د. محمد بن خلفان العاصمي

جولة المُفاوضات التي عقدت قبل أسبوع في العاصمة مسقط بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية حول الملف النووي بوساطة عُمانية، ليست الأولى، فقد سبق أن احتضنت سلطنة عُمان سلسلة من اللقاءات بين مسؤولي البلدين وأطراف أخرى حول ذات الملف، الذي يُعد من أخطر الملفات في الشرق الأوسط؛ لما يُمثِّله من دور في نقل الصراع في المنطقة إلى مرحلة الاحتواء وضبط النفس وإعطاء الفرصة لجهود السلام وتقريب وجهات النظر، بدلًا عن مرحلة اللاعودة أو دخول الأطراف في مواجهة عسكرية تفضي إلى ضرب المفاعلات النووية؛ مما يعني الدمار الشامل وتعريض حياة الناس وجميع الكائنات الحيَّة في المنطقة للفناء وحدوث كارثة إنسانية غير مسبوقة.

لقد لعبت سلطنة عُمان دورًا كبيرًا في احتواء العديد من الأزمات السياسية وساهمت في نزع فتيل التوترات بين العديد من القوى السياسية المتصارعة؛ سواء كدول أو كقوى سياسية داخل الدولة نفسها. ومن بين أهم جهود السلام التي رعتها سلطنة عُمان قضية الصراع بين القوى السياسية في جمهورية اليمن الشقيقة منذ الثمانينيات من القرن الماضي وإلى يومنا هذا، كذلك ساهمت جهود سلطنة عُمان الدبلوماسية في احتواء تداعيات الأزمة الليبية التي شهدتها الجمهورية الليبية بعد سقوط نظام الرئيس الراحل مُعمَّر القذافي، ناهيك عن جهود الوساطة لإطلاق سراح المُحتجزين من رعايا عدد من الدول، وهذه جهود مُستمرة، ولا تكاد تمر فترة زمنية إلّا وقوافل الفرقاء تحج إلى عاصمة السلام، رغبةً في الوصول إلى تسويات سياسية تُنهي حالة الصراع.

الدور الذي تُؤديه سلطنة عُمان في المفاوضات بين الأطراف المتنازعة- أيًّا كانت- هو دور المُيسِّر والمُمهِّد والمُقرِّب؛ فالهدف الأساسي يتمثل في جعل الأطراف ذات العلاقة يجلسون على طاولة المفاوضات والحوار، وهذه مرحلة ليست بالسهلة إطلاقًا؛ ففي كل أزمة يتولد شعور لدى الجميع بأنَّ جميع الطرق مسدودة، والجميع يتمسك برأيه بدرجة كبيرة. ومن أجل إقناع الأطراف بأن الحل يكمن في الحوار، تبدأ سلسلة غير مرئية من اللقاءات والاتصالات والإقناع، قد تستمر لفترات طويلة، وهذا دور تميَّزت به السياسة العُمانية على مر التاريخ؛ بل هو جزء من تكوين الشخصية العُمانية التي تميل إلى (السدة) في جميع القضايا الخلافية في المجتمع.

وعندما تصل الأطراف إلى قناعة أن الحوار هو الحل أو أنه من المُستحسَن إعطاء الحوار فرصة كأحد الطرق التي قد تُسهم في حل الأزمة تبدأ الترتيبات لهذه المفاوضات، مع تهيئة المناخ المناسب للحوار وفق استراتيجيات محددة تُسهم في إنجاح المفاوضات من جولة واحدة أو عدة جولات، وفي أحيان أخرى تلجأ أطراف النزاع لسلطنة عُمان لتكون وسيط مفاوضات، وفي بعض المفاوضات تطلب الأطراف وجود سلطنة عُمان على طاولة الحوار كوسيط لتقريب وجهات النظر وهذه حالات محددة، والسياق الذي تفضله سلطنة عُمان في الوساطة هو دور المُيسِّر.

لم تصل سلطنة عُمان إلى هذه المرحلة من الموثوقية والإجماع الدولي حول قدرتها على قيادة المفاوضات إلّا من خلال مُمكِّنات، ساهم في وجودها، جهدٌ دبلوماسيٌ كبيرٌ، وسياسة ثابتة لا تتغير، ورؤية واضحة لترسيخ مبادئ السلم والأمن الدوليين، واحترام مُطلق للقوانين الدولية والتشريعات المنظمة للعلاقات بين الدول، مع الحرص على تعزيز ذلك في وسط منطقة مُلتهبة تستوجب التعامل معها بحذر شديد.

وقد اكتسبت سلطنة عُمان هذه المكانة لما توافر لديها من ممكنات جعلتها في هذا الدور المُهم، ومن بين هذه الممكنات:

علاقات الصداقة التي تجمع سلطنة عُمان بأغلب دول العالم، وهذه الرؤية الثاقبة التي أرسى دعائمها السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- عندما سعى منذ بداية مسيرة النهضة الحديثة لبناء علاقات صداقة مع جميع الدول، وقد نجح في ذلك، ومضى على هذا النهج حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- أبقاه الله- بحكمة واقتدار. الخلفية التاريخية السياسية التي تتمتع بها سلطنة عُمان، والتي لم تكن يومًا ذات أطماع وطموحات سياسية؛ بل كانت مصدر أمان لجيرانها واحد دعاة السلام في العالم، وحتى عندما تم التعدي عليها وبعد انتهاء الأزمة كانت سلطنة عُمان أول من يمد يد الصفح للمعتدي. الحنكة السياسية والدبلوماسية العُمانية، وهذه الميزة لم تتحقق صدفة؛ بل هي نتاج جهد كبير ونهج أسس على أساس قوي ومنهجية واضحة الأهداف بنيت لتتوافق مع الشخصية العُمانية التي كانت وما زالت تمتاز بالحكمة والفراسة والقدرة على تقدير الأمور وتدبيرها. البُعد عن الصراعات الدولية والتحالفات التي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات سياسية واقتصادية مُعينة مغلفة بظاهر المصلحة العامة وهي في حقيقتها ذات أبعاد خاصة، وهو ما جنَّب سلطنة عُمان الصراعات السياسية على مر السنين.

هذه بعض المُمكِّنات التي جعلت من سلطنة عُمان وسيط سلام معتمد وموثوق بين دول العالم، وعندما نجد أن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية تضع كامل ثقتها في قدرة سلطنة عُمان على إيجاد مسار سلام في ملف شائك مثل الملف النووي الإيراني؛ فهذا بحد ذاته دليل على ما تملكه سلطنة عُمان من مُقومات، خاصةً وأنَّ مثل هذه الدول اعتادت على أن يكون صوت القوة هو الأعلى دائمًا، وأن التفاوض منطق الضعفاء ولغة العجز، فكيف استطاعت سلطنة عُمان تغيير هذا المفهوم، وكيف نجحت في جعل الفرقاء يتوافدون على مسقط رغبةً في التفاهم والتعاون والحوار البناء؟!

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

باحثة عُمانية تطوّر فلاتر كربونية من مخلفات القهوة لمعالجة المياه

مسقط- الرؤية

أنجزت الباحثة العُمانية منار بنت سعيد العطار خريجة تخصص الهندسة التحويلية من الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، دراسة بحثية نوعية تهدف إلى معالجة المياه الملوثة ومياه الصرف الصحي باستخدام الكربون النشط المستخلص من مخلفات القهوة، بتمويل من برنامج التمويل المؤسسي المبني على الكفاءة التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.

وتسعى الدراسة إلى الإسهام في الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، من خلال تقليل انبعاثات غاز الميثان الناتجة عن تراكم نفايات القهوة، وتحويل هذه المخلفات إلى فلاتر كربونية فعّالة لمعالجة المياه، وذلك في إطار دعم جهود سلطنة عُمان نحو تعزيز الاستدامة البيئية وتفعيل الاقتصاد الدائري.

ويخلّف استهلاك القهوة المرتفع على الصعيدين المحلي والعالمي، والذي تؤكده بيانات المنظمة الدولية للقهوة (ICO)، كميات ضخمة من النفايات العضوية يوميًا، ويُعد التخلص العشوائي من هذه المخلفات مصدرًا لانبعاثات الميثان الضارة، في حين أن تحويلها إلى كربون نشط يوفّر حلاً بيئيًا مبتكرًا وفعالًا.

كما تهدف الدراسة إلى استثمار هذه المخلفات في إنتاج مادة ذات قيمة مضافة، تُستخدم كمرشح فعال في تنقية المياه، تماشيًا مع رؤية "عمان 2040" في تحقيق الأمن البيئي، وتقليل الاعتماد على المواد المستوردة عبر تطوير منتجات محلية منخفضة التكلفة وصديقة للبيئة.

واعتمدت الباحثة في دراستها على منهجية تجمع بين الجانبين النظري والعملي، حيث بدأت أولًا بالتصميم النظري والنمذجة باستخدام برنامج(Aspen HYSYS Plus) وهو برنامج محاكاة هندسي متقدم يُستخدم بشكل أساسي في مجال الهندسة الكيميائية وهندسة العمليات، وتصميم وتحليل العمليات الصناعية، خاصة في صناعات النفط، والغاز، والبتروكيماويات، والطاقة، حيث قامت ببناء نموذج لعملية إنتاج الكربون النشط من مخلفات القهوة، مما ساعد على فهم تدفق المواد والطاقة في النظام، وتحديد كمية الإنتاج الممكنة، بالإضافة إلى إجراء تحليل مبدئي للجدوى الاقتصادية، الأمر الذي وفّر وقتًا وجُهدًا في اختيار أفضل الظروف التشغيلية قبل البدء بالتجارب الفعلية.

بعد ذلك، انتقلت الباحثة إلى الجزء العملي، حيث جمعت مخلفات القهوة من المقاهي المحلية، ثم جففتها في فرن بدرجة حرارة (100) مئوية لمدة (24) ساعة، وبعد التجفيف، تم تحويل هذه المخلفات إلى كربون نشط باستخدام مفاعل حراري يعمل بتقنية الانحلال الحراري، وجرى تنشيط الكربون الناتج بطرق فيزيائية وكيميائية لزيادة كفاءته، ولاحقًا خضع الكربون النشط المنتج لسلسلة من التحاليل المخبرية المتقدمة، والتي شملت قياس المساحة السطحية، والمسامية، وتحليل البنية المجهرية والبلورية، بالإضافة إلى التركيب الكيميائي، وذلك بهدف فهم خصائص المادة الناتجة بدقة.

وفي المرحلة الأخيرة، أجرت الباحثة اختبارات أداء لفلاتر الكربون النشط المصنوعة من مخلفات القهوة لتقييم مدى قدرتها على إزالة المعادن الثقيلة من المياه الملوثة، وتم ذلك من خلال دراسة نسب الامتصاص وكفاءة الإزالة تحت ظروف تشغيل مختلفة.

وأظهرت نتائج الدراسة أن مخلفات القهوة تمثل مادة أولية واعدة لإنتاج كربون نشط عالي الجودة، حيث تمكنت الباحثة من تطوير منتج يتمتع بفعالية تنافسية مقارنةً بالكربون النشط التجاري، خاصة في إزالة الملوثات مثل المعادن الثقيلة من المياه.

وبيّنت التحاليل المخبرية أن الكربون المنتج يتميز بمسامية مرتفعة ومساحة سطحية واسعة، مما يعزز من قدرته الامتصاصية وفعاليته في تطبيقات تنقية المياه، كما يمتاز بانخفاض تكلفته وسهولة تصنيعه من مصادر محلية متاحة، مما يجعله خيارًا اقتصاديًا وصديقًا للبيئة. وبيّنت التجارب كذلك أن هذا الكربون النشط قابل لإعادة الاستخدام بعد انتهاء عمره الافتراضي، الأمر الذي يسهم في تعزيز استدامته والحد من الأثر البيئي الناتج عن المواد أحادية الاستخدام.

وأوصت الدراسة بتوسيع تطبيق تقنية إنتاج الكربون النشط من مخلفات القهوة على نطاق صناعي لمعالجة المياه الملوثة ومياه الصرف بكفاءة عالية وبتكلفة منخفضة، مع إمكانية دمج هذه التقنية ضمن أنظمة إعادة استخدام المياه في العمليات الصناعية، واقتراح اعتماد استراتيجية الحياد الكربوني الصفري في مراحل التشغيل، وذلك من خلال الاستفادة من الغاز الحيوي الناتج عن عملية الانحلال الحراري كمصدر طاقة لتنشيط الكربون، بما يسهم في خفض البصمة الكربونية ودعم التوجهات الوطنية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ودعت الدراسة أيضًا إلى استخدام الكربون النشط المنتج في التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون من الانبعاثات الصناعية لدوره الفعّال في تقليل الغازات الدفيئة، إضافة إلى ذلك، يُمكن توظيفه في تحسين عمليات استخلاص النفط والغاز، والتحكم في الانبعاثات الغازية، ومعالجة الملوثات العضوية في الصناعات الكيميائية والبترولية، مما يمنحه فرصًا واسعة للتطبيق في عدد من القطاعات الحيوية داخل سلطنة عُمان.

مقالات مشابهة

  • من غزة إلى الكونغو ثم إيران.. كيف تنسج قطر خيوط دبلوماسيتها في الملفات الشائكة؟
  • رشاد عبد الغني: وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل يؤكد رؤية مصر التي تنادي بالحلول السياسية لا الحروب
  • باحثة عُمانية تطوّر فلاتر كربونية من مخلفات القهوة لمعالجة المياه
  • باحثة عُمانية تُحوّل مخلفات القهوة إلى حلول مائية مستدامة
  • 5 ولايات عُمانية ضمن المراكز الأولى عالميًا في شدة الحرارة
  • إسرائيل تعلن رسميًا موافقتها على وقف إطلاق النار مع إيران وتشكر ترامب على الوساطة
  • مباحثات يمنية بريطانية بشأن مستجدات الأوضاع السياسية والعسكرية
  • عاجل ـ الخارجية القطرية: حذرنا مرارا من مغبة تصعيد إسرائيل في المنطقة وسلوكياتها غير المسؤولة
  • الإمام الأطروش.. الداعية الإسلامي الحصيف والمَثَلُ الأعلى للمُبَلِّغيْن والقادة في عصرنا الراهن
  • دعوات دولية للتهدئة في الشرق الأوسط وعودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات