صحيفة صدى:
2025-05-10@21:23:25 GMT

التعلم المدمج في ضوء النظرية الاتصالية

تاريخ النشر: 10th, May 2025 GMT

التعلم المدمج في ضوء النظرية الاتصالية

الرياض

تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف العلاقة بين النظرية الاتصالية والتعلم المدمج، في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي تشهدها بيئات التعليم المعاصر. تنطلق الدراسة من الحاجة إلى تطوير نماذج تعليمية فعالة تستند إلى أسس نظرية حديثة، وتُعزز من فاعلية التعلم الإلكتروني والتقليدي على حد سواء. تسعى الدراسة إلى توضيح الأسس الفلسفية والنظرية التي بُني عليها التعلم المدمج، مع التركيز على النظرية الاتصالية بوصفها إطارًا فكريًا يدعم التعلم الشبكي التفاعلي.

كما تتناول الدراسة مميزات وعيوب التعلم المدمج المبني على المعرفة الشبكية، وتستعرض خطوات تطبيقه بما يضمن تحقيق تعلم مرن، متصل، ومتمركز حول المتعلم. وتعتمد الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، مستخدمة الاستبانة وذلك لجمع البيانات وتحليلها بشكل منهجي. وفي ضوء النتائج، تقدم الدراسة مجموعة من التوصيات لتطوير بيئات التعلم المدمج، بما يتماشى مع متطلبات التعليم في العصر الرقمي، ويعزز من دور المتعلم كعنصر فاعل داخل شبكات المعرفة والتعلم المستمر.

الفصل الأول

تمهيد الدراسة :

يشهد العالم اليوم تحولاً جذريًا في أساليب التعليم، نتيجة للتطورات المتسارعة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مما فرض الحاجة إلى تطوير نماذج تعليمية جديدة تتسم بالمرونة والفاعلية. من بين هذه النماذج يبرز التعلم المدمج، الذي يمزج بين التعليم التقليدي الوجاهي والتعليم الإلكتروني المعتمد على الوسائط الرقمية. يُعد التعلم المدمج استجابةً معاصرة لتحديات التعليم في القرن الحادي والعشرين، حيث يُمكّن المتعلم من الاستفادة من مصادر المعرفة المتعددة، والتفاعل مع المعلمين والزملاء بطرق متنوعة.

وفي هذا السياق، ظهرت النظرية الاتصالية كنظرية تربوية حديثة تُركز على أهمية التعلم الشبكي، وربط المعرفة من خلال مصادر متعددة ومتغيرة، وتُبرز دور التكنولوجيا كمحرك رئيسي لعملية التعلم. لذا، فإن توظيف مبادئ النظرية الاتصالية في بيئات التعلم المدمج قد يسهم في رفع فاعلية التعليم وتحقيق مخرجات تعليمية أكثر جودة وملاءمة لعصر المعرفة.

مشكلة الدراسة:

يشهد التعليم المعاصر تطورًا متسارعًا بفعل الثورة الرقمية والتكنولوجية، ما أدى إلى ظهور أنماط تعليمية جديدة تتجاوز حدود الزمان والمكان، ويُعد التعلم المدمج أحد هذه الأنماط التي تسعى إلى الجمع بين التعليم التقليدي والتعليم الإلكتروني لتحقيق تعلم أكثر فاعلية ومرونة. وفي ظل هذه التحولات، ظهرت الحاجة إلى تبني نظريات تعليمية حديثة تواكب طبيعة هذا النمط، ومن أبرزها النظرية الاتصالية، التي تؤكد على أهمية الشبكات، والتفاعل، وبناء المعرفة بصورة جماعية. على الرغم من الانتشار الواسع للتعلم المدمج، إلا أن الكثير من مؤسسات التعليم لا تزال تواجه صعوبات في تحقيق فاعلية حقيقية لهذا النموذج، نظرًا لعدم وضوح الأسس النظرية التي يقوم عليها التصميم التعليمي في كثير من الأحيان، كما أن العلاقة بينه وبين النظرية الاتصالية لم تنل بعد ما تستحقه من الدراسة والتحليل، خاصة فيما يتعلق بمميزاته، وعيوبه، وآليات تنفيذه في ضوء هذه النظرية.

أهداف الدراسة:

التعرف على العلاقة بين النظرية الاتصالية والتعلم المدمج في التعليم التعرف على النظريات التي بني عليها التعلم المدمج وأسسها الفلسفية. التعرف على مميزات وعيوب التعلم المدمج المبني على التواصل والمعرفة الشبكية. التعرف على خطوات تطبيق التعلم المدمج المبني على النظرية الاتصالية تقديم توصيات لتطوير بيئات التعلم المدمج بما يتماشى مع متطلبات التعلم في العصر الرقمي.

 أسئلة الدراسة:

ما العلاقة بين النظرية الاتصالية والتعلم المدمج في التعليم؟ ما النظريات التي يستند إليها التعلم المدمج، وما أسسها الفلسفية؟ ما مميزات وعيوب التعلم المدمج المبني على التواصل والمعرفة الشبكية؟ ما خطوات تطبيق التعلم المدمج المبني على النظرية الاتصالية؟ ما التوصيات الممكنة لتطوير بيئات التعلم المدمج بما يتماشى مع متطلبات التعلم في العصر الرقمي؟

أهمية الدراسة

تنبع أهمية هذه الدراسة من عدة جوانب نظرية وتطبيقية:

الأهمية النظرية:
تسهم في إثراء الأدبيات التربوية حول النظرية الاتصالية، من خلال توضيح علاقتها بالتعلم المدمج، وتسليط الضوء على مميزاتها وعيوبها، وخطوات تطبيقها وإمكانية الاستفادة منها في تصميم بيئات تعليمية حديثة. الأهمية التطبيقية:
تقدم إطارًا إرشاديًا للمعلمين والمصممين التربويين حول كيفية تطبيق التعلم المدمج استنادًا إلى التواصل الشبكي والمعرفة التشاركية، مما يساعد على تطوير ممارسات التدريس والتعلم وفقًا لمتطلبات العصر الرقمي.

حدود الدراسة

 الحدود الموضوعية:
تقتصر الدراسة على بحث العلاقة بين النظرية الاتصالية والتعلم المدمج، مع توضيح المميزات، العيوب، وخطوات التطبيق في ضوء مبادئ التواصل والمعرفة الشبكية.

  الحدود المكانية:
تطبق الدراسة في الجامعات السعودية الحكومية

  الحدود الزمانية:
تم إجراء الدراسة خلال الفصل الدراسي الثاني من العام الجامعي 1445ــــ 1446ه

  الحدود البشرية:
تقتصر عينة الدراسة على أعضاء هيئة التدريس في المناهج وطرق التدريس

 الإطار النظري والدراسات السابقة

 الإطار النظري

العلاقة بين النظرية الاتصالية والتعلم المدمج

لقد أصبح التعلم في العصر الرقمي أكثر تعقيدًا وتعددًا في مصادره، مما يتطلب نماذج تعليمية مرنة تتوافق مع خصائص هذا العصر. من أبرز هذه النماذج: التعلم المدمج، الذي يجمع بين التعلم التقليدي والتعلم الإلكتروني، ويحقق تكاملاً بين طرق التدريس المختلفة. في المقابل، برزت النظرية الاتصالية (Connectivism) كنظرية تعليمية حديثة تناسب طبيعة التعلم في العصر الرقمي، وتوفر إطارًا فكريًا لفهم كيف يتعلم الأفراد ضمن بيئات رقمية مترابطة(أمين،2018).

أولاً: مفهوم النظرية الاتصالية

النظرية الاتصالية هي نظرية تعلم اقترحها جورج سيمنز وستيفن داونز، وتقوم على أن المعرفة موزعة عبر شبكة من الروابط، وأن التعلم يتم من خلال بناء تلك الروابط وتحديثها بشكل مستمر. تركّز هذه النظرية على أهمية الاتصال والمشاركة في بناء المعرفة، وتُعدّ ملائمة لبيئات التعلم الرقمي، حيث ينتقل المتعلم من دور المتلقي إلى دور “العضو الفاعل” في الشبكة المعرفية (الشمري، 2017).

ثانياً: مفهوم التعلم الذاتي

التعلم الذاتي هو عملية يتحكم فيها المتعلم بمسار تعلمه، ويحدد أهدافه، ويختار الموارد والاستراتيجيات المناسبة دون إشراف مباشر. يعتمد هذا النمط على الدافعية الداخلية وإدارة الوقت، ويُعزَّز عبر البيئات الرقمية التي توفر موارد مفتوحة (الحبيب، 2022).

فاعلية التعلم الذاتي تعني: مدى قدرة المتعلم على تحقيق أهدافه التعليمية من خلال جهوده الفردية وبدون اعتماد مباشر على المعلم، مع تحقيق نتائج في الفهم والمعرفة والمهارات

ثالثاً: مفهوم التعلم الرقمي

يُعرَّف التعلم الرقمي بأنه نظام تعليمي يعتمد على استخدام التقنيات الرقمية الحديثة، مثل المنصات الإلكترونية والتطبيقات الذكية والموارد التفاعلية، لتسهيل عملية نقل المعرفة وتطوير المهارات خارج نطاق الفصل التقليدي. ويركز هذا النمط على تفعيل التفاعل بين المعلم والمتعلم عبر وسائط متعددة، كالفيديوهات التفاعلية والواقع الافتراضي، مما يسمح بالتعلّم في أي وقت وأي مكان (الشمراني، 2019).

وتشير الدراسات إلى أن التعلم الرقمي لا يقتصر على نقل المحتوى إلكترونيًا، بل يشمل تحويل البيئة التعليمية إلى فضاء مرن يتكيف مع احتياجات المتعلمين المتنوعة، ويعزز الاستقلالية في التعلّم.

ومن الجدير بالذكر أن التعلم الرقمي يتضمن عدة أنماط، مثل:

التعلم الإلكتروني الكامل: حيث تُدار العملية التعليمية بالكامل عبر المنصات الرقمية. التعلم المدمج: الذي يجمع بين مزايا التعلم التقليدي وجهًا لوجه، ومزايا التعلم الرقمي. التعلم المقلوب: هو عكس النموذج التقليدي حيث يتم تقديم المحتوى خارج الصف في حين يخصص وقت الحصة للأنشطة التفاعلية. (السليمان، 2021).

رابعاً: مفهوم التعلم المدمج

يعرف التعلم المدمج بأنه أسلوب تعليمي يجمع بين التعليم الوجاهي المباشر والتعليم الإلكتروني عبر الوسائط التكنولوجية. يتيح هذا النموذج مرونة أكبر في الوصول إلى المعرفة، مع الاستفادة من مزايا كل من النمطين (التقليدي والرقمي). يهدف إلى تحسين مخرجات التعلم من خلال توفير بيئة تعليمية متعددة المصادر ومتنوعة الأساليب.

يُعدّ التعلم المدمج نموذجًا تعليميًا يجمع بين مزايا التعلم التقليدي وجهًا لوجه، ومزايا التعلم الرقمي عبر الوسائط الإلكترونية. ويُعرِّفه الحبيب (2022) بأنه “تكامل استراتيجي بين البيئة الصفية والبيئة الرقمية لتحقيق أهداف تعليمية أكثر فعالية، مع مراعاة السياق التعليمي واحتياجات المتعلمين”. ويرتكز هذا التكامل على تصميم تجارب تعليمية متوازنة تُحفِّز التفاعل المباشر بين المعلم والطلاب، وتُعزِّز الاستقلالية في التعلّم عبر الموارد الرقمية.

وتشمل أنماط التعلم المدمج:

النموذج الدوري: هو تناوب الطلاب بين الحضور في الفصل واستخدام المنصات الرقمية. النموذج المرن: تقديم المحتوى الرئيسي إلكترونيًا مع توفير دعم معلم عند الحاجة. النموذج المدمج بالكامل: دراسة المنهج كاملًا عبر الإنترنت مع وجود مختبرات تقليدية (شحاتة، 2022).

العلاقة بين النظرية الاتصالية والتعلم المدمج

أولا: الأساس الفلسفي المشترك: كلا النموذجين يعتمدان على فلسفة التعليم المتمركز حول المتعلم، حيث يُشجَّع المتعلم على الاكتشاف الذاتي، وبناء المعرفة من خلال التفاعل والتجريب والتواصل مع مصادر متعددة.

ثانيا: دور المتعلم: في النظرية الاتصالية، يُنظر إلى المتعلم على أنه جزء من شبكة معرفية يتفاعل معها باستمرار. وهذا يتوافق مع التعلم المدمج، حيث يُمنح المتعلم الفرصة للمشاركة في بيئات إلكترونية تفاعلية تعزز من مسؤولياته الذاتية عن التعلم.

ثالثا: التعلم كعملية مستمرة: ترى النظرية الاتصالية أن التعلم لا يحدث داخل عقل الفرد فقط، بل في الشبكات والأنظمة من حوله، ويُبنى بشكل مستمر. وهو ما يوفره التعلم المدمج من خلال المنصات التعليمية، والمجتمعات الافتراضية، والمصادر المتعددة عبر الإنترنت.

رابعا: استخدام التكنولوجيا: التكنولوجيا ليست مجرد أداة في النظرية الاتصالية، بل هي بيئة تعلم أساسية. وهذا ما يتكامل مع التعلم المدمج، حيث تُستخدم التكنولوجيا لتعزيز الفهم، وتوفير الموارد، وبناء شبكات تعليمية فعّالة.

خامسا: التفاعل والمعرفة التشاركية: يركز كل من التعلم المدمج والنظرية الاتصالية على التفاعل بين المتعلمين، وتبادل الخبرات، وبناء المعرفة بشكل جماعي، مما يتيح فرصًا للتعلم الأعمق والنشط (زكريا، 2018) و (الحبيب، 2022).

تُعد النظرية الاتصالية إطارًا فكريًا يدعم التعلم المدمج من حيث تعزيز التفاعل الشبكي، والاستقلالية في التعلم، وبناء المعرفة بشكل تشاركي. إن تطبيق مبادئ النظرية الاتصالية داخل بيئات التعلم المدمج يرفع من فاعليته، ويجعل من المتعلم عنصرًا نشطًا ضمن شبكة تعلم مرنة ومترابطة، تتجاوز حدود الزمان والمكان.

الأسس الفلسفية التربوية للتعلم المدمج

تعتمد فلسفة التعلم المدمج على مبادئ تربوية تهدف إلى تعزيز الفاعلية التعليمية من خلال الجمع بين نقاط القوة في كل من البيئتين التقليدية والرقمية. وتتمثل أبرز الأسس فيما يلي: (الشمري، 2017) و (أمين، 2018)

المركزية حول المتعلم: يُبنى التعلم المدمج على فكرة تمكين المتعلم من التحكم في وتيرة تعلمه واختيار الأدوات المناسبة لاحتياجاته، مما يعزز الاستقلالية والمسؤولية الفردية. التكامل بين النظرية والتطبيق: يدمج النموذج بين الجانب النظري (المحاضرات الرقمية) والجانب العملي (التدريبات الصفية)، مما يدعم نقل المعرفة إلى مهارات قابلة للتطبيق. المرونة والتكيف: تتيح البيئة المدمجة مرونة في الزمان والمكان، مع الحفاظ على التفاعل البشري المباشر الذي يُعدّ أساسيًا لبناء المهارات الاجتماعية. البناء على النظريات التربوية الحديثة: يستند التعلم المدمج إلى نظريتَي البنائية والاتصالية. فالبنائية تُركِّز على بناء المعرفة عبر التفاعل النشط مع المحتوى والزملاء، بينما تؤكد الاتصالية على أهمية الشبكات الرقمية في تسهيل تبادل المعرفة. تحقيق العدالة التعليمية: يسهم النموذج في تقليل الفجوات الرقمية من خلال توفير خيارات متعددة تناسب مختلف الفئات، كالطلاب ذوي الإعاقة أو المقيمين في مناطق نائية.

النظريات التي بني عليها التعلم المدمج

يرتكز التعلم المدمج على مجموعة من النظريات التربوية التي تدعم تكامله بين البيئتين التقليدية والرقمية، ومن أبرزها:

نظرية التعلم البنائي (Constructivism): تؤكد على أن المعرفة تُبنى من خلال التفاعل النشط بين المتعلم وبيئته، حيث يصوغ الفهم عبر التجربة والمناقشة. في التعلم المدمج، تُطبَّق البنائية من خلال الجمع بين المحاضرات الصفية (لتنمية الحوار) والأنشطة الرقمية التفاعلية (كالمحاكاة والألعاب) التي تسمح للمتعلم باكتشاف المفاهيم ذاتيًا (العجمي، 2014). نظرية التعلم الاتصالي (Connectivism): ترى أن التعلم في العصر الرقمي يعتمد على تشكيل شبكات معرفية عبر الاتصال بالمصادر والأفراد. في النموذج المدمج، يتم تعزيز هذا الجانب عبر منصات التواصل الإلكتروني التي تتيح تبادل الأفكار بين الطلاب والمعلمين خارج حدود الفصل (الدعجاني، 2023). نظرية التعلم الاجتماعي (Social Learning Theory): أشارت دراسة السليمان (2021) إلى أن التفاعل المباشر في الفصول يعزز التعلم من خلال الملاحظة والتقليد (كمناقشة المشاريع جماعيًا)، بينما تكملة الموارد الرقمية التي تدعم التعاون تكون عن بُعد مثل:(مشاركة المستندات عبر Google Drive). نظرية التصميم التعليمي (Instructional Design): تساهم في بناء تجارب تعليمية مدمجة متوازنة، مثل نموذج ADDIE (التحليل، التصميم، التطوير، التنفيذ، التقويم)، الذي يُستخدم لدمج المكونات الرقمية والتقليدية بكفاءة (أمين، 2018).  مميزات وعيوب التعلم المدمج

المميزات:

مرونة الوصول: يوفر خيارات متعددة للتعلم (حضوري/إلكتروني)، مما يناسب أنماط التعلم المختلفة وظروف الطلاب. تحسين الفاعلية التعليمية: الجمع بين التفاعل البشري (لتنمية المهارات الاجتماعية) والتكنولوجيا (لتعزيز الاستقلالية) يرفع من جودة المخرجات. توفير الوقت والموارد: تقليل الحاجة إلى حضور يومي كامل، مما يخفض التكاليف التشغيلية للمؤسسات. تعزيز المشاركة: استخدام أدوات رقمية تفاعلية (كالتصويت اللحظي) يزيد من تفاعل الطلاب الخجولين (بضياف، 2023) و (الشمراني، 2019).

العيوب:

التحديات التقنية: تتطلب البنية التحتية الرقمية استثمارات ضخمة في الأجهزة والبرمجيات، مع صعوبة توفرها في المناطق النائية. الحاجة إلى تدريب مكثف: قد يعاني بعض المعلمين والطلاب من نقص المهارات الرقمية اللازمة لإدارة البيئة المدمجة. صعوبة التقييم: اختلاف أنماط التعلم قد يصعب قياس الأداء بشكل عادل، خاصة عند دمج التقييمات الإلكترونية مع التقليدية. العزلة الاجتماعية: إذا لم يُصمم النموذج بعناية، قد يقلل الاعتماد المفرط على المكون الرقمي من فرص التفاعل المباشر (بضياف، 2023) و (السيد، 2019).

 دور المعلم والمتعلم في التعلم المدمج

دور المعلم:

مصمم الخبرات التعليمية: يعيد تصميم المنهج لدمج الأنشطة الصفية والرقمية، مثل تحويل جزء من المحتوى إلى فيديوهات قصيرة مع تخصيص وقت الفصل للنقاش. ميسر التعلم: يتحول من ملقن إلى مرشد يوجه الطلاب نحو الموارد المناسبة ويقدم الدعم الفردي عبر المنصات الإلكترونية (الدعجاني، 2023). مقيم ديناميكي: يستخدم أدوات رقمية كاختبارات لتقييم التقدم بشكل فوري، مع تقديم تغذية راجعة مخصصة (الشمراني، 2019).

 دور المتعلم:

متعلم نشط: يتحمل مسؤولية تعلمه عبر إدارة الوقت، ومتابعة المهام الرقمية، والمشاركة في المناقشات عبر الفصول الافتراضية. باحث عن المعرفة: يستخدم المصادر الإلكترونية المتنوعة (المكتبات الرقمية، المواقع التعليمية) لتوسيع فهمه خارج إطار المنهج (الدعجاني، 2023). متعاون: يشارك في مشاريع جماعية عبر منصات التعلم مثل Google Classroom مما يعزز مهارات العمل الجماعي الرقمي (السليمان، 2021).

   خطوات تطبيق التعلم المدمج

يُطبَّق التعلم المدمج عبر سلسلة من الخطوات الاستراتيجية التي تضمن تكامل المكونات التقليدية والرقمية بفاعلية، ومن أبرزها:

تحليل الاحتياجات والأهداف: تحديد الفجوات التعليمية، وقياس مدى جاهزية المؤسسة تقنيًا وبشريًا، وتحديد الأهداف المرجوّة. تصميم الخطة التعليمية: تقسيم المحتوى إلى جزأين: أنشطة صفية (مناقشات، ورش عمل) وأنشطة رقمية (فيديوهات، اختبارات إلكترونية)، مع مراعاة توازن الزمن بينهما. اختيار الأدوات والتقنيات: انتقاء منصات مناسبة (مثل Moodle أو (Google Classroom وأدوات تفاعلية تتوافق مع طبيعة المحتوى وقدرات المستخدمين. تدريب الفريق التعليمي: تنظيم ورش عمل لتمكين المعلمين من إدارة المنصات الرقمية وتصميم المحتوى التفاعلي، مع تدريب الطلاب على استخدام الأدوات. التنفيذ والتقييم المرحلي: تطبيق النموذج بشكل تدريجي، مع جمع ملاحظات الطلاب والمعلمين عبر استبانات أو مجموعات تركيز Focus Groups لقياس الفاعلية. التعديل والتحسين المستمر: استخدام نتائج التقييم لإعادة ضبط الخطة، مثل تعديل نسبة المكون الرقمي أو استبدال أدوات غير فعالة (الدعجاني، 2023).

أمثلة على تطبيق التعلم المدمج

النموذج المقلوب (Flipped Classroom): حيث يُطلب من الطلاب مشاهدة محاضرات فيديو مسبقًا عبر المنصة الإلكترونية، بينما يُخصص وقت المحاضرة الحضورية لمناقشة المفاهيم الصعبة وحل المشكلات (شحاتة، 2022). المختبرات الافتراضية المدمجة: يُجرى جزء من التجارب العلمية عبر برامج المحاكاة الرقمية ويُكمَّل الجزء العملي في المختبرات التقليدية لتعزيز الفهم. التعليم الهجين في ظل الجائحة: خلال كورونا، طبقت جامعة المدية نموذجًا مدمجًا حيث حضر الطلاب 30% من المحاضرات في الحرم الجامعي، و70% عبر منصة Zoom مع تفعيل مكتبة رقمية للوصول إلى المراجع (بضياف، 2023).

 الدراسات السابقة

الشمراني (2019): أثر توظيف التعلم الرقمي على جودة العملية التعليمية وتحسين مخرجاتها

الهدف: التعرف على أثر توظيف التعليم الرقمي وأنماطه في جودة العملية التعليمية ومخرجاتها بمدارس المملكة العربية السعودية.

المنهج: استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي.

العينة: (151) معلمًا ومعلمة منتقَيين عشوائيًا من مدارس المملكة العربية السعودية .

الأداة: استخدم الباحث الاستبانة أداةً لبحثه.

أبرز النتائج: وجد الباحث وجود أثر معنوي للتعلم الرقمي على جودة العملية التعليمية (متوسط عام 3.97 من 5، دلالة إحصائية α ≤ 0.05)، مع فروق ظاهرية في تطبيق أنماط التعلم الرقمي ومعوقاته بين أفراد العينة.

السليمان (2021): تأثير التحول الرقمي وجودة الخدمة التعليمية على رضا الطلاب

الهدف: دراسة التأثير المباشر لكل من التحول الرقمي وجودة الخدمة التعليمية على رضا طلاب جامعة المنصورة.

المنهج:  استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي.

العينة: (331) طالبًا وطالبة في جامعة المنصورة.

الأداة: استبانة وصفية تحليلية.

أبرز النتائج: أظهر التحليل وجود أثر معنوي إيجابي لأبعاد التحول الرقمي (البنية التحتية، التعليم الرقمي، المكتبات الرقمية) وأبعاد جودة الخدمة (المادية، الاعتمادية، الأمان) في رفع رضا الطلاب .

بضياف، عادل (2023): مدى فاعلية استراتيجيات وطرق التعليم عن بُعد بجامعة المدية في ظل جائحة كورونا

الهدف: الكشف عن مدى فاعلية التعليم الإلكتروني عن بعد لدى أساتذة جامعة المدية في الجزائر خلال جائحة كورونا.

المنهج: استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي.

العينة: (54) أستاذًا بجامعة المدية ممن شاركوا في التدريس الحضوري وعن بُعد خلال فترة الجائحة.

الأداة: استخدم الباحث الاستبانة أداةً لبحثه.

أبرز النتائج: أكدت الدراسة وجود فاعلية مرتفعة للتعليم عن بُعد في تحقيق أهداف تعليمية وتربوية، رغم بعض المعوقات التقنية والبشرية.

 الحبيب (2022): تنمية الموارد البشرية في العصر الرقمي وانعكاسه على جودة التعليم بجامعة بنغازي

الهدف: تحديد أبعاد تنمية الموارد البشرية في العصر الرقمي وانعكاسها على جودة التعليم، والتعرف على أنماط التعلم الرقمي ومعوقات تنميتها.

المنهج: استخدم الباحث المنهج الوصفي

العينة: (120) عضو هيئة تدريس من جامعة بنغازي، اختيروا بالطريقة المتاحة في المنهج الوصفي.

الأداة: استخدم الباحث الاستبانة الاستقصائية أداةً لبحثه.

أبرز النتائج: حددت الدراسة مجموعة من أنماط التعلم الرقمي (التعلم المدمج، المتنقل، التفاعلي) وأبرزت معوقات تتمثل في ضعف البنية التحتية وتدني مهارات الاستخدام الرقمي لبعض الأعضاء.

 شحاتة (2022): حوكمة التحول الرقمي كآلية لتفعيل أداء العملية التعليمية في جامعة المنصورة

الهدف: رصد واقع حوكمة التحول الرقمي في كليات جامعة المنصورة وتقديم مقترحات لتفعيلها.

المنهج: وصفي استكشافي، اعتمد على المنهج الوصفي المسحي.

العينة: (776) فردًا من أعضاء هيئة التدريس والجهاز الإداري في خمس كليات بجامعة المنصورة.

الأداة: استخدم الباحث الاستبانة أداةً لبحثه.

أبرز النتائج: توصلت الدراسة إلى ضرورة صياغة رؤية رقمية واضحة تشترك فيها جميع أطراف العملية التعليمية، وإنشاء نظام إشرافي دقيق وتعاون مستمر مع الجهات التقنية المختصة.

 أمين (2018): التحول الرقمي في الجامعات المصرية كمتطلب لتحقيق مجتمع المعرفة

الهدف: الكشف عن متطلبات التحول الرقمي لتحقيق مجتمع المعرفة في الجامعات المصرية.

المنهج: استخدم الباحث المنهج الوصفي المسحي.

العينة: (67) عضو هيئة تدريس من أربع جامعات مصرية (دمنهور، الإسكندرية، طنطا، المنصورة)

الأداة: استبانة تضم ثلاثة أبعاد: (1) استراتيجية التحول الرقمي، (2) نشر الثقافة الرقمية، (3) تصميم البرامج الرقمية.

أبرز النتائج: كانت استجابة المشاركين للمتطلب الأول والثالث عالية دلالة، وللمتطلب الثاني متوسطة، مما دلّ على أولويات تطبيق التحول الرقمي.

الدعجاني (2023): التصميم التعليمي بين ركائز التعلم ودعاماته في بيئات التعلم الإلكتروني

الهدف: إبراز كيف تشكّلان نظريتا البنائية والاتصالية أساسًا متينًا للتصميم التعليمي في بيئات التعلم الإلكتروني وعن بُعد.

المنهج: تحليل نوعي (مفهومي) قائم على مراجعة الأدبيات والنماذج العملية.

العينة: لا ينطبق (دراسة نظرية تحليلية للأطر والممارسات).

الأداة: تحليل نصوص ودراسات سابقة وتطبيقاتهما في التصميم الإلكتروني.

أبرز النتائج: قدّم الباحث نموذجًا تكامليًا يجمع بين مبادئ البنائية (بناء المعرفة النشط) والاتصالية (العقد والروابط) لتصميم وحدات تعليمية تفاعلية تحفّز المتعلم على المشاركة وتحديث المعرفة باستمرار.

نقد وتحليل الدراسات السابقة

تُظهر الدراسات السابقة اتساقًا في التأكيد على إيجابيات التعلم المدمج والرقمي، لكنها لا تخلو من ثغرات منهجية وموضوعية:

نقاط القوة:

اعتماد معظم الدراسات (كـ الشمراني، 2019؛ السليمان، 2021) على عينات متنوعة (معلمين، طلاب، أعضاء هيئة تدريس)، مما يعزز مصداقية النتائج.

ربطت دراسات مثل (شحاتة، 2022) بين التعلم المدمج وحوكمة التحول الرقمي، مقدمةً رؤية شاملة للتطبيق المؤسسي.

استخدام أدوات بحثية متعددة (استبانات، تحليل نصوص) في دراسة الدعجاني (2023) لاستنباط نموذج نظري تطبيقي.

نقاط الضعف:

اقتصار بعض الدراسات (كـ العاصمي وآخرون، 2023) على عينات صغيرة (54 أستاذًا)، مما يحد من تعميم النتائج. غياب الدراسات التجريبية التي تقيس الأثر السببي للتعلم المدمج على التحصيل الأكاديمي. تركيز أغلب الأبحاث على السياق الجامعي، مع إهمال تطبيقات المدرسة أو التدريب المهني.

التوصيات والمقترحات

بناءً على النتائج المستخلصة من الدراسات السابقة وتحليلها، يمكن تقديم التوصيات التالية لتطوير التعلم المدمج والرقمي وتعزيز فاعليته:

أولًا: التوصيات الأكاديمية

تعزيز البحث التجريبي: إجراء دراسات طولية لقياس الأثر السببي للتعلم المدمج على التحصيل الأكاديمي، مع توسيع العينات لتشمل فئات عمرية ومؤسسات تعليمية متنوعة. سد الفجوات البحثية: دراسة تأثير التعلم المدمج على الفئات المهمشة (ذوي الإعاقة، سكان المناطق النائية) لتحقيق عدالة تعليمية، مع استكشاف آليات تقييم عادلة في البيئات المدمجة. تطوير أطر نظرية متكاملة: بناء نماذج تربوية تجمع بين نظريات التعلم (كالاتصالية والبنائية) وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تصميم المحتوى الرقمي.

ثانيًا: التوصيات العملية

تحسين البنية التحتية الرقمية: توفير أجهزة وبرمجيات حديثة في المؤسسات التعليمية، مع ضمان الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة في جميع المناطق. تدريب الكوادر التعليمية: تنظيم برامج تدريبية مكثفة للمعلمين على تصميم المحتوى التفاعلي وإدارة المنصات الرقمية، مع تخصيص حوافز مادية ومعنوية للمتميزين. تعزيز سياسات الحوكمة الرقمية: وضع إطار مؤسسي واضح يشمل معايير جودة للتعلم المدمج، وآليات مراقبة دورية لأداء المنصات الإلكترونية. دعم التعلم الذاتي: توفير منصات مفتوحة باللغة العربية مجانًا، مع تصميم مسارات تعليمية مُرشدة تُناسب مختلف المستويات. تعزيز الشراكات المجتمعية: التعاون مع القطاع الخاص لتوفير منح تدريبية في المهارات الرقمية، وإنشاء مراكز دعم تقني داخل المؤسسات التعليمية.

يُعد التعلم المدمج نهجًا واعدًا لمواكبة تحولات العصر الرقمي، لكن نجاحه يتطلب تكاملًا بين الجوانب النظرية والتطبيقية. فمن ناحية، يجب تعميق البحث العلمي لسد الفجوات المعرفية، ومن ناحية أخرى، لا بد من تبني سياسات مؤسسية تدعم البنية التحتية وتُنمّي الكفاءات البشرية. كما أن تمكين المتعلم من خلال التعلم الذاتي يظل ركيزة أساسية لضمان استدامة المخرجات التعليمية في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة.

المراجع

الدعجاني، أحمد. (2023). التصميم التعليمي بين ركائز التعلم ودعاماته في بيئات التعلم الإلكتروني. مجلة التربية المعاصرة، 7(2)، 112-130.

الشمراني، عليه أحمد. (2019). أثر توظيف التعلم الرقمي على جودة العملية التعليمية وتحسين مخرجاتها. مجلة البحوث التربوية، 22(4)، 89-105.

بضياف، عادل. (2023). مدى فاعلية استراتيجيات وطرق التعليم عن بُعد بجامعة المدية في ظل جائحة كورونا. مجلة العلوم التربوية، 10(1)، 34-50.

شحاتة، ع. (2022). حوكمة التحول الرقمي كآلية لتفعيل أداء العملية التعليمية في جامعة المنصورة. مجلة الإدارة التربوية، 18(4)، 203-220.

الشمري، عبدالله (2017). النظريات التعليمية الحديثة وأثرها في التعليم الرقمي: نظرية التعلم الشبكي نموذجًا. مجلة     دراسات في التربية والتعليم، 31(2)، 23-39.

إعداد الباحث: مطلق الدوسري                          إشراف: أ.د.حمد القميزي

المصدر: صحيفة صدى

كلمات دلالية: التعلم المدمج جودة العملیة التعلیمیة التعلم الإلکترونی التعلم المدمج على المنصات الرقمیة التعلم المدمج ی التعلم المدمج ا ا التعلم المدمج البنیة التحتیة فاعلیة التعلیم ز الاستقلالیة التعلم الذاتی التعلم الرقمی وبناء المعرفة أبرز النتائج بناء المعرفة المتعلم على خطوات تطبیق الحاجة إلى التعرف على على أهمیة أن التعلم الجمع بین على جودة یجمع بین ی التعلم من أبرز من خلال نموذج ا الذی ی إطار ا على أن فی ضوء

إقرأ أيضاً:

هل يمكن للعالم الرقمي أن يُطيل أعمارنا؟

لم يعد التفكير في "تحميل الوعي" أو "العيش الرقمي" حكرًا على الخيال العلمي، بل أصبح موضوعًا يحظى باهتمام متزايد في الأوساط الأكاديمية والتقنية.

فمع التقدم الهائل في علوم الأعصاب الحاسوبية، وواجهات الدماغ-الحاسوب، والذكاء الاصطناعي، باتت الفكرة تُناقش بوصفها أحد المسارات الممكنة لتطوّر العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا.

تتعمق اليوم فرضية أن العقل البشري ليس سوى شبكة من الأنماط العصبية القابلة للتحليل والمحاكاة، وأن الإدراك والذاكرة والشعور بالذات يمكن – نظريًا – إعادة إنتاجها رقميًا داخل بيئات اصطناعية. في هذا الأفق، تلوح إمكانات غير مسبوقة: أن تنتقل الحياة من الجسد إلى السحابة، وأن يعيش الإنسان، بشكل أو بآخر، بعد الموت البيولوجي في عالم رقمي محوسب.

بعيدًا عن أطروحات نظرية المحاكاة، يكتسب هذا التوجّه العلمي زخمًا متزايدًا، مدفوعًا بتقدم تكنولوجيا واجهات الدماغ- الحاسوب التي تسمح بقراءة الإشارات العصبية وربما إعادة إنتاجها.

في مختبرات مثل "مختبر التجسيد الافتراضي" بجامعة ساسكس، يعمل الباحثون على بناء بيئات غامرة تُحاكي التجربة الإدراكية البشرية بكل تعقيدها، محاولةً محاكاة الشعور بالهوية الذاتية والذاكرة والانفعالات داخل فضاء رقمي.

إعلان

وفي مراكز مرموقة مثل مركز العقول والآلات التابع لمعهد MIT، تتواصل الجهود لفهم البنية العصبية للذكاء البشري تمهيدًا لمحاكاتها خوارزميًا، الأمر الذي يغذي طموحات "العيش الرقمي" بوصفه مشروعًا علميًا قيد التشكّل.

ورغم أن هذه التصورات لا تزال بعيدة عن التطبيق الكامل، فإنها تفرض تحديات فلسفية وأخلاقية عميقة حول معنى الوعي وحدوده، وحول ما إذا كان بالإمكان فعلًا نقله من بيئة عضوية إلى أخرى رقمية. هل الوعي مجرّد نشاط كهربائي يمكن ترميزه؟ أم أنه يتجاوز حدود ما يمكن للآلة إدراكه؟ ماذا يحدث للروح، للنية، للشعور بالزمن والانتماء؟ في قلب هذه الأسئلة يتداخل البعد العلمي بالميتافيزيقي، ويُطرح التوتر بين محاكاة التجربة الإنسانية من جهة، وتجسيدها الحقيقي من جهة أخرى.

تظهر في هذا السياق نماذج تخيّلية مثل "دماغ ماتريوشكا" – بنية افتراضية تعتمد على طاقة نجمية هائلة لإدارة حضارات رقمية بالكامل داخل طبقات حوسبة متراكبة – لتجسّد أقصى ما يمكن أن تبلغه هذه التصورات من طموح: أن تصبح الحياة ذاتها مشروطة بالبقاء في الذاكرة الرقمية، لا في الجسد، وأن تصبح "الهوية" شيئًا قابلًا للنسخ والتعديل والحفظ.

ولكن هذه الرؤى – رغم إبهارها – تثير أيضًا قلقًا وجوديًا مشروعًا: هل يكفي أن تُحاكى الذاكرة والسلوك لكي نقول إننا ما زلنا أحياء؟ أم أن الإنسان يتجاوز مجرّد أنماط يمكن تمثيلها رقميًا؟

هنا تبرز الرؤية الدينية كخطاب موازٍ يرفض اختزال الإنسان في بيانات قابلة للترميز. في التصور الديني، لا يُختزل الوعي في تفاعلات عصبية ولا في رموز خوارزمية، بل هو متّصل بنفخة إلهية، وبمصير يتجاوز الحياة المادية.

الموت ليس مجرّد توقف للوظائف البيولوجيّة، بل هو انتقال إلى طور آخر من الوجود لا يمكن للتكنولوجيا إدراكه أو تمثيله. وعليه، فإنّ كل محاولات "تحميل الوعي" تبقى، في أفضل الأحوال، محاولات لمحاكاة القشرة الظاهرة من التجرِبة الإنسانية، دون النفاذ إلى جوهرها الروحي.

إعلان

ورغم كلّ التقدّم في أدوات المحاكاة، تظلّ هناك فجوة لا يمكن ردمها بسهولة بين ما يمكن للآلة أن تحققه، وما يجعل الإنسان إنسانًا حقًا: الشعور بالمعنى، القدرة على التأمل، الإيمان، الحَيرة، التوق إلى الخلود بمعناه الأخلاقي والروحي، لا الرقمي فقط.

صحيح أنّ الخوارزميات قد تتمكن من إعادة إنتاج السلوك البشري، وربما المشاعر المصطنعة، لكن هذا لا يعني أننا نقلنا "الوعي" فعلًا، بل أننا بنينا "مرآة" رقمية له، بلا ذات ولا عمق.

إنّ التقدّم الهائل في علوم الدماغ والواجهات الذكية والبيئات الافتراضية يفتح أمام البشرية أبوابًا جديدة لإعادة تعريف الذات والوجود، ليس فقط من منظور تكنولوجيّ، بل من منظور وجوديّ عميق.

لم يعد الإنسان مجرّد كائن بيولوجيّ يخضع لقوانين الفناء، بل مشروعًا مفتوحًا لإعادة التّشكيل، يمكن له أن يتجاوز حدوده الجسديّة ويتجسّد في صور جديدة من الوجود الرقْمي.

ومع ازدياد الحديث عن تحميل الوعي والعيش الرقمي، يدخل الإنسان مرحلة جديدة من الحوار مع ذاته، تتجاوز الأسئلة التقليدية حول الهوية والمصير، لتطرح إشكاليات أكثر جذرية: من نكون حين ننفصل عن أجسادنا؟ هل يمكن للهوية أن تظل متماسكة إذا ما انتُزعت من سياقها العضوي وزُرعت في بيئة اصطناعية؟ هل يكفي أن تبقى أنماط وعينا محفوظة في خوادم ذكية حتى نستحق أن نُسمى "أحياء"؟ وما الذي يجعل الوعي حيًّا أصلًا: استمرارية البيانات؟ أم الحضور الذاتي، والشعور الأخلاقي، والقدرة على المعاناة، وتطلّع الأمل؟

وفي موازاة هذه الأسئلة، يلوح احتمال آخر لا يقل إثارة للدهشة والأسى معًا، وهو إمكانية إطالة عمر الإنسان عبر تدخلات بيولوجية ورقمية، تطيل من فعالية الجسد أو تُحاكيه حين ينهار. لكن السؤال الأعمق يبقى: هل تطويل العمر يعني تطويل الحياة، أم مجرّد تمديد للزمن دون المعنى؟ وماذا يحدث للذات حين يُصبح الزمن نفسه مشروعًا تكنولوجيًا؟

إعلان

في هذه اللحظة المفصلية، لا يواجه الإنسان فقط تحدي التكنولوجيا، بل تحدي المعنى. فالمسألة لا تتعلق بإمكانية العيش الرقمي أو إطالة العمر بوصفهما إنجازين علميين، بل بقدرتهما على احتواء عمق التجربة الإنسانية بكل ما تنطوي عليه من هشاشة وغموض وحنين إلى ما لا يُختزل في معادلات.

قد تمنحنا هذه التقنيات امتدادات غير مسبوقة للوجود، وقد ننجح في محاكاة جوانب من وعينا داخل أنظمة رقمية فائقة الذكاء. بل قد نعيش أكثر، وأطول، وربما بأجساد أكثر قدرة، وذكريات محفوظة في سُحب ذكية. ومع ذلك، ما لا يجب أن نغفله هو أن الإنسان، في جوهره، ليس مجرد كائن معلوماتي.

فالوعي ليس فقط ما نعرفه، بل أيضًا ما نجهله عن أنفسنا، وما نشعر به دون أن نستطيع ترجمته. وبينما تتسابق التقنيات لمحاكاة الإنسان وإطالة عمره، تذكّرنا الروح بأن هناك دائمًا ما يفلت من المحاكاة، وهو: المعنى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • تنفيذ إجراءات التوظيف التعاقدي لـ1003 مرشحين لشغل الوظائف التعليمية بالمدينة المنورة
  • كتاب مقومات النظرية اللغوية العربية.. قراءة تحليلية دقيقة للتراث النحوي
  • شاهد.. علماء يسجلون بالكاميرا تأثير النظرية النسبية لأينشتاين
  • إدارة القرنة التعليمية ومستقبل وطن يكرّمان أوائل الطلبة غرب الأقصر
  • المستشفيات التعليمية تنظم برنامجًا تدريبيًا عن معايير الجودة للجراحة الآمنة
  • رئيس جامعة أسيوط يستقبل وفد المجلس الأعلى للجامعات لمتابعة سير العملية التعليمية
  • بيرسون تُعيد تعريف هويتها لاستشراف مستقبل التعلم
  • ماجستير الإعلام الرقمي لـ«هتان»
  • هل يمكن للعالم الرقمي أن يُطيل أعمارنا؟