بقلم: فالح حسون الدراجي ..

غيب الموت نهار اليوم الخميس، الشاعر البابلي الجميل موفق محمد بعد أزمة صحية لم تمهله طويلاً للأسف ..

أكتب هذا المقال وطعم الفجيعة المر يملأ فمي، وسواد الحزن يغطي كل مسامات روحي، ليس لأن بيني وبين هذا الشاعر الجميل وداً فحسب، إنما لأن القصيدة العراقية فقدت شاعراً استثنائياً لا يتكرر، وحين أقول ( شاعراً لايتكرر)، فإنا أعني وأقصد تماماً ما أقول.

.

فهذا الشاعر الذي يكتب بشكل ولون مميز وخاص، سواء من الناحية اللغوية، أو الفنية، أو الأسلوبية، حتى لتحار في نوعية قصيدته: أهي قصيدة عاملة وشعبية أم قصيدة فصحى؟

وفي هذا اللون لا يتشابه معه سوى الشاعر الراحل گزار حنتوش..

أما عن جرأة موفق محمد

وشجاعة قصيدته، فحدث بلا حرج، ولا تسألني عن تفرده وتميزه في قول ما يريد قوله دون خوف من أحد، أو التفكير بالنتائج، وما يترتب على ما سيقوله من نقد قاس ولاذع بحق السلطة الحاكمة، وفساد الطبقة السياسية، أو بحق من يراه سبباً في دمار العراق وإفقار شعبه الأبي.

وفي هذه الجرأة أجزم أن موفق محمد كان يغرد وحده بعيداً عن الأسراب الشعرية والفنية الأخرى.

وهنا سأعترف لموفق محمد وأقول له، كثيراً ما كنت أتساءل مع نفسي متعجباً : ألا يخاف هذا الرجل على حياته وهو يعنف الحيتان بكل هذا التعنيف، ويرزل الأقوياء بكل هذه الرزالة..

ألا يخشى ( الكاتم) مثلاً، حين يتحدى عصابات الشر كل هذا التحدي، أو حين ينتصر للفقراء والمظلومين والمحرومين والمهمشين ضد جميع مستغليهم، وهو الذي لا يملك في بيته حتى (مسدس فالصو )، فمن أين تأتيه كل هذه القوة وهذا الجبروت الشعري والعناد الطبقي، من من يأتي العزم وتأتي الخسارة لهذا الفقير، اليتيم، الأعزل واليساري الذي ليس معه غير حب الفقراء وثقته بنفسه، وإيمانه بقضيته العادلة.. وأقصد قضيته الوطنية والتقدمية ..؟

كيف يخرج هذا الشاعر عن جادة زملائه الشعراء، فيكتب كل ما يريد بلا خوف ولا حرج حتى، لاسيما في قصائده ( الخاصة حداً) ، ولماذا لا يخاف هذا المجنون على حياته وحياة عائلته، وهو يمسح كل يوم الأرض – شعراً – بالأقوياء الظالمين والقتلة والمجرمين والمستبدين، ويجلدهم بقصائده ولسانه اللاذع .. كيف يجرؤ هذا الكائن الرقيق على الوقوف عارياً إلا من ورقة توت الشعر، فيتبول على رؤوس ووجوه الفاسدين بلا استثناء، بدءاً من أبطال صفقة القرن وليس انتهاء بمن وقف خلفهم من الزعماء والقتلة العتاة دون ان يرمش له جفن، كيف.. وهو الذي لا تقف خلفه سلطة ولاحزب مسلح أو ميليشيا أو قبيلة أو حتى أصدقاء متنفذون،

كيف بربكم كيف ؟

اليس لهذا الشاعر الباسل الحق في ان يبكيه الفقراء والشعراء والمظلومون.. ؟لقد اردت الحديث فقط عن هذه الجزئية المهمة في شعره وفي شخصيته، وهي حتماً جزئية متماسكة مع جزئيات أخرى في حياته ومزاجه وثقافته وتفكيره، وإلا ما مان سيمضي في هذا الطريق الخطير والصعب كل هذه السنين الطويلة.. نعم لقد أردت الحديث اليوم عن جرأته الفذة، وعن جسارته الشعرية الاستثنائية دون غيرها، لأنها الميزة التي تستحق الحديث أكثر من غيرها.. وأظن ان الناس الذين بكوا اليوم موفق محمد حزناً على رحيله وفراقه أولاً، بكوا عليه أيضاً لأنهم أدركوا بحساسيتهم المدربة والمجربة أن لا شاعر غيره سيفعل فعله، ولا أحد غيره سيشتم علناً القتلة، أو شاعر مثله ينال من الفاسدين ويفضحهم شعراً ونثراً ونكاتاً حتى !!

لذلك وجدت إن التعريف بتاريخ ومنجز هذا الشاعر غير ضروري اليوم بقدر الضرورة التي يوفرها التذكير بجرأته وبسالته وانحيازه الصارخ للفقراء، كما اعتقد أن الرجل ليس محتاجاً للتعريف بمنجزه الإبداعي ، فمن كان مثله لايحتاج قطعاً إلى تعريف.

أخيراً أقول ومعي جميع الشعراء والفقراء والمحرومين: وداعاً موفق محمد، وداعاً أيها الشاعر الشجاع الذي سيفتقده المظلومون كثيراً، ويفرح لرحيله الظالمون كثيراً ..

فالح حسون الدراجي

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات هذا الشاعر موفق محمد

إقرأ أيضاً:

حين يصبح الشاعر وطنًا.. رحيل أحمد أبو سليم وقيامته في فلسطين

غيّب الموت، يوم السبت الموافق 21 حزيران (يونيو) 2025 الشاعر والروائي الفلسطيني أحمد أبو سليم (60 عاماً)، عضو رابطة الكتاب الأردنيين، والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، بعد مسيرة إبداعية متميزة، ختمها بجائزة فلسطين العالمية للآداب في دورتها الثانية في بغداد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وهناك التقينا وتعارفنا وكانت جلسة شاملة، استطعنا أن نتعرف إلى المنهجية والالتزام اللذين كان يحملهما شاعرنا الراحل، الذي ظل منحازاً للمقاومة وللقضية الفلسطينية وللشهداء.

سنعود لمضمون الجلسة بعد التعريف بالأديب الراحل

ولد الأديب والشاعر أحمد أبو سليم في الزرقاء في 14 كانون الأول (ديسمبر) 1965، أنهى دراسة الثانوية العامة في مدرسة معاوية بن أبي سفيان في الزرقاء عام 1983. سافر إلى تركيا لإتمام دراسته الجامعية، وما لبث أن غادرها إلى الاتحاد السوفياتي ليحصل على بكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من جامعة "الصداقة بين الشعوب" العالمية في موسكو عام 1992. شارك في البرنامج الشهير "أمير الشعراء"، وأطلق البرنامج عليه لقب "شاعر القضية" التي التزمها في حياته وإصداراته.

كتب القصة والشعر والرواية ونشر الكثير منها في الصحف الأردنية والعربية. شارك في عدد كبير من المهرجانات في العواصم العربية.

بدأ رحلته مع الشعر في بداية الألفية الثالثة، وأصدر أربع مجموعات شعرية في العقد الأول منها. أما في العقد الثاني من الألفية، فاتجه إلى الرواية، وأصدر روايات فلسطينية هادفة، عن تجربة المقاومة وروحها، بالإضافة إلى دراسات عن ناجي العلي وغيره..

في اللقاء الوحيد بيننا، تحدثنا قرابة الساعة عن الأدب والفن والشعر والمقاومة وفلسطين. جاء متأخراً إلى فعاليات "جائزة فلسطين العالمية للآداب" التي تقدم جوائز في مختلف الآداب. فكانت هذه الجلسة عند وصوله، تعارفنا أكثر، وسألته عن روايتيه اللتين تقدّم للمشاركة بهما، رواية "أزواد" ورواية "يس".

فهو قد ختم تجربته بهذين العملين، سألته عن الأولى فقال إنها رواية الواقع الفلسطيني، كتبتها عن عملية الأسير ثائر حماد الشاب الصغير الملقّب بقناص وادي الحرامية، والمحكوم بأحد عشر مؤبداً بعد عمليته النوعية التي نفّذها عام 2002 ضد جنود الاحتلال، إذ قتل أحد عشر جندياً منهم باستخدام بندقية قديمة، كانت لجده المجاهد القديم "عياض". أذهلتني التفاصيل التي ذكرها، وعودته بالتاريخ إلى معلومات مجهولة، فأوضح لي أنه زار العائلة في سلواد، واطلع على تفاصيل التحقيقات، وزار وادي الحرامية وزار المكان الذي كمَن في ثائر، وانتظرهم طويلاً ومعه الزوادة، ومن هنا نحت اسم الرواية "أزواد".

تحدثنا بالكثير من القضايا الأدبية الفلسطينية، وانتقلنا إلى حفل المهرجان الذي فاز فيه بالجائزة الثانية مناصفة مع رواية "الرعب" لأيمن العتوم.

أعماله

ـ دمٌ غَريب، شعر، بيروت، 2005.
ـ مذكرات فارس في زمن السقوط، شعر، دمشق، 2006.
ـ البوم على بقايا سدوم، شعر، بيروت، 2008.
ـ آنستُ داراً، شعر، بيروت، 2010.
ـ الريح لا تكفي الوحيد، شعر (مشترك)، 2010.
ـ " الحاسة صفر، رواية، عمان، 2011.
ـ ناجي العلي.. نبض لم يزل فينا، (دراسة توثيقيَة بالاشتراك مع سليم النجار ونضال القاسم)، 2013.
ـ الكنعاني، (دراسة توثيقية بالاشتراك مع صلاح أَبو لاوي ونضال القاسم)، 2015.
ـ ذئاب منوية، رواية، بيروت، 2016.
ـ ضد قلبك، شعر، عمان، 2017.
ـ كوانتوم، رواية، عمان، 2018.
ـ بروميثانا، رواية، عمان، 2020.
ـ دمهم مطر، شعر، بالانجليزية، ترجمة نزار سرطاوي، عمان..
ـ يس، رواية عن مجزرة دير ياسين، عمان، 2021
ـ أزواد، رواية، عمان، 2023

نمذج من شعره

الشَّمس تشرق فوق غزة مرَّتين
لا تَغسِلوا أَمواتَكم بالماءِ
قد غسَّل الرَّصاصُ ذُنوبَهم
لا تُشعِلوا في ليلهم ناراً تدفِّىءُ بردَهم
فالشَّمس تشرقُ فوق غزَّة
كلَّ يومٍ........مرَّتينْ
لا تَحفروا أَشعاركم فوق الشَّواهد
عارُكم.....هو عارُكم
والصَّمت أَبلغُ في المقابر
من مقامات الحنينْ
في الموت طفلٌ لم يَجِدْ
قَبراً يلُمُّ عظامهُ
رَجُلٌ يفَتِّشُ عَن مَلامِح وجهِه
بعضُ الثِّيابِ تقيَّأَتْ
جَسداً تعفَّرَ بالتُّرابِ
وَطِفلَةٌ
نَسي المؤذِنُ صوتَه
عند الولادَةِ في ثَنايا أُذْنِها
فتقافَزَتْ "الله أَكبر" مع بقايا لحمِها
في الموتِ موتٌ ضائعٌ
خوفُ الجنودِ من الضَّحايا
كُلَّما سقطَ الشَّهيدُ على الشَّهيدِ
تناسَلتْ من روحهِ أَحياءُ غزَّةَ في العَراءِ
كَأَنَّما
للمرءِ يولَدُ صاحبٌ
ظلٌّ قرينٌ واحدٌ
أَمَّا بغزَّة للقرينِ مُقاتلٌ
بَشَرٌ... ولكنْ في الحُروبِ
بأَلفِ أَلفِ مُقاتلٍ
نحنُ الأَوائلُ
والأَوائِلُ
والأَوائلُ
لا نَموتُ
دِماؤنا
نَهرٌ يهرولُ صاعداً
نحو اليقينْ
نحنُ الأَوائلُ
من ملامحِ كلِّ طين صورة لسلالة
من لحمنا قُدَّت بلادٌ
صورةً أُخرى لنا
تركت على أَجسادنا
آثار جرح غائر بعظامنا
"فلسطينْ"
"فلسطينْ"
"فلسطينْ"

هذا دمي

هذا دَمي، حَنُّونُ أَرضي رَدِّدي                   ..               خَلفي تَراتيلَ الخُيولِ وَزَغرِدي
صَلَّيتُ كالأَشجارِ حُراً واقِفاً                        ..                والأَرضُ تَقطُرُ كالغَمامَةِ مِن يَدي
والشَّمسُ خَلفي تَصطَلي بالرُّوحِ مِن       ..                 َولِ الخُشوعِ، وَلَفحِ حُزنِ المَشهَدِ
أُمَّاهُ ما أَحنيتُ ظَهري لا ولا                      ..                  صَلَّيتُ يَوماً تَحتَ نَعلِ المُعتَدي
قَد عِشتُ طِفلاً ظامِئاً أَرنو إلى                 ..                   سَبأ تُزَيِّفُ صَمتَها بِالهُدهُدِ
وَالرُّبعُ خالٍ لا صَدى صَوتٍ وَلا                   ..                   أُرجوحَةٌ ما بَينَ أَمسٍ وَالغَدِ
وَالرِّيحُ تَعوي، والدِّماءُ تَكَلَّسَتْ              ..                   وَالخَوفُ حِكمَةُ كُلِّ شَيخٍ مُهتَدِ
وَالذِّئبُ حيناً في الكَنيسَةِ يَشتَري           ..                     صَكَّاً وَحيناً يَحتَمي بالمَسجِدِ
كُلُّ الذِّئابِ قَدِ اشتَرَتْ نَسَباً لِرَ                   ..                       بٍّ أَو نَبيٍّ أَو إمامٍ سَيِّدِ
وَأَنا اللَّقيطُ أُفَتِّشُ التَّاريخَ عَن                 ..                       جَذرٍ جَريحٍ بالتُّرابِ مُضَمَّدِ
لا جَذرَ لي، سَرقوا مَعالِمَ سِدرَتي            ..                       سَرقوا النَّشيدَ، وَكُلَّ فيهٍ مُنشِدِ
سَرَقوا حِكاياتِ الرُّجولَةِ والبُطو             ..                       لَةِ مِن كِتابي المَدرَسيِّ، وَمِذوَدي
سَرَقوا بِلادي، زَوَّجوها قاتِلاً                  ..                       زُفَّتْ إليهِ بِثَوبِ عُرسٍ أَسوَدِ
سَرَقوا التُّرابَ وَشَيَّعوني فَوقَ صَخـ     ..                       رٍ ناتئٍ بِدَمِ المَسيحِ مُعَمَّدِ
فَبأيِّ آلاءِ العَذابِ أُكَذِّبُ                          ..                     والنَّارُ كانَتْ مُنذُ وَعدي مَوعِدي

*كاتب وشاعر فلسطيني

مقالات مشابهة

  • مشكلة خالد سلك هذا أنه تحدَّث كثيراً جداً، ثم مشكلته أنه تحدَّث كثيراً جداً أمام الكاميرات!!
  • أيها الإيرانيون عليكم بالإتصال الحضاري مع العرب المسلمين
  • "العوض على الله".. الشاعر محمد عاطف يكشف لـ"الفجر الفني" عن تعاون جديد مع رامي صبري: كلمات تنزف إحساس، ولحن من قلب موجوع
  • معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس إني كنت من الظالمين.. تعرف عليه
  • بن رمضان: تحملت الكثير من الانتقادات بسبب قرار انضمامي للأهلي الذي كان نابعًا من القلب
  • احياء اربعينية الشاعر الكبير البكالي في مأرب
  • السلطة المحلية بريمة تحيي أربعينية الشاعر المثقف ياسين البكالي بفعالية
  • السفير عدوي : الفترة المقبلة ستشهد مزيد من التركيز على حشد الدعم اللازم للقطاع الاجتماعي ونعول كثيرا على الأشقاء في مصر
  • حين يصبح الشاعر وطنًا.. رحيل أحمد أبو سليم وقيامته في فلسطين
  • ذكرى رحيل مأمون الشناوي.. شاعر العاطفة الذي أنطق العمالقة وسكن وجدان أجيال (تقرير)