الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي
تاريخ النشر: 23rd, April 2025 GMT
#الأيديولوجية_الدينية في #الصراع_الفلسطيني ـ #الإسرائيلي
الدكتور #حسن_العاصي
أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا
تمثل القومية ـ باعتبارها مرجعاً قوياً للهوية ـ عنصراً مهماً في تطور وتصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. علاوة على ذلك، وضمن السرديات الأوسع للقومية، تلعب القومية الدينية خاصة، والتي تتمثل في دمج الدين في السرد القومي، دوراً رئيسياً أيضاً، لأنها تضيف الشرعية الأخلاقية إلى القومية وافتراضها المرتبط بالقيمة العليا والمقدسة للدولة القومية.
إن دور الدين في السياسات الوطنية أخذ في التصاعد منذ تسعينيات القرن الماضي. لقد انتقل دور الدين في الشرق الأوسط ـ بصورة عامة ـ بشكل متزايد إلى صدارة التاريخ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001. وقد أثيرت أسئلة مهمة بشأن الدور الذي يلعبه الدين في تعزيز فرص السلام أو إدامة وتصعيد الصراع. بلا شك إن الديانات التوحيدية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية عززت تاريخياً الصراع والسلام، مما يجعلها متناقضة. فحين تعكس كل هذه الديانات سرداً وقيماً للسلام، إلا أنها أصبحت أيضاً طرفاً في العديد من الصراعات عبر التاريخ. وكانت الكراهية القائمة على الاختلافات العرقية والدينية في جذر العديد من الحروب عبر التاريخ، بما في ذلك الحروب الصليبية في العصور الوسطى (المسيحيون الأوروبيون مقابل المسلمين العرب)، وحرب الثلاثين عاماً (الكاثوليك مقابل البروتستانت)، والتي دمرت أوروبا في القرن السابع عشر. لقد أصبح الدين متشابكاً مع تكثيف الصراع والعنف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وينعكس هذا الاتجاه أيضاً في جوانب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
يمكن بوضوح الإشارة إلى اليهود الأرثوذكس والصهاينة المتدينون المتشددون كمجموعة أدرجت الدين في هويتها الوطنية ورؤيتها للصراع بما يتجاوز الأطر القومية التي جعلت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد. بحيث أصبح فيها الدين محفزاً للصراع، وأداة إضافية للتحريض على قتل وإبادة الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم وطردهم من وطنهم.
مراجعة الأدبيات
إن فهم دور الدين في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتطلب فهماً للصراع القومي الأوسع الذي يدور حول العرق بين الجانبين. ويوفر هذا الأخير السياق للبحث في الطرق المختلفة التي يتعامل بها أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية على التوالي مع وظيفة دينهم في الصراع. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه في حين أن القومية ونهجها العرقي تجاه الدولة يشكلان محركاً مركزياً في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن القومية ليست فريدة من نوعها بالنسبة للجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني، حيث إن القومية هي سرد رئيسي يربطه العلماء بالتطور التاريخي للحداثة وظهور الدول القومية. ولهذا السبب، من الضروري مراجعة الأدبيات حول الخصائص الأساسية للقومية كحجر أساس للتركيز على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووظيفة الدين في داخله.
إن موسوعة الهوية تعد أحدث مجموعة من الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، تسلط الضوء على القومية باعتبارها أحد المراجع المركزية للهوية. وتشير الموسوعة إلى مجموعة واسعة من المراجع المتعلقة بالهوية، من الطبقة إلى العرق إلى الجنس، إلخ. ومع ذلك، باعتبارها سرداً حداثياً لتكوين الهوية، فإن القومية لها دور بارز في الصراع من خلال ارتباطها بالدولة القومية.
وسواء كانت في الرؤى العلمانية أو الدينية، ينظر العلماء إلى القومية باعتبارها واحدة من أقوى القوى في العالم الحديث. فما هي الخصائص الرئيسية لهذه السرد القوي؟
إن مفهوم القومية متأصل في الحياة اليومية لمواطني الدول القومية الحديثة. إن الفخر الذي يشعر به الناس تجاه الإنجازات الوطنية، والتعبيرات التي يبديها السياسيون عن “المصالح الوطنية” في تبرير السياسات، والرموز التي تستخدمها الدول للتعريف بالذات (مثل الأعلام، والأناشيد الوطنية، والآثار) هي إشارات سائدة للقومية باعتبارها هوية جماعية، وتساعد في خلق وعي وطني بين الأفراد المختلفين. وفي حين كانت القومية ضرورية لبنية الدول القومية الحديثة ويمكنها أن تلعب دوراً حتمياً عندما تواجه المجتمعات أوقات الأزمات، فإنها يمكن أن تدفع الناس وقادتهم أيضاً إلى النظر إلى دولتهم على أنها معصومة عن الخطأ ولا تشوبها شائبة، مما يبرر استخدام القوة والعنف للتعامل مع الخصوم الحقيقيين أو المفتعلين.
وقد تضاعف الاهتمام البحثي بمفهوم القومية بشكل كبير خلال الثمانينات واستمر حتى يومنا هذا. ركزت الدراسات السابقة على القومية الأوروبية باعتبارها القوة الدافعة التي أدت إلى الحربين العالميتين، ولكن في الآونة الأخيرة كان هناك المزيد من التركيز على الأمثلة غير الغربية، وخاصة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. في الشكل الكلاسيكي للقومية، والذي ينطوي على إنشاء الدول ذات السيادة والحفاظ عليها، فإن الولاء للأمة له الأسبقية على جميع الولاءات الأخرى، مثل الروابط الإقليمية أو المحلية أو القرابة. وعلى النقيض من القومية الكلاسيكية، من المرجح أن تثير الدول ما بعد القومية حقوق الفرد والإبداع وتنوع المجتمعات داخل الأمة باعتبارها أساسية للديمقراطية.
في القومية، تتمتع فكرة الأمة بالسيطرة على الناس والتي ربما يمكن فهمها بشكل أفضل على أنها نتيجة للخصائص المبالغ فيها التي يروج لها العقل القومي ويمنحها للدولة القومية. وبصرف النظر عما إذا كانوا يرون القومية كقوة إيجابية أو سلبية، فإن العلماء عادة ما يعترفون بأن الأمة في القومية تحتل أعلى مرتبة، وتُنظر إليها باعتبارها الوكالة العليا للأهمية والهوية الجماعية والتبرير الأخلاقي. لقد لاحظ المفكر اليساري البريطاني “إريك هوبسباوم” Eric Hobsbawm بشكل نقدي أن إحدى الطرق القوية التي تكتسب بها القومية صفة الإثبات التاريخي هي من خلال افتراضها أن الأمة مقدسة. فيما ذهب البعض إلى اعتبارها بديلاً للدين. ويمكن تطبيق هذا التصريح على القوميات التي جسدت الدين التقليدي كجزء من بنيتها العقلية للقيم (على سبيل المثال، القوميات الصربية واليونانية والهندوسية والإسلامية والأيرلندية البروتستانتية والأيرلندية الكاثوليكية) وكذلك على القوميات العلمانية التي تهدف إلى إلغاء الدين التقليدي من هياكل قيمها للهوية الوطنية (على سبيل المثال، القوميات التركية والفرنسية والمصرية والسورية).
وفيما يتصل بالنهج القومي للتاريخ، فقد تم إضفاء طابع طقوسي على إسناد القداسة إلى فكرة الأمة في تمثيل الزعماء الوطنيين، وفي الاحتفالات العامة ذات التوجه العرقي، وفي السرديات الرئيسية للأعمال الشجاعة الوطنية التي تركز على الإنجازات غير العادية، والتي تسلط الضوء عليها الثورات والحروب وقصص الأعمال البطولية. وتدمج هذه السرديات القومية للتاريخ حقائق تاريخية مختارة في أساطير المجد الوطني والعظمة والمصير الملزم والعظمة، وتربط بين هذه الأساطير والحكايات. إن القومية، من خلال تصور مبالغ فيه للأمة، تبرز صورة مجيدة للأمة، وتضعها في ماضٍ بدائي فائق، تحول بالضرورة إلى حاضر مقنع ملزم بالواجب، ومستقبل لا نهائي وعظيم. بكل هذه الطرق، تُطور القومية مفهوماً أحادي المركز ونرجسياً لعالم حياة الأمة، وتصمم صورة لتاريخ الأمة تحدد “الخير” بأمتها و”الشر” بـ “الآخر”، وتحديداً “العدو الآخر”.
كان الجانب الأكثر إشكالية في القومية على المستويين الوطني والدولي هو قدرتها على ربط التفكير الأخلاقي واستخدام القوة / العنف، وخاصة في وقت الصراع. بطريقة فريدة من نوعها. لقد أسست القومية تاريخياً الحق في استخدام القوة/العنف في المنطق الأخلاقي القائل بأن الأمة هي القيمة الجماعية النهائية والأساس الضروري للمجتمع، والهوية، والأمن، والرفاهية. وقد جعل هذا التكوين من المعتقدات والأفعال القومية مُشرعاً قوياً لاستخدام القوة والعنف طوال التاريخ الحديث ومعظم تاريخ ما بعد الحداثة. تكشف أبرز رموز القومية، بدءًا من الأناشيد الوطنية والأعلام الوطنية والآثار والتأريخ، عن رموز وتتضمن سرديات الحرب والثورة والبطولات وسفك الدماء كمراجع عليا للهوية الوطنية والمجد والشرف.
تعمل القومية على افتراض أن بنية الهوية هي عرقية أحادية البعد بشكل حصري وأساسي. ويوضح المؤرخ الكندي “مايكل إغناتييف” Michael Ignatieff وهو باحث مشهور في القومية العرقية، أن: “القومية، باعتبارها مثالاً ثقافياً، هي الادعاء بأن الرجال والنساء لديهم هويات عديدة، ولكن الأمة هي التي تزودهم بالشكل الأساسي للانتماء”. ويشير إغناتييف كذلك إلى أن القومية هي أقوى حافز وشرعية للعنف المميت واستخدام القوة المميتة. كما يؤكد أنه على عكس المراجع الأخرى للهوية والانتماء، مثل الأسرة أو المهنة، تقدم القومية سردًا يمكنه اللجوء بسهولة إلى مبررات للعنف. ويشير إلى أنه ليس من الواضح “لماذا يجب أن تكون الهوية الوطنية عنصراً أكثر أهمية للهوية الشخصية من أي عنصر آخر؛ ولا من الواضح أيضاً لماذا يبرر الدفاع عن الأمة استخدام العنف”. وهذا يعني ضمناً أنه على عكس جوانب أخرى من الهوية، تفسر القومية الهوية الوطنية على أنها عليا ومقدسة، وبالتالي تستحق التضحية البشرية.
عند النظر إلى الحروب والعنف الذي اجتاح الشرق الأوسط في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، باعتبارها السياق الأوسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتكشف، نلاحظ تكثيف القوميات المتنافسة داخل المجتمعات وبينها. وقد شكل انتكاس القومية في المنطقة، وبشكل أكثر تحديداً صعود القومية الدينية والتشدد، تحديات جديدة خاصة في مواجهة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وفي بعض الأحيان في التحالف معها.
عند الحديث عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على وجه التحديد، تدور صراعات الهوية حول تكوينات الهوية الوطنية للمجموعات المعنية. نؤكد على فكرة أن الصراعات القائمة على الهوية تحتوي على عناصر أساسية تستند إلى الرفض المتبادل لشرعية الجانب الآخر خوفاً من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تقويض شرعية المرء وقيمه ومطالباته. في الماضي غير البعيد، كان الإسرائيليون يخشون أن يؤدي اعتبار المطالبات الفلسطينية مشروعة أو تؤخذ على محمل الجد إلى تقويض المطالبات الإسرائيلية. وكان لدى الفلسطينيين نفس المخاوف بشأن الإسرائيليين. وبالتالي، كان يُنظر إلى الوضع والتنازل عن الموارد والأراضي على أنهما محصلتهما صفر، وذلك في المقام الأول بسبب المخاوف والشكوك المتبادلة بشأن الاعتراف بالهوية. لكن الإسرائيليون يتناسون أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الأصليين، وأن الصراع بينهم وبين الفلسطينيين ليس على أشياء مُتنازع عليها، إنما هو صراع بين مُستعمر مُحتل، يُحاول أن يبني سرديته فوق الأرض التي يحاول أن يدفن تحتها الرواية الحقيقية لمظلومية الشعب الفلسطيني.
أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع على أصول مادية حقيقية، مثل الأراضي والمياه والحدود والأمن وما شابه ذلك. وفيما يتعلق بكون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراعاً على الهوية، فإن هذا الصراع هو صراع يرى فيه كل جانب الهوية الوطنية للجانب الآخر كتهديد، أو كترجمة لهذه الهوية إلى المجال السياسي – أي إلى “دولة قومية” – كخطر على هويتها الوطنية المستقلة. وبالتالي فإن أحد الجانبين يرفض بالتالي التعريف إذا كان الجانب الآخر كأمة، أو على الأقل، ينكر حقه في تحقيق هذه الهوية في سياق الدولة الوطنية. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ في جوهره ـ ليس فقط صراع على الهوية لأن أصله وسبب استمراره متجذران في إنكار كل جانب لقومية الجانب الآخر، ومطالبة كل جانب بالحق في إنشاء دولته القومية العرقية، بل هو صراع سببه قيام إسرائيل باحتلال وسرقة الأراضي الفلسطينية وطرد السكان الأصليين ومصادرة ممتلكاتهم بغير وجه حق.
وبشكل أكثر تحديداً يتم وضع دور ووظيفة الدين في سياق الإطار المذكور أعلاه للصراع القومي الإسرائيلي الفلسطيني، لذلك من الطبيعي أن يتخذ دين الجانبين علاقة معينة بالقومية. هناك نوعين رئيسيين من القوميين الدينيين: العرقي والأيديولوجي. يهاجم القوميون الدينيون العرقيون الأعراق المنافسة، بينما يهاجم القوميون الدينيون الإيديولوجيون العلمانية داخل بلدهم (الحكومة والمؤيدين) أو الأديان المنافسة. فإذا كان النهج العرقي للقومية الدينية يسيّس الدين من خلال استخدام الهويات الدينية لأغراض سياسية، فإن النهج الإيديولوجي للقومية الدينية يفعل العكس: إنه يضفي طابعًا دينياً على السياسة. ومن الضروري فهم هذا الأمر لأنه يشير إلى الطريقتين الأساسيتين اللتين يتم بهما دمج الدين في السياسة الوطنية، وتشكيلات الهوية الوطنية.
الهجرة الدينية والاتجاهات الصاعدة
يحاول بعض الباحثين إقناع الجمهور في أن الإيديولوجيات الدينية في كل من القوى الدينية الفلسطينية واليهود الأرثوذكس تمثل عنصراً رئيسياً في كيفية نظرهم إلى سياساتهم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. والتأكيد بشكل متكرر على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتعلق بشعبين يتقاتلان على نفس قطعة الأرض، وبالتالي فقد تم اعتباره أيضًا صراعاً جيوسياسياً دينياً ووطنياً. لكن الحقيقة التي يتم تجاهلها أن فلسطين كانت تسكنها تاريخياً اغلبية عربية مطلقة، ويعيش بجوارها اقلية قليلة من اليهود. وبسيطرة بريطانيا على فلسطين بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تحكم هذا الجزء من الشرق الأوسط، في الحرب العالمية الأولى وفي نفس العام أي في 1917 أرسل “آرثر جيمس بلفور” Arthur James Balfour وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى البارون “ليونيب وولتر دي روتشيلد” Lionel Walter Rothschild وفي هذه الرسالة قدم بلفور تعهداً بدعم بريطاني لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، أي أن بريطانيا قدمت فلسطين التي لا تملكها إلى الحركة الصهيونية التي أعلنت قيام دولة إسرائيل عام 1948 وطرد مليون فلسطيني من منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم بما يعرف بالنكبة. ولكن الدين في تلك الفترة لعب دوراً ثانوياً نسبياً قبل أن يصبح أكثر حضوراً بعد حرب 1967. وسيكون من الخطأ القول إن الدين كان غائباً تماماً عن الصراع لأن عدداً من اليهود انتقلوا إلى فلسطين لأسباب دينية.
بعد الهزيمة التي مني بها العرب عام 1967 بدأ اليهود المتدينون يعتقدون أن انتصاراتهم كانت علامة من الله على أن المسيح في طريقه. لقد اعتقدوا أن انتصارهم كان علامة من الله لمضاعفة جهودهم في استيطان كل الأراضي لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. وجد العديد من اليهود المتدينين المعروفين بالصهاينة اليمينيين تمثيلهم أثناء تشكيل حركة “غوش إيمونيم” Gush Emunim وهي حركة ناشطة إسرائيلية يمينية ملتزمة بإنشاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. نشأت حركة غوش إيمونيم بعد هزيمة عام 1967، وشجعت الاستيطان اليهودي في الأرض على أساس الاعتقاد بأن الله أعطاها للشعب اليهودي وفقًا للتوراة” لم تعد حركة غوش إيمونيم موجودة رسمياً، لكن آثار نفوذها لا تزال قائمة في المجتمع الإسرائيلي.
تسببت هزيمة حرب عام 1967 موجات صدمة في العالم العربي، وأُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم دون أي استحقاق للعودة. لقد أدرك الفلسطينيون أنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على جامعة الدول العربية، ولجأوا في النهاية إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) عام 1964. ووضع الشعب الفلسطيني كل آماله على منظمة التحرير في محاولته لاستعادة أرضه. لكن التحرير بدا أمراً معقداً تدريجيًا في الزقت الذي بدأ فيه المستوطنون الإسرائيليون يبنون المزيد من المستوطنات في غزة والضفة الغربية. ولقد ازداد عدد المستوطنين بسرعة على مر السنين، من أقل من 1200 مستوطن في الضفة الغربية في عام 1972، إلى أكثر من 44 ألف بحلول عام 1985. أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية غير فعّالة في نظر جزء من الشعب الفلسطيني، فبدأوا تدريجياً في البحث عن قيادة أقوى. ثم انطلقوا بحثاً عن حركة جديدة تعالج حاجتهم إلى استعادة ما اعتبروه وطنهم الشرعي. وهكذا تحول جزء من الفلسطينيين إلى الإسلام السياسي. وفي شكل القومية الدينية، انفجر الإسلام السياسي في طليعة التاريخ مع الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الإطاحة بالشاه في عام 1979. مما أدى إلى ترسيخ القومية الإسلامية الشيعية التي حفزت المسلمين المتدينين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك عدد كبير من الفلسطينيين على الرغم من حقيقة أنهم كانوا من المسلمين السنة.
تم تشكيل حركة الجهاد الإسلامي في الفترة ما بين عامي 1985 و1986وتأسست حركة حماس (التي تعني اختصاراً “حركة المقاومة الإسلامية”) في عام 1988، وكانت فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين، ونمت نتيجة رد الفعل على الاحتلال الإسرائيلي القمعي وعنف المستوطنين اليهود في الضفة الغربية. نمت حماس واشتدت بشكل مطرد بحيث فازت بالانتخابات الفلسطينية في عام 2006 بحصولها على 76 مقعداً في المجلس التشريعي البالغة من أصل 132 بينما حصلت حركة فتح على 43 مقعداً، والجبهة الشعبية على ثلاثة مقاعد.
يعود فوز حركة حماس إلى عدة أساب أبرزها:
أولاً: ضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم فعاليتها في تخفيف ظلم الاحتلال الإسرائيلي، وفشلها في بذل أي جهد لوقف نمو المستوطنات. بحلول عام 2006، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى ما يزيد عن 260 ألف. وعلى النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية، كان يُنظر إلى حماس باعتبارها قوة ضد المستوطنين وباعتبارها أثرت على القرار الإسرائيلي بالانسحاب من غزة في عام 2005.
ثانياً: خلقت السلطة الفلسطينية سمعة سلبية لنفسها بسبب الفساد والمحسوبية، وعلى النقيض من حماس التي طورت سمعة من الصدق والنزاهة.
ثالثاً: قيام حماس ببناء أساس متين من الثقة المتبادلة بينها وبين فئات عديدة من الشعب الفلسطيني. لقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى إحداث تغييرات إيجابية في حياة الفلسطينيين من خلال تشغيل برامج اجتماعية مثل المساجد، والمدارس، ومطاعم الحساء، والعيادات.
وبحلول الوقت الذي نشطت فيه حماس، كانت الصهيونية الدينية اليمينية حاضرة بقوة وبشكل كامل على الجانب الإسرائيلي، ترتكب أشنع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى إبادته. كان الصهاينة المتدينون المتطرفون ينظرون إلى اللجوء إلى العنف على أنه مبرر أخلاقياً. ويعتقد قادتهم أن الله يؤيد أجندتهم الوطنية، وأن الله أعطاهم كل أراضي المنطقة، وأن الله يريد أن يؤمنوا الأرض ودولتهم من خلال جميع الوسائل بما في ذلك القوة المميتة والعنف. مثل هذه الافتراضات في السرديات القومية الصهيونية جعلت من السهل نزع الصفة الإنسانية عن “الآخر” وتبرير قتله.
دور الدين في إسرائيل ـ الأيديولوجية الصهيونية الدينية
يعتبر الفصيل اليهودي الأرثوذكسي الجماعة الدينية الأصولية في إسرائيل. وداخل مجموعة اليهود الأرثوذكس، هناك ما يسمى بالصهاينة. لا تمتلك الصهيونية أيديولوجية موحدة، ولكنها تطورت من خلال التفاعل بين عدد كبير من الأيديولوجيات، إحداها الصهيونية الدينية. فقبل تأسيس دولة إسرائيل، كان الصهاينة الدينيون في الأساس يهوداً ملتزمين (يهود يلتزمون بقواعد وأهداف التوراة) الذين دعموا الجهود الصهيونية لبناء دولة يهودية في فلسطين. تركزت هذه الأهداف أولاً على إنشاء دولة يهودية في عام 1948 تم استخدام الحجج التاريخية واللاهوتية والوطنية والوجودية والسياسية والمجتمعية والثقافية لتبرير هذه الأهداف، وتبرير احتلالها لفلسطين وطرد سكانها العرب الأصليين.
الأرض كانت ولا زالت هي محور الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهي قضية مهمة للغاية لدرجة أن الهيئات الدولية تناولتها. حيث يعتبر المجتمع الدولي المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل غير قانونية بموجب القانون الدولي، وذلك بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبموجب الشرعية الدولية أيضاً. ومع ذلك، ففي نظر القوميين المتدينين الصهاينة، فإن التفسيرات الدينية تتجاوز القانون الدولي.
إن وجهات النظر من المنظور الصهيوني الديني تلعب دوراً هاماً في التعامل مع الحقوق الإقليمية في المنطقة، وخاصة من جانب الشخصيات الصهيونية السياسية. ومن الأمثلة على ذلك “مائير كاهانا” Meir Kahane الحاخام الإسرائيلي الأمريكي الأرثوذكسي، والسياسي القومي المتطرف، ومؤسس حزب «كاخ» اليميني المتطرف الذي طالب برنامجه بضم جميع الأراضي المحتلة وتهجير الفلسطينيين قسراً. وكان كاهانا أيضاً حاخاماً أرثوذكسياً مُرسَماً، دعا إلى تفجير المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الثالث. وشغل أيضاً منصب عضو في الكنيست الإسرائيلي. وكان جزء كبير من أيديولوجية كاهانا هو أن إسرائيل لا ينبغي لها أبداً أن تبدأ حرباً من أجل الأراضي، ولكن إذا شُنت حرب ضد إسرائيل، فيجب ضم الأراضي التوراتية. كما عرّف كاهانا الأراضي التوراتية بأنها الحدود الجنوبية التي تصل إلى العريش (أكبر مدينة في شبه جزيرة سيناء)، والتي تضم كل شمال سيناء. وإلى الشرق، تمتد الحدود على طول الجزء الغربي من الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومن ثم فهي جزء مما يُعرف الآن بالأردن. كما تشمل أرض إسرائيل جزءًا من لبنان وأجزاء معينة من سوريا وجزءًا من العراق، وصولاً إلى نهر دجلة. كما ذكر كاهانا أن “المعجزات لا تحدث من تلقاء نفسها”. لقد شعر أن الطريقة الوحيدة لعودة المسيح هي عندما يخلق اليهود الظروف السياسية المناسبة.
مثال آخر يمثله الصهيوني المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” Bezalel Smotrich الذي يحفل سجله بالتصريحات المتطرفة والعنصرية التي يتماهى فيها مع الإرهاب اليهودي وأعمال العنف التي تقوم بها عصابات المستوطنين المتطرفين مثل “شبيبة التلال” و”تدفيع الثمن”. سموتريتش من أصل أوكراني ترعرع في المستوطنات وفضل تعلم التوراة على الخدمة في الجيش، الذي التحق به في سن متأخرة وخدم فيه مدة 16 شهرا فقط. مواقف سموتريتش وتصريحاته العنصرية كثيرة جداً، ولكن ربما من أبرزها اعتباره في العام 2015 أن إحراق ثلاثة أشخاص من عائلة دوابشة حتى الموت من قبل مستوطنين يهود “لا يعد عملا إرهابيا” وأن الإرهاب هو “العنف الذي يوجه إلى اليهود من قبل العرب فقط”، وهي تصريحات تكررت عند قيام ميليشيات من المستوطنين بإحراق عشرات المنازل والمركبات والمحال التجارية في قرية حوارة التي دعا إلى “محوها”. ومنذ أن أصبح وزيراً للمالية في حكومة “بنيامين نتنياهو” شنّ حرب الاستيطان على الشعب الفلسطيني. فقد شرع بتنفيذ خطط ابتلاع 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، تنفيذًا لوعده بالقضاء على حل الدولتين وتوافقاً مع عقيدة “إسرائيل الكبرى” التوسعية، كما يُطلَق عليها. وفي أكثر من مناسبة، لوّح سموتريتش بتوسيع الاستيطان، حتى إنّه رسم معادلة قوامها إقامة مستوطنة جديدة باسم كل دولة تعترف بشكل أحادي بالدولة الفلسطينية، بل إنّه يقول إنّ مهمّة حياته هي “إحباط إقامة دولة فلسطينية”.
وهناك مثال آخر على هو وزير الأمن القومي الصهيوني المتطرف “إيتمار بن غفير” Itamar Ben-Gvir الذي أوعز لأجهزة الجيش والشرطة بكف يدها عن عنف المستوطنين الذين شنوا مئات الهجمات ضد الفلسطينيين للاستيلاء على أراضيهم ومزارعهم. أسس حركة “العظمة اليهودية” (عوتسما يهودت)، وأصبح عضوًا في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي عام 2021. وينحدر بن غفيرلوالدين من جذور عراقية كردية. ويستمد أفكاره المتشددة من الحاخام مائير كاهانا، مؤسس حركة “كاخ” الذي فاز بمقعد في الكنيست الإسرائيلي عام 1984، قبل أن تُصنف حركته “إرهابية وفاشية. وصفت صحيفة هآرتس العبرية فوزه مع حزبه في انتخابات الكنيست عام 2022 بأنه “اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل”. ينتمي بن غفير لليمين المتطرف، الذي يرى أن إسرائيل دولة يهودية قومية وصهيونية، ويناهض تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويدعم عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ويدعو إلى الطرد القسري للمواطنين العرب “غير الموالين” من البلاد، وفق “تايمز أوف إسرائيل”، مما جعله صاحب شعبية كاسحة.
أما أدبيات حزب الليكود الإسرائيلي فتتضمن “إن حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل أبدي ولا جدال فيه ويرتبط بالحق في الأمن والسلام؛ وبالتالي، لن يتم تسليم يهودا والسامرة إلى أي إدارة أجنبية. وبين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية”.
تغلغل التطرف الديني
وفقًا للمنظور الصهيوني الديني، فقد عهد الله بالأرض (الأرض التوراتية) إلى الشعب اليهودي وأنه لم تكن هناك دولة فلسطينية قط. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يعيشون على أرض ليست لهم. ويتمثل طموح القوميين المتدينين في تحقيق إقامة “إسرائيل الكبرى”. ويتطلب تفسيرهم الديني توسيع الحدود الحالية لإسرائيل أكثر فأكثر. وينضم عدد متزايد من اليهود المتدينين إلى جيش الدفاع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، بحيث أن التغيير الأكثر أهمية الذي شهده جيش الاحتلال الإسرائيلي هو عمل الدين داخل ثقافته المؤسسية. إن الزعماء والقادة الدينيين الصهاينة المتطرفين قد أدخلوا أنفسهم في الجيش كلاعبين رئيسيين. وقد احتل هؤلاء محل القادة العلمانيين في الجيش، وينتقلون إلى مناصب أعلى وأكثر قوة. وكلما ارتفعت أصواتهم، كلما كان تأثير الدين على جيش الدفاع الإسرائيلي أكبر. وهذا يعني ضمناً أن الجيش الإسرائيلي يعمل كشريك للتأثيرات الدينية في استخدامه للقوة والعنف في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
لقد نشأت القومية الدينية الصهيونية من عدم الرضا عن هيمنة الثقافة الغربية الحديثة، والتي يبدو أنها تسير بالتوازي مع القومية العلمانية الإسرائيلية. وما اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحاق رابين” Yitzhak Rabin عام 1995إلا مثال مهم على قوة هذه الجماعات. فقد اغتيل رابين على يد طالب لاهوتي يهودي شاب يدعى “ييجال أمير” Yigal Amir الذي ادعى أنه تصرف بناءً على أوامر الله. وقال: “كل ما فعلته، فعلته لمجد الله”. ادعى أمير أنه كان في سلام وأنه شعر بأنه طبيعي. زعم أمير أن مقتل رابين كان أمراً يستحق الثناء وفقاً لقراءات الشريعة الدينية. وقد زعم أن أحد هذه القوانين يسمح بقتل أولئك الذين يمكنهم تدمير الأمة.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الصراع الفلسطینی ـ الإسرائیلی الصراع الإسرائیلی الفلسطینی منظمة التحریر الفلسطینیة فی الضفة الغربیة الشعب الفلسطینی الهویة الوطنیة استخدام القوة الشرق الأوسط دور الدین فی الدینیة فی فی القومیة إن القومیة من الیهود فی الصراع أن الصراع فی القومی أن الله على أنه هو صراع نظر إلى من خلال جزء من على أن فی عام
إقرأ أيضاً:
الحرية الدينية في الإسلام.. بين الانضباط الشرعي والجدل المفتوح
تنشر "عربي21" هذا المقال بالتزامن مع نشره على الصفحة الرسمية للدكتور عبد المجيد النجار، الكاتب والباحث في شؤون الفكر الإسلامي، الذي يتناول فيه موضوع الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية.
في هذا المقال، يعالج الدكتور النجار مفهوم الحرية بوجه عام، ويتفرع منه إلى الحرية الدينية، موضحًا موقعها في بنية الشريعة الإسلامية، ومحددًا الأبعاد التي تشملها والضوابط التي تنظمها.
ويستعرض الكاتب أهم الإشكالات التي تحيط بالحرية الدينية في الخطاب المعاصر، سواء من داخل الدائرة الإسلامية أو من خارجها، بين من يضيّق مفهومها حتى يكاد ينفي وجودها، ومن يوسّعها حتى يتجاوز بها الإطار الشرعي. ويؤكد أن الموقف المتزن لا يُستمد إلا من النصوص الإسلامية ومقاصدها، بعيدًا عن ردود الأفعال أو التأثر بالمفاهيم المستوردة.
قيمة الحرية
من أكثر القيم التي تستأثر بالاهتمام اليوم قيمة الحرية، ومن ضمنها الحرية الدينية، فيكاد لا يخلو محفل عالمي أو محلي من حديث عن الحرية في أبعادها المختلفة وخاصة منها البعد الديني، ومن أجلها أقيمت المؤسسات، وأُنشئت المنظمات، وانتظمت المؤتمرات، والمحور دائما هو المطالبة بالحرية، والنضال من أجل الحصول عليها، ومقاومة الاعتداء عليها. والعالم الإسلامي يتوفّر على حجم كبير من هذه المناشط؛ وذلك لأن الحرية فيه تعيش حالة مخاض عسير بين مفاهيم غير واضحة المعالم ولا محددة الأطراف، وانتهاكات واقعية لما هو متفق عليه من حدودها على أصعدة مختلفة سياسية وفكرية ودينية.
وفي هذا الخضمّ النظري والعملي المتلاطم تتأرجح الحرية الدينية بين من يذهب بها إلى تضييق يكاد يلغي حقيقتها، ومن يذهب بها إلى توسيع يكاد ينقلب بها إلى الفوضى، وبما أنّ الشريعة الإسلامية قد جاءت مبينة لهذه الحرية من حيث حقيقتها وحدودها وضوابطها، فإن المتكلم في الحرية الدينية ينبغي أن يلتزم فيها بتلك الحدود والضوابط حتى يكون رأيه صادرا عن المفهوم الشرعي، فلا يميل إلى هذا التوسيع أو إلى ذلك التضييق فيحيد عن رأي الدين من حيث يحسب أنه عنه يصدر.
إذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلام والفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذ ينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ الحريات العامّة حظيت هي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية،ومما يزيد من تأكّد الضبط للحرية الدينية وفق الرؤية الشرعية ما نراه يتوجّه إليها في هذه الرؤية من شُبه ترد أحيانا من الخارج وتأتي أحيانا من الداخل. فالبعض من خارج الدائرة الإسلامية يزعم أن الحرية الدينية في الإسلام هي قيمة مهدرة، إذ الإكراه الديني هو المعنى الذي تتضمنه نصوصه، وهو الذي جرى به التاريخ، وربما مالأه في هذا الرأي بعض من الداخل ممن هم متأثرون بنفس الوجهة. والبعض من داخل الدائرة الإسلامية تعدّى بالحرية الدينية ضوابطها فانتهى بها إلى تمييع لا تبقى معه لهذه الحرية حقيقة ثابتة.
وكل من هذا وذاك يدعو إلى تحقيق علمي في شأن هذه الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية، من حيث حقيقتها، ومركزها في الدين، ومن حيث أبعادها وضوابطها، ومن حيث ضماناتها وتطبيقاتها، مقارنة في ذلك بالحرية الدينية في الأديان والمذاهب والقوانين، وردا على الشُبه التي توجّه إليها في مختلف هذه العناصر.
1 ـ الحرية والحرية الدينية
ربما اختلفت تعاريف الحرية اختلافا كبيرا بحسب الناظر فيها بين مضيق وموسّع في مدلولها، وربما انعكس ذلك الاختلاف أيضا على الحرية الدينية بذات الأسباب، ولكن قدرا معينا من المعنى في كل منهما قد يكون مشتركا بين المختلفين في التعريف، ويبقى ما بعده محل اختلاف لا يعود على الأصل المشترك بالنقض، وهو ما يمكن أن يعتمد في التحليل والتأصيل، مع مراعاة مناطق الاختلاف لخصوصيات المعرفين والمحللين.
أ ـ الحرية
تعني الحرية في أقرب معانيها أن يكون الإنسان متمكّنا من الاختيار بين وجوه ممكنة من القناعات الذهنية والتعبيرات القولية والتصرفات السلوكية، سواء على مستوى الفرد في خاصّة نفسه أو على مستوى انتمائه الجماعي. إلا أنّ هذه الحرية في الاختيار يبقى معناها قائما ما لم تعد على أصلها بالنقض، كأن يكون الاختيار شاملا لما فيه إلحاق الضرر بالآخرين من الناس، وهو الحدّ الذي ينتهي إلى هدم الحياة الجماعية، بل قد يؤول إلى هدم الحياة الإنسانية؛ ولذلك فإنه لا يُتصوّر معنى حقيقي للحرية إلا في نطاق بعض الضوابط التي تضبطها فلا تنقلب إلى فوضى مدمّرة تأتي عليها هي ذاتها بالإبطال؛ ولذلك قال أبو زهرة عن حقيقة الحرية: إنها" تتكون من حقيقتين: إحداهما السيطرة على النفس والخضوع لحكم العقل لا الخضوع لحكم الهوى، والثانية، الإحساس الدقيق بحق الناس عليه وإلا كانت الأنانية، والحرية والأنانية نقيضان لا يجتمعان".
ويشمل معنى الحرية أول ما يشمل حرية التفكير وهي أن يكون العقل في حركته إلى معرفة المجهول ينطلق في تفكير لا تحكمه إلاّ المقتضيات المنطقية التي تفرضها طبيعة العقل في تركيبه الفطري، ولا يتعامل إلاّ مع المعطيات الموضوعيّة للقضيّة المبحوث فيها كما هي في الواقع، سالما في ذلك من أيّ توجيه من خارجه إلى نتيجة مسبقة يُراد له أن يصل إليها، ومن أيّ قيد لا تقتضيه طبيعته المنطقية أو الطبيعة الواقعية لموضوع بحثه، فحينئذ يوصف التفكير الذي هو حركة العقل بأنّه تفكير حرّ.
ومن عناصر الحرية حرية الأقوال، أو ما يعبّر عنه أحيانا بحرية التعبير، وهو في حقيقته تابع لحرية المعتقد إلا أنه يتضمّن معنى زائدا عليه، إذ هو يحمل بعدا اجتماعيا، فالأقوال أو التعابير إنما هي متجهة بالخطاب إلى الآخرين وليست متّجهة إلى ذات القائل.
فمن وجوه الحرية المعتبرة أن يصدع الإنسان بالتعبير عما يراه حقا من الرؤى والأفكار والمعتقدات، ليقنع بها الآخرين على أنها هي الحق، أو ليكتّلهم عليها في منتظم جماعي، أو ليوجّه سير الحياة بحسب مقتضياتها، فهذا الوجه من الحرية هو من جهة مكمّل للحرية الفردية في المعتقد إذ الأقوال هي ترجمان المعتقدات، وهو من جهة أخرى معدود من الحريات الجماعية باعتبار توجّه الخطاب للمجتمع.
كما يشمل معنى الحرية أيضا حرية التصرّف السلوكي، وذلك على معنى أن يكون الإنسان مختارا في خاصّة أعماله، التي تشمل أنواع مآكله وملابسه ومساكنه وأعماله التي يرتزق منها ومحالّ إقامته وأماكن تنقّله وسياحته وما هو في حكم ذلك من التصرّفات المتعلّقة بخاصّة النفس أو ذات العلاقة بالآخرين من الناس، فالاختيار في هذه التصرّفات يُعتبر من أهمّ عناوين الحرية، والقيود عليها تُعدّ من مظاهر الاستبداد، وكلّ ذلك في نطاق الحدود والضوابط التي ألمحنا إليها آنفا، والتي تعصم الحرية من أن تؤول إلى أن تنقض نفسها بنفسها إذا تجاوزت تلك الحدود.
وقد انتهى تحديد الحرية في العصر الحديث إلى تصنيفها إلى نوعين اثنين: الحريات الفردية أو الشخصية، وهي التي تتعلّق بالفرد في ذات نفسه أو التي يكون البعد الجماعي فيها ضعيفا كالحرية في اختيار الأفكار إذا بقيت في مستوى القناعة الذاتية، واختيار الملبس والمأكل والمسكن ومحلّ الإقامة وما هو في حكمها. والحريات العامّة، وهي التي تتعلّق بالحياة الجماعية العامّة، مثل حرية التعبير ونشر الأفكار، وحرية التنظّم الحزبي والتوالي الجماعي، وحرية الاختيار لأنظمة الحكم وللقيّمين عليه، ولعلّ الحرية الدينين تجمع بين هذين النوعين من الحرية.
وقد جاءت التعاليم الإسلامية كما سنبيّن لاحقا تؤسّس لهذين النوعين من الحرية في أصل مبادئها التي أقرّها الوحي قرآنا وسنّة، ثم شرحها الفقه الإسلامي في أبوابه الخاصّة بهذا الشأن، كما انتهى الفكر الغربي إلى إقرار هذه الحريات عبر مراحل من التفاعلات الاجتماعية والثقافية تراوحت الحلقات فيها بين الصراع العنيف والوئام السلمي، وتوّجت أخيرا بجملة من المعاهدات والمواثيق والإعلانات التي تشرحها وتضبط أبعادها وتحدّد ضماناتها، والتي من أشهرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وإذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلام والفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذ ينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ الحريات العامّة حظيت هي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية، بل قد يكون قدرها من الاهتمام أوفى من الاهتمام بالحريات الشخصية؛ وذلك بالنظر إلى آثارها في انتظام المجتمع على الهيئة التي يكون بها أقدر على النهوض بالأداء الحضاري، وبالنظر إلى أنّ انعدامها يؤدّي بالمجتمع إلى أبواب من الفتن إذا ما فشا فيه الاستبداد الذي هو أحد المفاسد الكبرى التي تعوق المجتمعات عن التحضّر، وتدفع بها إلى الفتنة المذهبة للريح.
وكلّما تطوّرت المجتمعات وتعقّد بناؤها وتشابك تركيبها كانت إلى الحريات العامّة أحوج، وإليها أشدّ طلبا؛ وذلك لكثرة ما يعتاص من مشاكلها فلا يُحلّ إلا بالمشورة الواسعة والمشاركة الأوسع بالرأي والتنفيذ، ولكثرة ما تتعارض من مصالح وأهواء وأفكار أفرادها، فلا تنتظم في سياق اجتماعي موحّد إلا بإجراء المفاوضات بينهم على أوسع نطاق ممكن لينتهي بينهم بالتراضي على سنن موحّد، والتوافق على صعيد مشترك تتراجع إليه الأهواء المتضادّة، والأفكار المتناقضة، والمصالح المتنافرة، جرّاء المطارحات الحرّة التي تُتاح للجميع فيلتقي الناس بها على سواء.
المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملة من الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلو منها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلى سائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّ المعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلك إلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.وفي هذا العصر تطورت المجتمعات الإنسانية وتعقّدت بما لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني، فقد أصبح الفرد في المجتمع يحتاج في كلّ شؤونه إلى جميع الآخرين من الأفراد، وأصبح إنجاز أيّ شأن من شؤون الحياة لا يمكن أن يتمّ إلا باشتراك بين العدد الكبير من أفراده؛ ولذلك فإنّ الحريات العامّة أصبحت في العصر الحديث المطلب الأعلى من مطالب الحرية، وربما كان على رأسها الحريات السياسية التي من أجلها قامت الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية وغيرها، وما زلنا نشهد إلى اليوم كيف أنّ التاريخ يكاد يتمحّض في حركته بالتدافع من أجل الحريات السياسية بفروعها المختلفة، وهو الأمر الذي لا تخطئه العين في العدد الأكبر من الأقطار على تفاوت بينها في المقدار الذي أُنجز من إرساء هذه الحرّيات وثبات جذورها في الثقافة الاجتماعية وفي الإجراءات العملية التي ينتظم بها المجتمع.
ب ـ الحرية الدينية
المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملة من الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلو منها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلى سائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّ المعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلك إلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.
والمقصود بالاعتقاد هو الإيمان بجملة من المفاهيم والأفكار على أنّها حقّ أو هي الحقّ، وبخاصّة منها تلك التي تفسّر الوجود والكون والحياة، ويتشعّب منها كلّ ما يتعلّق بشؤون الإنسان الفردية والجماعية. وقد ينطبق هذا المعنى بدلالة أعمق على ما يتعلّق من هذه المفاهيم والأفكار بما هو مصبوغ بصبغة دينية غيبية، إذ الإيمان بها يكون في الغالب أحكم في النفوس وأقوى تأثيرا عليها، وقد يلحق به ما هو مصبوغ بصبغة فلسفية، إذ هو يكون أيضا على قدر من اليقينية والرسوخ.
وحرّية الاعتقاد تعني حرّية الاختيار في أن يتبنّى الإنسان من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير أو ما يصل إليه بأيّ وسيلة أخرى من وسائل البلاغ، فتصبح معتقدات له، يؤمن بها على أنّها هي الحقّ، ويكيّف حياتها النظرية والسلوكية وفقها، دون أن يتعرّض بسبب ذلك للاضطهاد أو التمييز أو التحقير، ودون أن يُكره بأيّ طريقة من طرق الإكراه على ترك معتقداته، أو تبنّي معتقدات أخرى مخالفة لها.
ومعلوم أنّ الإيمان بالأفكار ومنها المعتقدات هو من حيث ذاته لا يمكن أن يرد عليه قيد، فالحرية فيه حاصلة على وجه البداهة، إلا أنّ الطريق التي يحصل منها الإيمان بالأفكار هي التي يمكن أن يطالها القهر بالحجر على بعض المسالك والتوجيه إلى أخرى بطرق مختلفة من الحجر والتوجيه بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، مثل ما كان يفعل فرعون بأتباعه حينما كان يقول لهم ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ ( غافر/29)، فتكون حرية المعتقد إذن مبتدئة من أن يُخلّى بين عقل الإنسان وبين المعطيات الموضوعية للموضوع المفكَّر فيه في غير إلجاء إلى بعضها دون بعض بأيّ وجه من وجوه الإلجاء.