لجريدة عمان:
2025-05-14@21:12:35 GMT

حاجة الأمة للخروج من واقعها الراهن وتحدياته

تاريخ النشر: 14th, May 2025 GMT

بمناسبة الزيارة الرسمية للرئيس السوري إلى الجمهورية الفرنسية الأسبوع المنصرم، ولقائه بالجالية السورية المقيمة في باريس، لاحظ المتابعون لهذا اللقاء، الذي ضم العديد من السياسيين والمثقفين وأساتذة في الجامعات الفرنسية وبعض رجال الأعمال، بينهم الأكاديمي السوري في جامعة السوربون الفرنسية، المفكر السياسي المعروف د.

برهان غليون، والذي ترأس في بداية الربيع العربي وفد المعارضة للنظام السابق لعدة سنوات، قبل أن يقدم استقالته من هذا الوفد.

وفي بداية الجلسة مع الرئيس، قام وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني من كرسيه بجانب الرئيس السوري ليجلس عليه د. برهان غليون، وهذه لفتة تقدير واضحة لهذا المفكر والسياسي السوري في جامعة السوربون.

ولا شك أن د. غليون من الباحثين البارزين في قضايا الأمة ومشكلاتها وتحدياتها الراهنة، وهذا ما برز في العديد من مؤلفاته وأبحاثه وحواراته الكثيرة في العقود الثلاثة الماضية. ومن مؤلفاته التي أصدرها في هذا المضمار: (المحنة العربية: الأمة ضد الدولة)، وكتابه الضخم (نقد السياسة: الدولة والدين)، وكتاب (اغتيال العقل)، وكتاب (الوعي الذاتي)، وكتاب (نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة)، وغيرها من المؤلفات، التي شارك في بعضها مع آخرين من الكتّاب في لقاءات ومؤتمرات عديدة.

ولذلك يرى د. برهان غليون أن أمتنا في حاجة ملحة إلى الحرية الفكرية، والنقد البنّاء، وإحياء القيم المبدعة والإنسانية من الحاضر أو من التراث، بل ميّال إلى محو كل ما سبقه، خاصة مكتسبات النهضة الفكرية الأولى.

ويقصد د. غليون بمكتسبات النهضة الأولى ما تحقق في ظل دعوات الإصلاح التي دعا إليها الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من الإصلاحيين الأوائل الذين قدموا أفكارا إيجابية للنهضة الخلاقة التي تقود الأمة للتقدم المنشود بعد رحيل الاستعمار. وهذا ما يحتاج إلى رؤية عميقة وحصيفة لانتشال الأمة مما كانت عليه من التخلف والتردي لما يزيد عن قرن، وهذا ما يستدعي أن تملك الأمة فكرا إصلاحيا لنهوضها في مجال الاجتماع والاقتصاد والعلوم العصرية الحديثة، التي تواكب ما صارت إليه الأمم الأخرى بعد تخلصها من الاستعمار ومخلفاته.

ومن السلبيات التي تعيشها أمتنا منذ القرن الماضي، وما تزال قائمة حتى الآن، قضية الاختلاف بين النخب الفكرية والسياسية، والتي تحولت إلى انقسام وشرخ كبير في الرؤية العامة بين بعض الدول للأسف، تجاه قضاياها الكبرى. وبدلًا من أن يكون الاختلاف تعددا وتنوعا لإثراء وتجديد الأفكار والسياسات، لكونه طبيعة بشرية وكونية اقتضتها المشيئة الإلهية، وثراءً فكريا وحضاريا للإنسانية في تعددها وتنوعها، انقلبت عكس التوقع الذي كانت عليه أمتنا في القرون الماضية!

ففي العصر الأول الإسلامي، كانت الأديان والمذاهب الفكرية تعيش في توافق وتعدد، لا يرفض الاختلاف إلا ضمن الطبيعة البشرية، وكانوا يتعايشون مع بعضهم كمتجاورين في الحياة الإنسانية. لكن في عصرنا الراهن، تحوّل التنوع والتعدد إلى اقتتال وصراع وإقصاء.

وفي كتابه (الوعي الذاتي) للمفكر السوري د. برهان غليون، انتقد هذا الانقسام في الوعي العربي بين أفكار عديدة تتقاسمه الأمة في العديد من الجوانب الفكرية، ولا تزال الأمة تعيش في أزمة هذا الانقسام حتى الآن. فيقول:

«قبل الفكر أن يعيش في ثنائية دائمة، وأن لا يرى نفسه ولا يعيها إلا من خلال هذه الثنائية المعمّمة في الوعي والعقل والممارسة: ثنائية الحديث والقديم، والأصولي والمعاصر، والديني والعلماني، إلخ... وفي جميع المحاولات النظرية التي تعرضت لهذه الأزمة، يبدو التأكيد على هذا الجانب أو ذاك، أو الدفاع عن ضرورة التوفيق بينهما، التزاما أساسيا لدى مختلف الأطراف. ولكن قليلة هي الدراسات التي سعت إلى الذهاب أعمق من ذلك لرؤية الأسباب الكامنة وراء هذه الثنائية، والمنابع التي تستمد منها حياتها واستمرارها. وهكذا لم يقم الفكر النظري العربي، في العقود الماضية، وبقدر تبنيه لهذه الثنائية كواقع ثابت وطبيعي، إلا بإعادة إنتاجها وتجديدها».

ويعزو د. غليون هذا الانقسام إلى أسباب فكرية قائمة، مع أحكام مسبقة تجاه بعضهم البعض، دون أن تنطلق من رؤى منطقية وتحليل تاريخي وعلمي لما يحصل في هذه الانقسامات. ولذلك اتجه إلى قضايا لا تستحق الخلاف، ونقاشات لا تعبر عن واقع تتم معايشته، بل اتجهت إلى افتراضات بعيدة عن الوعي الذاتي وقضاياه الواقعية:

«وبسبب ذلك، كما يقول د. غليون، فإن منهج دراسة الفكر والثقافة بقي، في أغلب الأحيان، إن لم يكن في جميعها، منهجا يقوم على تبرير تأكيدات ومواقف معينة، أصالية أو عصرية، والدفاع عنها في وجه خصم مفترض، ولم يُسمع إلا لماما لتجاوز هذه التأكيدات وأحكام القيمة المستمدة منها، إلى الكشف عن قوانين هذه الثنائية أو وضعها موضع الشك والتساؤل. فلا يمكن أن يصدر هذا التجاوز إلا عن منهج التحليل التاريخي والمعالجة العلمية، التي لا تنطلق من مناقشة صحة أطروحة الحداثة والأصالة أو خطئهما، وإنما تقوم على البحث عن مصدر هذه الثنائية في الوعي والواقع معا».

هذا لا يعني أن التيارات السائدة والمتصارعة ليس لها تفسيراتها الخاصة وغير المعلنة لأزمة الثنائية الثقافية؛ إذ في ردودها المتبادلة تحاول كل الأطراف أن تُظهر سبب بقاء الأطراف الأخرى، وتلحقه، بشكل أو بآخر، بعوامل سلبية داخلية أو خارجية. ثم إنها تحتاج، لتبرير نفسها وشرعية وجودها، إلى أن تعطي تفسيرا خاصا وإيجابيا لوجودها ومزاعمها.

ومن هنا يرى برهان غليون أن أسباب هذه الإشكالية الخلافية بين هذين التيارين أو المذهبين ترجع إلى أمور وقضايا فكرية خارج الواقع المعاش. ولذلك اتسمت برؤى بعيدة عن إشكالات الواقع وتحدياته. ولا شك أن هذا الاختلاف ينطلق من رؤى وأفكار ترجع إلى تناقضات فكرية وأيديولوجية، وهذا بلا شك نتيجة من نتائج تأثر أحد المذهبين بفكر خارج نطاق فكر الأمة.

ومع أن هذا الخلاف بين هذين الاتجاهين، كما تمت الإشارة إليهما، ظهر تيار ثالث يميل إلى التوفيقية أو الوسطية، كما يسمى عند البعض، ليعطي تفسيرا وسطا بين هذه التيارات المتخاصمة، وهو التيار الذي يأخذ فكره من هذين المذهبين، أو ما يقال عنه: الأخذ من الأصالة والمعاصرة معا:

«وهكذا وُلد اتجاه ثالث جديد توفيقي يسعى إلى الربط بين الاتجاهين ويُصلح أحدهما بالآخر أرضية تفسير اجتماعي موحد لا ينفي أطروحات التحديثية الأساسية ولكنه يُغنيها.

وباختصار، لا تنبع أزمة الثقافة العربية من استمرار تيارين فكريين متنازعين، فلا يمكن تقليصها إلى وجود كل واحد منهما. فهي ليست ثمرة لبقاء الوعي المفوّت أو المتأخر أو التقليدي. وهي ليست مجسدة أيضًا في الوعي العصري أو العلماني أو التحديثي. إن جذورها تمتد في عمق التاريخ الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية التي تعيشها المدنية العربية ذاتها، بما هو استبعاد الجماعة من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة الحضارية العالمية. فهي بنت الحاضر أولًا، وهي بنت الحداثة ثانيًا، وهي ثمرة القطيعة بين الحاضر والماضي، أو الذات من جهة، وبين الواقع العالمي الحضاري من جهة ثانية».

وهذه هي الإشكالية التي يفترض أن تنتبه لها النخب السياسية، وتضع لها خطوات ووسائل لتفادي عوائقها ومشكلاتها التي تعيشها الأمة وتتسبب في إعاقتها.

وبحسب د. غليون، فإن الصراع القائم، والذي يتركز على الهيمنة الإيديولوجية لكل طرف من الأطراف المتخاصمة فكريا، والذي انعكس على التراجع على كل المستويات، أسهم في تخلخل البنى الاجتماعية، وعزز الشعور بالإحباط.

ومن الإشكاليات القائمة في الأمة، وهذا ما أتاح الفرص للقوى الاستعمارية أن تستفيد من أخطاء الأمة وصراعاتها وخلافاتها، لزعزعة استقرارها والهيمنة عليها.

ولا شك أن هذا الوضع الصعب والخطير أسهم مساهمة كبيرة في تردي الأوضاع في البلاد العربية إلى مستوى العجز في تحقيق الأهداف المرجوة التي تتطلع إليها شعوبها، وهو بلا شك نتيجة من نتائج الغياب الحقيقي لمشروع وطني وسياسي ينهض بالأمة ويُخرجها مما هي فيه من إشكالاتها.

وهذا التنافس وذلك الصراع هما اللذان يجعلان من استنفار مسألة الهوية والتركيز عليها ضرورة حتمية، ويدفعان بالصراع الاجتماعي إلى أن يدور، في القسم الأعظم منه، على أرضيتها وفي حدودها، وذلك أن كل فئة تسعى، حسب ما أوتيت من علاقات قربى ما قبل قومية، إلى إعادة هيكلة نفسها، لتمييزها بشكل أكبر عن الأخرى، ولتحويلها إلى فاعل مستقل ومؤثر في هذا الصراع. بمعنى آخر، إن الانكفاء على الذات ونفي السياسة بتقديس التراث هو الوجه الآخر لاغتراب السلطة واستلابها للخارج وتدمير الذات.

والإشكالية التي حدثت أن الإخفاق الذي حصل للدولة القُطْرية، والذي أسهم في التوتر بين التيارات الفاعلة، أدى إلى التقهقر في تأسيس تنمية حقيقية، وإيجاد سياسات رشيدة، نجم عنه هذه الثنائية التي أشار إليها المؤلف في أكثر من فصل في هذا الكتاب. وهو ما دعم الغرب في زيادة هذا التقهقر والتراجع بوسائل وطرق متعددة منذ الاستقلال، وخاصة فيما يتعلق بالنهضة الصناعية.

ولذلك بقيت المعركة تشتد، وفي حيز ثابت، وهو الخلاف حول التاريخ وتفسيره، من خلال الخلاف حول هذه الثنائية، دون أن يتم الالتفات إلى ما تعانيه الأمة من مشكلات سياسية وثقافية وفكرية:

«فالتعارض الذي نعيش إذن بين السلفية والتحديثية، والثنائية التي تميز ثقافة حقبتنا، والشقاق الذي يسود تفكيرنا، ونقل المعركة السياسية والاجتماعية إلى الصعيد الأيديولوجي ـ الثقافي، كل ذلك تعبير عن تقهقر الوضع التاريخي العربي أمام الضغط والتحدي الغربي، بما يعنيه هذا التقهقر من إخفاق في تحقيق النقلة الصناعية، أي الحداثة المنتجة الإيجابية، ومن تدهور لنوعية العلاقة واللحمة الوطنية. لكن هل يحمل هذا الشقاق، أو أحد أطرافه، حلا فعليا لهذا التراجع والتقهقر ويقود إلى الخروج منه، كما يقول برهان غليون؟»

يرد: «قبل ذلك ينبغي التساؤل عن الأسباب الكبرى التي تكمن وراء هذا التراجع، وعن مضمونه الحقيقي. وهذا يوصلنا إلى طرح مسألة الأزمة التاريخية، التي تتجاوز بما لا يُقاس الأزمة الظرفية الراهنة.

بل إن تفجر هذه الأخيرة لا يقوم، في الواقع، إلا بالكشف عن الأولى وإظهارها على حقيقتها».

والشيء الأغرب أن هذا الوضع لا يزال قائمًا في الكثير من الأوطان العربية، والمشكلات هي نفسها قائمة، بالرغم من تجارب مرّت على الأمة، تجعلها أقرب للتفاهم والتقارب بدلًا من الاختلاف. وهذا وجوديّ، إذا بقيت هذه المسألة قائمة في الأمة في ظل وضع خطير، دون الخروج من هذا النفق الصعب.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه الثنائیة برهان غلیون فی الوعی وهذا ما أن هذا

إقرأ أيضاً:

عبدالله بن زايد ووزير خارجية أذربيجان يبحثان هاتفياً العلاقات الثنائية بين البلدين

بحث سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، خلال اتصال هاتفي اليوم، مع معالي جيهون بيراموف وزير خارجية جمهورية أذربيجان الصديقة، العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تعزيزها بما يخدم مصالحهما المشتركة.

 

أخبار ذات صلة "الأرصاد" يكشف عن أقل درجة حرارة سجلت في الدولة الإمارات تحتفي باليوم العالمي للتمريض 2025

 كما استعرض الجانبان خلال الاتصال مجمل المستجدات الإقليمية والدولية، وتبادلا وجهات النظر بشأنها.

 

المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • لجنة نصرة الأقصى تدعو للخروج المليوني بعد غد الجمعة بمسيرات “مع غزة لمواجهة حرب الإبادة والتجويع”
  • تزايد حالات الولادات القيصرية في العراق.. موضة أم حاجة ضرورية؟
  • هُويَّتنا التي نحنو عليها
  • وزير الطاقة يبحث مع عدد من ممثلي المنظمات الإنسانية ملف المياه وتحدياته
  • ولي عهد أبوظبي والرئيس الكازاخستاني يبحثان سُبُل تعزيز العلاقات الثنائية
  • عبدالله بن زايد ووزير خارجية أذربيجان يبحثان هاتفياً العلاقات الثنائية
  • عبدالله بن زايد ووزير خارجية أذربيجان يبحثان هاتفيا العلاقات الثنائية بين البلدين
  • عبدالله بن زايد ووزير خارجية أذربيجان يبحثان هاتفياً العلاقات الثنائية بين البلدين
  • مع التحية للعزيزة وزارة التعليم وإداراتها (١)