تمثل الفترة الزمنية التي أعقبت جائحة كورونا واحدة من اللحظات التاريخية الحاسمة في تاريخ البشرية، حيث قامت التكنولوجيا بفرض أهميتها المحورية في تسيير حياة الإنسان، وعالم الأعمال، وبذلك لم تعد التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي مجرد نتاج ابتكاري؛ ولكنه بمثابة المرآة التي تعكس قدرة العقل البشري على إعادة رسم الحدود بين القدرات العميقة للبشر، وما يمكن تفويضه لهذه الأنظمة الذكية من المهام الروتينية والمتكررة.

والسؤال الأكبر هنا: هل أصبحت السمات البشرية هي أقوى نقاط القوة في عصر صعود الذكاء الاصطناعي؟

تعالوا في البدء نتوقف عند واحدة من أبرز المسارات الفكرية السائدة في جدليات الوقت الراهن، والتي مفادها بأن الذكاء الاصطناعي لوحده لن يحل محل البشر، ولكن الكفاءات البشرية التي تمتلك مهارات توظيف الذكاء الاصطناعي ستحل محل الذين لا يمتلكونها، وهذا ما لاحظناه على أرض الواقع من بعد انحسار جائحة كورونا، فقد تحولت بيئة الأعمال، والمؤسسات نحو الأتمتة بوتيرة أسرع، وأصبح التركيز على التقنيات المتقدمة ضرورة لازمة تحسبًا لأي جائحة، أو ظروف استثنائية في المستقبل، وقد شمل هذا التحول جميع أبعاد العمليات المؤسسية، والقطاعية من حيث أتمتة نماذج التخطيط والتشغيل، وآليات اكتساب القيمة، وطرق التعامل مع الالتزامات الخارجية للشركاء، والمستفيدين، وأصحاب المصلحة، وما تزال هذه المحاور في تطور مستمر بفضل التعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الرقمية. ولهذا السبب تُعد هذه الفترة الزمنية بالغة الأهمية والخطورة في آنٍ واحد؛ فقد لا تكون فقاعة الذكاء الاصطناعي، وموجات التكنولوجيا التحويلية، ومتطلبات التغيير والتكيف في طريقها إلى الانفجار، لكن الحراك الفكري الراهن والذي يدعو إلى التفكير بشكل مُغاير لمستقبل الإنسان والآلة سوف يساعد بلا شك في تفريغها.

فإذا نظرنا إلى جوانب الإمكانات الهائلة للتقنيات المتقدمة مقابل المخاوف المحتملة، سنجد بأن الكثير من المسارات الاستشرافية ترجح بأن الذكاء الاصطناعي قد يُحدث تغييرات «سلبية في الغالب» في عدد من السمات البشرية، إذا ما تواصلت الابتكارات النوعية جهودها التي تستهدف معالجة نقاط الضعف الحالية في أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل الهلوسة، والتحيز المعرفي، وتأتي أربعة من السمات البشرية في مقدمة السمات المهددة بالتغيير، وهي: الذكاء الاجتماعي والعاطفي، والقدرة على التفكير العميق، والتعاطف، واستشعار الحس الأخلاقي. ولكن التحول نحو عالم متكامل ومشترك بين الإنسان والآلة هو أمر لا مفر منه. ولكون هذا التحول حتمي، فإنه ليس يعني بالضرورة أن يكون على حساب السمات البشرية. وفي الجهة الأخرى، تؤكد القراءات الاستشرافية الأكثر تفاؤلًا بأن التقنيات المتقدمة قد تقوم بدور محوري في تعزيز عدد من القدرات البشرية بشكل إيجابي، والتي تشمل سمات الفضول المعرفي، والقدرة على التعلم، واتخاذ القرار، وحل المشكلات، والتفكير الإبداعي والابتكاري. وهذه الفرضيات تضعنا أمام صورتين متضادتين لسيناريوهات الأثر على المدى المستقبلي، والتي تعكس وجود الفجوة في فهم التحديات الأساسية في الجاهزية المعرفية والثقافية للولوج إلى ما يسمى «الفجر الجديد»، وهو عصر الحياة والعمل مع الآلات.

فعندما ظهر الجيل الأول من ابتكارات التكنولوجيا الرقمية، كان التحدي الحقيقي آنذاك تكنولوجيًا. وعليه كان الرهان في تشجيع التعلم المستمر، وبناء العقلية الرقمية في الإدارة، وكانت الفكرة هي أن كل مدير تنفيذي، وكل ممارس بحاجة إلى فهم كيفية عمل هذه التقنيات الذكية ليس من أجل إتقان هندسة الذكاء الاصطناعي أو علم البيانات؛ ولكن لأن العقلية الرقمية قد أصبحت معيارًا لا غنى عنه في إدارة الأعمال، وتنفيذ المهام. ولكن عصر الفجر الجديد ليس بحاجة إلى بناء القدرات التقنية، فهو يتطلب إعادة صياغة القناعات الراسخة بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة الأخرى، والخروج من الحدود التقليدية التي تركز على الفوائد والمخاطر وحسب، والبدء بطرح أسئلة أكثر عمقًا، وشمولًا، وحيادية، وكذلك أكثر وعيًا بالتداعيات المستقبلية. وبالتالي فإن التحديات التي تواجه البشرية هي إما ثقافية أو تنظيمية، ولكنها ليست تقنية كما يراه الكثيرون. فقادة التكنولوجيا يتحدثون حاليًا عن فرص دمج تقنيات، وأدوات علوم البيولوجيا مع الذكاء الاصطناعي، وذلك لتعزيز الاستجابات الشبيهة بالإنسان، وهذا من شأنه أن يمنح هذه التقنيات قدرًا من الوعي، والذكاء العاطفي، مما يؤكد بأنه لم يُعد تبني التقنيات مسألة اختيار في ظل تنامي معضلة الأميَّة الرقمية، وبأن المستقبل القريب سوف يحمل أشكالًا وأدوارًا مختلفة للذكاء الاصطناعي، ويخلق أنماطًا غير مألوفة للتفوق التكنولوجي.

وهذا يقودنا إلى المحور الأكثر أهميةً، والأقل بروزًا في النقاشات الحالية؛ وهو دور الذكاء الاصطناعي كعامل محفز للأنسنة، وكدافع لاستكشاف القدرات غير المستغلة في البشر، وبعبارة أدق؛ كيفية إسهام الذكاء الاصطناعي في إعادة صياغة الحياة والعمل لتبدو أكثر إنسانيةً؟، ويمثل هذا المحور أولوية عاجلة وهامة، ويتطلب التفكير بعمق وحكمة، وخصوصًا بعد أن ظهرت أصواتٌ تنادي بالتعبير عن الذكاء الاصطناعي بصورة بعيدة عن التلميح غير المباشر لآثاره السلبية، فكلمة اصطناعي توحي بأنه أبعد ما يكون عن السمات البشرية، ولكن لو تم استبداله بمصطلح «الذكاء المعزز»؛ فإن الانطباع سوف يتوافق مع موضوع التكامل بين الذكاء البشري والآلات، وفي ذات الوقت، فإن مستوى التقبل الفردي والاجتماعي سيختلف كثيرًا، لأنه يوحي بالدور الفعلي للآلات في سياق تعزيز الذكاء البشري، وإطلاق إمكاناته وقدراته كأداة ضرورية وداعمة في المستقبل القريب والبعيد، وهذا من شأنه أن يتيح العديد من الاعتبارات التي تستحق التأمل، بدءًا بمبررات استخدام الأدوات الذكية مثل المساعد الرقمي، ومدون الملحوظات الافتراضي، وغيرها، إلى ضوابط وأخلاقيات الاستخدام المسؤول للتقنيات المتقدمة بكافة أنواعها.

إن التقدم الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي يتطلب كذلك تسارعًا مماثلًا في حراك الفكر الإنساني، لتطوير الانطباعات السائدة عن أطر التفاعل بين الإنسان والآلة، وإزاحتها عن الحلقات المفرغة التي تنصب حول تعريف المخاطر والمخاوف المحتملة، والتركيز بدلًا عنها في فهم كيفية تحقيق الطموحات في المستقبل إلى أقصى حدودها بالتكامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي، مع تعزيز السمات البشرية وتوظيفها. فكلما تطورت الآلات، برزت المهارات، والقدرات الفريدة التي تميز الذكاء البشري.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التقنیات المتقدمة الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

وزير الري: نستخدم الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد المائية

أكد الدكتور هاني سويلم، وزير الموارد المائية والري، أن مصر تشهد تحولًا نوعيًا في إدارة الموارد المائية، لمواجهة التحديات المتصاعدة الناتجة عن الزيادة السكانية وتغير المناخ.

كلمة وزير الري

وقال “سويلم”، في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية لأسبوع القاهرة للمياه الذي يعقد تحت شعار الحلول المبتكرة من أجل القدرة على الصمود أمام التغيرات المناخية واستدامة الموارد المائية، المُذاع عبر شاشة “إكسترا نيوز”، إن المرحلة الحالية تمثل "جيلًا ثانيًا" من إدارة المياه، أكثر مرونة وابتكارًا، يجسد انتقال مصر من الإرث التاريخي إلى الريادة المستقبلية، ومن الخبرة المتوارثة إلى الإدارة الذكية المعتمدة على أحدث الوسائل العلمية والتكنولوجية.

وأضاف سويلم أن هذا التحول يتم عبر دمج التكنولوجيا الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات الاستشعار عن بُعد في منظومة إدارة المياه، بهدف رفع كفاءتها وتوظيفها لخدمة القطاعات المختلفة في الدولة.

وأوضح أن الوزارة تسعى من خلال هذا النهج إلى تعزيز الاستخدام الأمثل للموارد المائية وتحسين إدارة المنظومة المائية بما يواكب التغيرات العالمية، مؤكدًا أن مصر ماضية في مسيرة التطوير من "مدرسة الري المصرية" العريقة إلى منظومة ري ذكية تواكب المستقبل.

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يحاول إقناع المستخدمين بمواصلة المحادثة
  • كيف يمكن أن تتفوق الصين في سباق الذكاء الاصطناعي؟
  • وادي السيليكون يخشى انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي سرّع تفشّيها.. كيف تميّز بين الحقائق والمعلومات المضللة؟
  • خبراء صحة: الذكاء الاصطناعي يخلق شعورا بالتشويس النفسي
  • وزير الري: نستخدم الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد المائية
  • جوجل تعيد ابتكار البحث بالصور عبر الذكاء الاصطناعي
  • د. هبة عيد تكتب: المزحة التي خرجت عن السيطرة.. عندما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى فوضى رقمية
  • هل اقتربنا من سيناريوهات انفجار الذكاء الاصطناعي؟
  • وكيل «الصحة»: ملتقى الصحة العالمي يستعرض التقنيات المتقدمة لتحسين الرعاية