السودان منذ زهاء العامين ونصف بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع التي تتمتع بدعم من الإمارات، إلا أن الدولتين حافظتا على التعامل الاقتصادي، بيد أن الإمارات أقحمت الاقتصاد في الصراع بينها وبين
اتهام السودان
واتهم السودان دولة الإمارات العربية بدعم مليشيا الدعم السريع خلال حربها مع قوات الجيش السوداني، التي دخلت عامها الثالث. وزادت وتيرة الاتهامات بعد الهجوم المتكرر على مدينة بورتسودان، لجهة استخدام أسلحة حديثة وإصابتها لأهداف بعينها.
وبلغ حجم الاستثمارات والتمويلات التنموية الإماراتية في السودان 28 مليار درهم (7.6 مليار دولار)، منها 6 مليارات دولار في القطاع الزراعي، مع وجود 17 شركة إماراتية تعمل في قطاعات متنوعة مثل الزراعة، السياحة، والطيران، والنفط، والغاز؛ وذلك وفق بيانات وكالة أنباء الإمارات (وام) والتي تعود إلى عام 2018.
نص القرار
ونص القرار الأخير على منع إصدار أي تصاريح إبحار للسفن التي ترفع علم دولة الإمارات العربية المتحدة والمتجهة إلى ميناء بورتسودان، بجانب منع التعامل مع أي بضائع أو حاويات، سواء كانت واردة أو صادرة، منشؤها أو وجهتها ميناء بورتسودان، بما في ذلك عمليات الشحن العابر (الترانزيت)، في جميع الموانئ والمحطات.
ايقاف سابق
وسبق هذا القرار ايقاف الإمارات لشركات الطيران السودانية ومنعها من الهبوط بمطار ابوظبي في تصعيد اماراتي ضد السودان.
وأكد عدد من رجال الأعمال الذين تحدثت معهم (المحقق) بسريان هذا القرار على جميع الحاويات الموجودة عبر الموانئ الإماراتية. وأوضح بابكر الشيخ الذي يعمل في مجال استيراد الأدوات الكهربائية أن القرار الذي أصدرته السلطات الإماراتية قد دخل حيز التنفيذ. وقال بابكر لـ(المحقق) إن “شركات الشحن الموجودة بالإمارات أبلغتهم بإيقاف الشحن من الموانئ الإماراتية وعدم السماح لأي بواخر بالشحن لميناء بورتسودان”.
وأشار إلى أن القرار أصاب الحركة التجارية بالسودان بحالة من الربكة والضبابية والشلل لجهة عدم معرفتهم بمدى سريانه.
إلا أن الشيخ أكد في الوقت نفسه على وجود بدائل أخرى غير الموانئ الإماراتية يمكن للسودان الاستفادة منها في جلب الواردات.
وتوقع أن يتضح تأثير القرار بصورة واضحة يوم الاثنين بعد انتهاء عطلة نهاية الأسبوع بدولة الإمارات.
تأثيرات كبيرة
من جهته، قال مصدر بالغرفة التجارية السودانية – فضل حجب هويته – إنه “من المبكر الحديث عن التأثيرات الاقتصادية لقرار الإمارات بوقف الشحن البحري والجوي للسودان”.
وأكد في حديثه مع ” (المحقق) على أن التأثيرات الاقتصادية ستكون كبيرة باعتبار أن الإمارات هي الشريك التجاري الأول للسودان واعتمد عليها في السنوات الأخيرة في جلب كثير من السلع الرئيسية وفي مقدمتها الوقود. وأوضح أن هناك بدائل كثيرة يمكن للسودان الاتجاه إليها حال استمرار القرار لفترة طويلة، منها الموانئ المصرية وجيبوتي وميناء جدة.
سد الفجوة
إلى ذلك، أوضح المحلل الاقتصادي للشؤون المصرية السودانية ، منجد إبراهيم، قدرة مصر على سد فجوة الإمارات في معظم السلع ما عدا الوقود.
ودعا إبراهيم لـ(المحقق) إلى أن بعد الأحداث المتلاحقة مع الإمارات وقطع الإمارات علاقاتها التجارية والطيران والترانزيت مع السودان، دعا مصر أن تكون جاهزة لسد تلك الفجوة التجارية الضخمة، موضحًا أن الموانئ الإماراتية تلعب دورًا كبيرًا في حركة التجارة مع السودان. ورجح إبراهيم استطاعة مصر سد تلك الفجوة ورفع حركة التجارة مع السودان خلال الفترة القادمة، لا سيما في السكر والدقيق والسلع الأساسية.
خنق السودان اقتصادياً
بدورها تشير الصحفية المتخصصة في الشأن الاقتصادي السوداني، سمية سيد، إلى أن قرار الإمارات بوقف التعامل مع ميناء بورتسودان يهدف إلى إحداث تداعيات اقتصادية محتملة على السودان، في محاولة لخنق السودان اقتصاديًا بعد أن فشلت الإمارات عسكريًا بدعم مليشيا الدعم السريع. وأوضحت سيد من خلال حديثها مع (المحقق) أن الإمارات تعلم أن ميناء بورتسودان يعد الشريان الرئيسي لواردات البلاد وصادراتها. وقالت “على الرغم من أن القرار لا يزال حديثًا ولم تتضح كل تبعاته، يمكن تحليل تأثيره من عدة جوانب كتعطيل التجارة إذ يُعد ميناء بورتسودان البوابة التجارية الأهم للسودان”.
وأشارت سمية إلى أن حظر السفن الإماراتية من التعامل مع الميناء، سواء بالقدوم منه أو الذهاب إليه، سيؤثر بشكل مباشر على تدفق السلع والمنتجات مما يؤدي إلى نقص في بعض السلع المستوردة من الإمارات.
وأضافت “ارتفاع التكاليف قد يضطر التجار السودانيين إلى البحث عن طرق شحن بديلة عبر موانئ أخرى في المنطقة، مما قد يزيد من تكاليف النقل والجمارك، وينعكس سلبًا على أسعار السلع في الأسواق المحلية”. وعن البدائل المتاحة أوضحت سمية أنها تتمثل في الانفتاح نحو أسواق جديدة خاصة مصر لأنها الأقرب والأقل كلفة في النقل عبر النقل البري في مسألة الاستيراد. وأشارت إلى أهمية فتح أسواق خارجية لصادرات السودان من الثروة الحيوانية والحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى مع التركيز على الأسواق التقليدية كالمملكة العربية السعودية التي تعد السوق الأكبر في الخليج لصادرات السودان. ودعت إلى ضرورة أن تركز الحكومة على البدائل المحلية بالاعتماد على الذات في الإنتاج خاصة الإنتاج الزراعي وذلك بإنجاح الموسم الزراعي المقبل والذي يواجه تحديات كبيرة.
وقالت إن القرار الإماراتي يهدف إلى الضغط الاقتصادي ومن الممكن أن تخفف الحكومة من تأثيراته إذا اتخذت بدائل أخرى وهي متاحة.
المحقق – نازك شمام
إنضم لقناة النيلين على واتساب