هل يُشكّل الذكاء الاصطناعي فرصةً للبشرية لتصبح أكثر إنسانية؟
تاريخ النشر: 20th, May 2025 GMT
تمثل الفترة الزمنية التي أعقبت جائحة كورونا واحدة من اللحظات التاريخية الحاسمة في تاريخ البشرية، حيث قامت التكنولوجيا بفرض أهميتها المحورية في تسيير حياة الإنسان، وعالم الأعمال، وبذلك لم تعد التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي مجرد نتاج ابتكاري؛ ولكنه بمثابة المرآة التي تعكس قدرة العقل البشري على إعادة رسم الحدود بين القدرات العميقة للبشر، وما يمكن تفويضه لهذه الأنظمة الذكية من المهام الروتينية والمتكررة.
تعالوا في البدء نتوقف عند واحدة من أبرز المسارات الفكرية السائدة في جدليات الوقت الراهن، والتي مفادها بأن الذكاء الاصطناعي لوحده لن يحل محل البشر، ولكن الكفاءات البشرية التي تمتلك مهارات توظيف الذكاء الاصطناعي ستحل محل الذين لا يمتلكونها، وهذا ما لاحظناه على أرض الواقع من بعد انحسار جائحة كورونا، فقد تحولت بيئة الأعمال، والمؤسسات نحو الأتمتة بوتيرة أسرع، وأصبح التركيز على التقنيات المتقدمة ضرورة لازمة تحسبًا لأي جائحة، أو ظروف استثنائية في المستقبل، وقد شمل هذا التحول جميع أبعاد العمليات المؤسسية، والقطاعية من حيث أتمتة نماذج التخطيط والتشغيل، وآليات اكتساب القيمة، وطرق التعامل مع الالتزامات الخارجية للشركاء، والمستفيدين، وأصحاب المصلحة، وما تزال هذه المحاور في تطور مستمر بفضل التعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الرقمية. ولهذا السبب تُعد هذه الفترة الزمنية بالغة الأهمية والخطورة في آنٍ واحد؛ فقد لا تكون فقاعة الذكاء الاصطناعي، وموجات التكنولوجيا التحويلية، ومتطلبات التغيير والتكيف في طريقها إلى الانفجار، لكن الحراك الفكري الراهن والذي يدعو إلى التفكير بشكل مُغاير لمستقبل الإنسان والآلة سوف يساعد بلا شك في تفريغها.
فإذا نظرنا إلى جوانب الإمكانات الهائلة للتقنيات المتقدمة مقابل المخاوف المحتملة، سنجد بأن الكثير من المسارات الاستشرافية ترجح بأن الذكاء الاصطناعي قد يُحدث تغييرات «سلبية في الغالب» في عدد من السمات البشرية، إذا ما تواصلت الابتكارات النوعية جهودها التي تستهدف معالجة نقاط الضعف الحالية في أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل الهلوسة، والتحيز المعرفي، وتأتي أربعة من السمات البشرية في مقدمة السمات المهددة بالتغيير، وهي: الذكاء الاجتماعي والعاطفي، والقدرة على التفكير العميق، والتعاطف، واستشعار الحس الأخلاقي. ولكن التحول نحو عالم متكامل ومشترك بين الإنسان والآلة هو أمر لا مفر منه. ولكون هذا التحول حتمي، فإنه ليس يعني بالضرورة أن يكون على حساب السمات البشرية. وفي الجهة الأخرى، تؤكد القراءات الاستشرافية الأكثر تفاؤلًا بأن التقنيات المتقدمة قد تقوم بدور محوري في تعزيز عدد من القدرات البشرية بشكل إيجابي، والتي تشمل سمات الفضول المعرفي، والقدرة على التعلم، واتخاذ القرار، وحل المشكلات، والتفكير الإبداعي والابتكاري. وهذه الفرضيات تضعنا أمام صورتين متضادتين لسيناريوهات الأثر على المدى المستقبلي، والتي تعكس وجود الفجوة في فهم التحديات الأساسية في الجاهزية المعرفية والثقافية للولوج إلى ما يسمى «الفجر الجديد»، وهو عصر الحياة والعمل مع الآلات.
فعندما ظهر الجيل الأول من ابتكارات التكنولوجيا الرقمية، كان التحدي الحقيقي آنذاك تكنولوجيًا. وعليه كان الرهان في تشجيع التعلم المستمر، وبناء العقلية الرقمية في الإدارة، وكانت الفكرة هي أن كل مدير تنفيذي، وكل ممارس بحاجة إلى فهم كيفية عمل هذه التقنيات الذكية ليس من أجل إتقان هندسة الذكاء الاصطناعي أو علم البيانات؛ ولكن لأن العقلية الرقمية قد أصبحت معيارًا لا غنى عنه في إدارة الأعمال، وتنفيذ المهام. ولكن عصر الفجر الجديد ليس بحاجة إلى بناء القدرات التقنية، فهو يتطلب إعادة صياغة القناعات الراسخة بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة الأخرى، والخروج من الحدود التقليدية التي تركز على الفوائد والمخاطر وحسب، والبدء بطرح أسئلة أكثر عمقًا، وشمولًا، وحيادية، وكذلك أكثر وعيًا بالتداعيات المستقبلية. وبالتالي فإن التحديات التي تواجه البشرية هي إما ثقافية أو تنظيمية، ولكنها ليست تقنية كما يراه الكثيرون. فقادة التكنولوجيا يتحدثون حاليًا عن فرص دمج تقنيات، وأدوات علوم البيولوجيا مع الذكاء الاصطناعي، وذلك لتعزيز الاستجابات الشبيهة بالإنسان، وهذا من شأنه أن يمنح هذه التقنيات قدرًا من الوعي، والذكاء العاطفي، مما يؤكد بأنه لم يُعد تبني التقنيات مسألة اختيار في ظل تنامي معضلة الأميَّة الرقمية، وبأن المستقبل القريب سوف يحمل أشكالًا وأدوارًا مختلفة للذكاء الاصطناعي، ويخلق أنماطًا غير مألوفة للتفوق التكنولوجي.
وهذا يقودنا إلى المحور الأكثر أهميةً، والأقل بروزًا في النقاشات الحالية؛ وهو دور الذكاء الاصطناعي كعامل محفز للأنسنة، وكدافع لاستكشاف القدرات غير المستغلة في البشر، وبعبارة أدق؛ كيفية إسهام الذكاء الاصطناعي في إعادة صياغة الحياة والعمل لتبدو أكثر إنسانيةً؟، ويمثل هذا المحور أولوية عاجلة وهامة، ويتطلب التفكير بعمق وحكمة، وخصوصًا بعد أن ظهرت أصواتٌ تنادي بالتعبير عن الذكاء الاصطناعي بصورة بعيدة عن التلميح غير المباشر لآثاره السلبية، فكلمة اصطناعي توحي بأنه أبعد ما يكون عن السمات البشرية، ولكن لو تم استبداله بمصطلح «الذكاء المعزز»؛ فإن الانطباع سوف يتوافق مع موضوع التكامل بين الذكاء البشري والآلات، وفي ذات الوقت، فإن مستوى التقبل الفردي والاجتماعي سيختلف كثيرًا، لأنه يوحي بالدور الفعلي للآلات في سياق تعزيز الذكاء البشري، وإطلاق إمكاناته وقدراته كأداة ضرورية وداعمة في المستقبل القريب والبعيد، وهذا من شأنه أن يتيح العديد من الاعتبارات التي تستحق التأمل، بدءًا بمبررات استخدام الأدوات الذكية مثل المساعد الرقمي، ومدون الملحوظات الافتراضي، وغيرها، إلى ضوابط وأخلاقيات الاستخدام المسؤول للتقنيات المتقدمة بكافة أنواعها.
إن التقدم الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي يتطلب كذلك تسارعًا مماثلًا في حراك الفكر الإنساني، لتطوير الانطباعات السائدة عن أطر التفاعل بين الإنسان والآلة، وإزاحتها عن الحلقات المفرغة التي تنصب حول تعريف المخاطر والمخاوف المحتملة، والتركيز بدلًا عنها في فهم كيفية تحقيق الطموحات في المستقبل إلى أقصى حدودها بالتكامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي، مع تعزيز السمات البشرية وتوظيفها. فكلما تطورت الآلات، برزت المهارات، والقدرات الفريدة التي تميز الذكاء البشري.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التقنیات المتقدمة الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
كم من الأطفال يجب أن يَـقـتُـل الذكاء الاصطناعي؟
في الثامن والعشرين من فبراير 2024، أقـدَمَ سيويل سيتزر الثالث، صبي ذو أربعة عشر ربيعا من فلوريدا، على قتل نفسه تحت إلحاح من إحدى شخصيات الذكاء الاصطناعي الـمُـحاكية للحياة والمولدة بواسطة Character.AI، المنصة التي يُـقال إنها تستضيف أيضا روبوتات دردشة الذكاء الاصطناعي الداعمة لاختلال فقدان الشهية والتي تشجع على أنماط مُـخـتَـلّة في تناول الطعام بين الشباب. من الواضح أن الحاجة ماسة إلى اتخاذ تدابير أكثر قوة لحماية الأطفال والشباب من الذكاء الاصطناعي.
بطبيعة الحال، حتى من الناحية الأخلاقية البحتة، ينطوي الذكاء الاصطناعي على إمكانات إيجابية هائلة، من تعزيز صحة الإنسان وكرامته إلى تحسين الاستدامة والتعليم بين الفئات السكانية المهمشة. لكن هذه الفوائد الموعودة ليست مبررا للاستخفاف بالمخاطر الأخلاقية والتكاليف الواقعية أو تجاهلها. فكل انتهاك لحقوق الإنسان يجب أن يُنظر إليه على أنه غير مقبول أخلاقيا.
فإذا تسبب روبوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي ويحاكي الحياة في وفاة مراهق، فلا يجوز لنا أن نعتبر قدرة الذكاء الاصطناعي على الاضطلاع بدور في تطوير الأبحاث الطبية تعويضا عن ذلك. مأساة سيتزر ليست حالة معزولة. ففي ديسمبر الماضي، رفعت عائلتان في تكساس دعوى قضائية ضد Character.AI وداعمتها المالية، شركة جوجل، زاعمة أن روبوتات الدردشة الآلية التابعة للمنصة استغلت أطفالهم في سن المدرسة جنسيا وعاطفيا إلى الحد الذي أسفر عن وقوع حالات إيذاء النفس والعنف. لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل، فقد ضحينا بالفعل بجيل من الأطفال والمراهقين على مذبح شركات التواصل الاجتماعي التي تستفيد من الإدمان على منصاتها. لم ننتبه إلى الأضرار الاجتماعية والنفسية التي تسببها «وسائط التواصل غير الاجتماعي» إلا ببطء شديد.
والآن، بدأت بلدان عديدة تحظر أو تقيد الوصول إلى هذه المنصات، ويطالب الشباب أنفسهم بضوابط تنظيمية أقوى.
ولكن لا يمكننا الانتظار لكبح جماح قوى التلاعب الكامنة في الذكاء الاصطناعي. فبسبب الكميات الهائلة من البيانات الشخصية التي جمعتها منا صناعة التكنولوجيا، بات بوسع أولئك الذين يعملون على بناء منصات مثل Character.AI إنشاء خوارزميات تَـعرِفنا بشكل أفضل مما نعرف أنفسنا. الواقع إن إمكانية الاستغلال عميقة. فالذكاء الاصطناعي يعلم على وجه التحديد أي الأزرار التي ينبغي له الضغط عليها لاستغلال رغباتنا، أو لحملنا على التصويت بطريقة معينة. كانت روبوتات الدردشة المؤيدة لفقدان الشهية على منصة Character.AI مجرد المثال الأحدث والأكثر فظاعة. ولا يوجد أي سبب وجيه قد يمنعنا من حظرها على الفور. لكن الوقت ينفد سريعا، لأن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي تتطور بشكل أسرع من المتوقع ــ وهي تتسارع في عموم الأمر في الاتجاه الخطأ. يواصل «الأب الروحي للذكاء الاصطناعي»، عالم العلوم الإدراكية الحائز على جائزة نوبل جيفري هينتون، التحذير من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى انقراض البشر: «أخشى أن اليد الخفية لن تُـبقي علينا سالمين. وعلى هذا فإن ترك الأمر برمته لدافع الربح الذي يحرك الشركات الكبرى لن يكون كافيا للتأكد من تطويرها إياه بأمان. الشيء الوحيد الذي قد يجبر هذه الشركات الكبرى على إجراء مزيد من الأبحاث حول السلامة هو التنظيم الحكومي».
ونظرا لفشل شركات التكنولوجيا الكبرى المستمر في الالتزام بالمعايير الأخلاقية، فمن الحماقة أن نتوقع من هذه الشركات أن تضبط نفسها بنفسها. في عام 2024، ضخت شركة جوجل استثمارات قيمتها 2.7 مليار دولار في تطبيق Character.AI، على الرغم من مشاكله المعروفة. ولكن على الرغم من الاحتياج الواضح إلى التنظيم، فإن الذكاء الاصطناعي ظاهرة عالمية، وهذا يعني أننا يجب أن نسعى جاهدين إلى وضع تنظيم عالمي، يرتكز على آلية إنفاذ عالمية جديدة، مثل وكالة دولية للأنظمة القائمة على البيانات (IDA) في الأمم المتحدة، كما اقترحتُ شخصيا.
إن كون الشيء في حكم الممكن لا يعني أنه مرغوب. يتحمل البشر مسؤولية تحديد أي التكنولوجيات والإبداعات وأشكال التقدم يجب تحقيقها وتوسيع نطاقها، وأيها لا ينبغي له أن يتحقق. وتقع على عاتقنا مسؤولية تصميم، وإنتاج، واستخدام، وإدارة الذكاء الاصطناعي بطرق تحترم حقوق الإنسان وتسهل تحقيق مستقبل أكثر استدامة للبشرية والكوكب. يكاد يكون من المؤكد أن سيويل كان ليظل على قيد الحياة لو كنا نعتمد على تنظيم عالمي لتعزيز «الذكاء الاصطناعي» القائم على حقوق الإنسان، ولو كنا أنشأنا مؤسسة عالمية لمراقبة الإبداعات في هذا المجال. يستلزم ضمان احترام حقوق الإنسان وحقوق الطفل حوكمة دورة حياة الأنظمة التكنولوجية بأكملها، بدءا من التصميم والتطوير إلى الإنتاج، والتوزيع، والاستخدام. وبما أننا نعلم بالفعل أن الذكاء الاصطناعي من الممكن أن يَـقـتُـل، فليس لدينا أي عذر يسمح لنا بالبقاء مكتوفي الأيدي في حين يستمر تقدم التكنولوجيا، مع إطلاق مزيد من النماذج غير المنظمة للجمهور كل شهر. مهما كانت الفوائد التي قد توفرها هذه التكنولوجيات يوما ما، فإنها لن تكون قادرة أبدا على التعويض عن الخسارة التي عانى منها بالفعل جميع من أحبوا سيويل.
بيتر ج. كيرششلاغر، أستاذ الأخلاق ومدير معهد الأخلاقيات الاجتماعية (ISE) في جامعة لوسيرن، وأستاذ زائر في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ (ETH Zurich).