بينما يتجه العالم نحو إعادة تشكيل خرائط النفوذ والتحالفات، تبرز القارة الإفريقية ومنطقة البحر الأحمر كبؤرة صراع جيوسياسي مركب، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع أطماع اللاعبين الإقليميين، وسط هشاشة داخلية تسمح بتحول المنطقة إلى مسرح مفتوح لتصفية الحسابات، ويمكن فهم هذا المشهد عبر محورين رئيسيين:

أولًا: انسحاب القوى التقليدية وصعود القوى البديلة

شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا تدريجيًا للدور الغربي التقليدي في إفريقيا، تجسد ذلك بانسحاب فرنسا من منطقة الساحل والصحراء تحت وطأة الضغوط الشعبية والانقلابات العسكرية المناهضة لها، وكذلك انكفاء أمريكي نسبي بفعل الانشغال بملفات داخلية وأزمات شرق آسيا.

انسحاب القوات الفرنسية من إفريقيا 

و هذا الفراغ لم يظل بلا شاغل، بل سرعان ما ملأته قوى غير غربية؛ أبرزها روسيا عبر أدواتها الأمنية ممثلة في مجموعة "فاغنر" التي لعبت أدوارًا مزدوجة بين الحماية العسكرية واستغلال الثروات، قبل انتقالها تدريجيًا تحت سيطرة الدولة الروسية بعد مقتل مؤسسها بريغوجين.

في موازاة ذلك، عمقت الصين حضورها الاقتصادي من خلال مشاريع البنية التحتية والديون التي كرّست نموذج "الدبلوماسية المالية"، بينما وجدت تركيا فرصًا للتغلغل عبر تحالفات عسكرية (مثل القاعدة في مقديشو) وشراكات اقتصادية مع دول تعاني من هشاشة اقتصادية وأمنية.

الجماعات الإرهابية في إفريقيا 

هذه التحولات فتحت المجال أمام تمدد الجماعات الإرهابية، خاصة في غرب إفريقيا ووسطها، حيث استغل تنظيم داعش والقاعدة تراجع الدعم العسكري الغربي ليعيدا تنظيم صفوفهما، مؤسسين تحالفات محلية مع ميليشيات قبلية، مما زاد من تعقيد المشهد الأمني.

 

ثانيًا: البحر الأحمر نقطة اشتباك مفتوحة وتقاطع أجندات

في موازاة هذا التحول داخل العمق الإفريقي، برز البحر الأحمر وخليج عدن كنقطة اشتباك بين القوى الإقليمية والدولية. فعلى ضفتيه، تتداخل مصالح مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل، في مواجهة نفوذ إيراني يتخذ من الحوثيين رأس حربة، مع دخول تركيا وقطر كلاعبين ذوي نفوذ متزايد في بعض الموانئ والجزر الاستراتيجية.

لقد مثّلت الهجمات الحوثية الأخيرة على السفن التجارية في البحر الأحمر نقطة تحول استراتيجية، دفعت الولايات المتحدة لتشكيل تحالفات بحرية لحماية الملاحة، لكنها في الوقت ذاته وفرت فرصة للصين وروسيا لتعزيز وجودهما العسكري تحت شعار "ضمان حرية الملاحة"، في سياق تنافسهما مع الغرب على مفاتيح طرق التجارة العالمية.

من جهة أخرى، برزت علاقة خفية بين الحوثيين وحركة الشباب الصومالية، تجسدت في تبادل الدعم اللوجستي وفتح خطوط تهريب السلاح والمقاتلين عبر خليج عدن، مستفيدين من هشاشة الأمن البحري وتواطؤ بعض شبكات التهريب الإقليمية. هذه العلاقة تعززت بغطاء من إيران، التي تعتبر إفريقيا بوابة خلفية لفك الحصار عنها، سواء عبر توظيف وكلائها أو بناء علاقات مع أنظمة هشة تسعى للدعم بأي ثمن.

البحر الأحمر 

في هذا السياق، تسعى إسرائيل لترسيخ وجودها في إفريقيا، خاصة في دول حوض النيل والقرن الإفريقي، ليس فقط لحماية أمنها المائي، بل لمراقبة تحركات إيران وحلفائها، وضمان ألا يتحول البحر الأحمر إلى ساحة تهديد مباشر لمصالحها.

على الجانب المصري، فرضت الحرب في غزة ضغوطًا مركبة، أمنيًا وإنسانيًا، بالتوازي مع محاولات محاصرة الدور المصري في إفريقيا عبر استغلال هشاشة الوضع السوداني، مما ينذر بتقليص تأثير القاهرة في معادلة البحر الأحمر، في وقت تزداد فيه أهمية هذا الممر البحري كخط إمداد حيوي.

أما السودان، فيعيش حالة انقسام دموي بين الجيش والدعم السريع، تتحكم فيه تدخلات خارجية متشابكة؛ من دعم إماراتي وسعودي ومصري وإريتري، إلى نفوذ روسي غير مباشر، هذا الانقسام يهدد بخلق فراغ أمني قد تستغله الجماعات المتطرفة، ويفتح الباب أمام إعادة رسم الخرائط الحدودية والتحالفات الإقليمية، مع تداعيات مباشرة على أمن البحر الأحمر واستقرار دول الجوار.

 

سباق النفوذ أم مسرح الفوضى؟

في ظل هذه المعطيات، تبدو إفريقيا والبحر الأحمر أمام مشهد معقد، تتقاطع فيه مشاريع النفوذ العسكري والاقتصادي والديني، وسط هشاشة محلية تسمح بتحول المنطقة إلى ملعب مفتوح لصراعات الوكلاء.

ورغم تصاعد التحالفات الدولية والإقليمية، يظل غياب مشروع إفريقي موحد لحماية مصالح القارة وتحصينها من التدخلات، هو الثغرة الأكبر التي تستغلها القوى الطامحة للهيمنة.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: أفريقيا البحر الاحمر الصراع الجيوسياسي النفوذ الدولي النفوذ الإقليمي روسيا الصين تركيا ايران اسرائيل السعودية الإمارات مصر اليمن الحوثيون فاغنر خليج عدن الأمن البحري الجماعات الارهابية حركة الشباب الصومالية السودان الدعم السريع الجيش السوداني القرن الافريقى التدخلات الخارجية التحالفات الدولية الأمن الإقليمي التنافس الدولي الملاحة البحرية المصالح الاقتصادية الأمن القومي

إقرأ أيضاً:

علماء من «كاوست» يقدمون دراسة تؤكد جفاف البحر الأحمر قبل 6 ملايين سنة

قدّم علماء من جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، دليلًا قاطعًا يُظهر أن البحر الأحمر جفّ بالكامل قبل نحو 6,2 ملايين سنة، قبل أن يُعاد ملؤه فجأة بفيضان كارثي هائل من المحيط الهندي، ونُشرت نتائج الدراسة في المجلة العلمية Communications Earth & Environment، لتضع حدًا زمنيًا دقيقًا لحَدثٍ جيولوجي كبير غيّر بشكل دائم معالم البحر الأحمر.

وباستخدام التصوير الزلزالي وأدلة الأحافير الدقيقة وتقنيات تحديد العمر الجغرافي الكيميائي، أظهر الباحثون في (كاوست) أن هذا التغيّر الهائل حدث في فترة لا تتجاوز مئة ألف عام وهي فترة قصيرة جدًا بالنسبة لحدث جيولوجي ضخم، فقد تحوّل البحر الأحمر من بحرٍ متصل بالبحر الأبيض المتوسط إلى حوضٍ جافٍ مليء بالأملاح، قبل أن يتسبب فيضان ضخم في اختراق الحواجز البركانية وفتح مضيق باب المندب ليُعيد اتصال البحر الأحمر بالمحيطات العالمية.

وقالت الدكتورة الباحثة الرئيسة في (كاوست) تيهانا بنسا: "تكشف نتائجنا أن حوض البحر الأحمر يُسجل أحد أكثر الأحداث البيئية تطرفًا على وجه الأرض، إذ جفّ بالكامل، ثم غُمر فجأة قبل نحو 6,2 ملايين سنة، ولقد غيّر ذلك الفيضان شكل الحوض وأعاد الحياة البحرية إليه، مؤسسًا الاتصال الدائم بين البحر الأحمر والمحيط الهندي".

وأضافت: "في البداية كان البحر الأحمر متصلًا من الشمال بالبحر الأبيض المتوسط عبر حاجز ضحل لكن هذا الاتصال انقطع؛ مما أدى إلى جفاف البحر الأحمر وتحوله إلى صحراء ملحية قاحلة، وفي الجنوب بالقرب من جزر حنيش، كانت سلسلة بركانية تفصل الحوض عن مياه المحيط الهندي، وبعد حوالي 6,2 مليون سنة مضت اندفعت مياه المحيط الهندي عبر هذا الحاجز في فيضان كارثي، نحت خندقًا بحريًا يبلغ طوله نحو 320 كيلومترًا، ما زال مرئيًا حتى اليوم في قاع البحر".

موضحة أنه سرعان ما امتلأ الحوض مجددًا لتغمر المياه السهول الملحية، وتُعيد الظروف البحرية الطبيعية خلال أقل من مئة ألف سنة, وقد حدث ذلك قبل نحو مليون سنة من الفيضان الشهير الذي أعاد ملء البحر الأبيض المتوسط (فيضان زانكلي)، مما يمنح البحر الأحمر قصة فريدة عن ولادته من جديد.

وتكوَّن البحر الأحمر نتيجة انفصال الصفيحة العربية عن الصفيحة الأفريقية قبل نحو 30 مليون سنة، وفي بدايته كان عبارة عن وادي صدعي ضيق مليء بالبحيرات، ثم اتّسع تدريجيًا ليصبح خليجًا واسعًا عندما غمرته مياه البحر الأبيض المتوسط قبل 23 مليون سنة.

وازدهرت الحياة البحرية آنذاك، كما يتضح من الشعاب المرجانية الأحفورية الممتدة على الساحل الشمالي قرب ضبا وأملج، لكن مع مرور الوقت أدت الحرارة العالية وضعف دوران المياه إلى زيادة الملوحة، مما تسبب في انقراض الكائنات البحرية بين 15 و 6 ملايين سنة مضت، وتراكمت في الحوض طبقات سميكة من الملح والجبس إلى أن انتهى الأمر بجفاف البحر تمامًا، ثم جاء الفيضان الهائل من المحيط الهندي ليُعيد الحياة إلى البحر الأحمر، وهي الحياة التي ما زالت مزدهرة في شعابه المرجانية حتى اليوم.

ويُعدّ البحر الأحمر مختبرًا طبيعيًا فريدًا لفهم كيفية نشوء المحيطات، وتراكم الترسبات الملحية العملاقة، وكيفية تفاعل المناخ مع الحركات التكتونية عبر ملايين السنين، وتؤكد هذه الاكتشافات الترابط الوثيق بين تاريخ البحر الأحمر وتغير المحيطات العالمية، كما تُظهر أن المنطقة قد شهدت من قبل ظروفًا بيئية قاسية، لكنها تمكنت في نهاية المطاف من استعادة نظامها البيئي البحري المزدهر.

أخبار السعوديةالمحيط الهنديجامعة الملك عبداللهقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية يبحث الأوضاع الإقليمية والدولية مع نظيره البرتغالي
  • تنسيقية شباب الأحزاب: قمة شرم الشيخ للسلام لحظة تاريخيّة تعكس مكانة مصر وريادتها الإقليمية والدولية
  • منال عوض: 363 مليون جنيه لتطوير منظومة المخلفات بمحافظة البحر الأحمر
  • هل تستعيد حركة الشحن في البحر الأحمر نشاطها بعد توقف حرب غزة؟
  • في رحاب البحر الأحمر.. إرادة السلام تنتصر على ضجيج السلاح
  • على دروب الصخر والملح.. جيجل جوهرة جزائرية بين الجبل والبحر
  • معاريف: إسرائيل ترفض مشاركة تركيا بـالقوة الإقليمية التي ستدخل غزة
  • نائب محافظ البحر الأحمر تتفقد مدارس ومشروعات خدمية برأس غارب
  • علماء من «كاوست» يقدمون دراسة تؤكد جفاف البحر الأحمر قبل 6 ملايين سنة
  • دراسة سعودية تثبت تعرض البحر الأحمر لجفاف تام قبل 6 ملايين سنة