احتفظ حكام سبأ الأوائل بلقب المكرب (تُنطق بضم الميم وفتح الكاف وتشديد الراء)، وهو مصطلح مشتق من اللغة اليمنية القديمة من أصل الفعل (كرب) الذي يعني جمع أو حشد، مما يجعل المُكَرّب بمثابة المُوّحد ، الذي يتولى رئاسة الأحلاف القبلية، بخلاف الملك الذي يحكم قبيلة واحدة.
بداية ظهور حكم المكربين
ظهر نظام المكربين في معظم الدول اليمنية القديمة، مثل حضرموت وقتبان وأوسان، وسبأ، قبل أن ينتقل الحكم تدريجيا إلى نظام الملوك، لكن تفاصيل نشأته الأولى لا تزال غامضة، حيث تتباين التقديرات حول الفترة الزمنية التي حكم فيها المكربون.
ينتمي كرب إل وتر إلى سلالة حاكمة عريقة، فهو ابن ذمر علي وتر، وحفيد كرب إل، ويتألف اسمه، وفق القاموس السبئي، من ثلاثة مقاطع: “كرب”: تعني البركة أو النعمة “إل” أو “إيل”: تعني الإله أو المعبود “وتر”: تشير إلى الزيادة أو التعظيم وبناءً على ذلك، يفسّر الشرجبي اسمه بأنه يعني “من يصلي إلى الإله كثيرًا” أو “من أوقف نفسه لعبادة الإله”، مما يعكس الطابع الديني العميق لحكمه. تشير بعض المصادر إلى أن كرب إل وتر حكم خلال الفترة بين 620 و600 ق.م، حيث قضى العقد الأول من حكمه بلقب “المكرب”، قبل أن يتحول إلى ملك في العقد الأخير، وهو ما يعكس تطور النظام السياسي من الحكم القبلي الاتحادي إلى الملكية المركزية.
صلاحيات المكربين ودورهم السياسي والديني
وفقا للنقوش المسندية، كان المكرب الحاكم الأعلى في الدولة السبئية، يتولّى إدارة الشؤون السياسية، وسنّ القوانين، وإصدار التشريعات، كما كان قائدا عسكريا يقود الحملات الحربية لتوسيع نفوذ سبأ، فضلا عن دوره في تعزيز العقيدة السبئية، ويُمكن ملاحظة هذا الدور في نقوشه التي تدل على ذلك وتقوم على ثالوث مقدس: “الإله – الحاكم – الشعب”. أما في الجانب الديني، فقد مارس المكربون طقوسا مقدسة، مثل الصيد المقدس، حيث كانوا يقدّمون القرابين للآلهة عبر اصطياد حيوانات مقدسة. وعلى الرغم من أن الإله المقه كان المعبود الرئيسي في سبأ، إلا أن كرب إل وتر لم يفرضه على جميع المناطق، بل ترك لكل منطقة حرية ممارسة عبادتها الخاصة.
المشاريع العمرانية والإصلاحات الاقتصادية
شهد عهد كرب إل وتر ازدهارا اقتصاديا وحضاريا، من خلال تنفيذ المشاريع المعمارية الكبرى كمنشآت الري، والقصور، والمعابد والقلاع والأسوار، كما تذكر د. أسمهان الجرو، أستاذة التاريخ القديم بجامعة عدن، في كتابها “دراسات في التاريخ الحضاري لليمن القديم”، بالإضافة إلى مشاريع إصلاح الأراضي الزراعية وشق قنوات الري، مما أدى إلى تحسين الإنتاج الزراعي وتعزيز اقتصاد الدولة. والسؤال المستوحى من هذه التجربة: ماذا قدّم أولئك الذين يحكمون اليوم للشعب، وكيف سيخلّدهم التاريخ؟
توحيد اليمن تحت سلطة واحدة
منذ القرن الثامن قبل الميلاد، بدأت ملامح الدولة السبئية الموحدة تتبلور، فتحوّلت من مجرد اتحاد قبلي إلى كيان سياسي متكامل بفضل أربعة عوامل تذكرها الجرو وهي:
1-تطور الملكية الخاصة وتعدد أشكالها.
2-بناء المدن والعواصم والمراكز الإدارية.
3- إنشاء المعابد ومنشآت الري العظيمة.
4- بروز قوة عسكرية منظمة.
وقد عمل كرب إل وتر على توحيد البلاد تحت سلطة واحدة وإنهاء عصر الدويلات المستقلة من خلال نهج يجمع بين السلمي والعسكري، ففي الأول أقام تحالفا مع اتحاد قبائل سمعي في شمال الرحبة، وفي الثاني أخضع مملكة أوسان، التي كانت تشكل منافسا سياسيا، بالقوة وضم أراضيها.
بعد ذلك، انتهج سياسة جديدة تقوم على المؤاخاة والتعاون الوثيق بين أركان الدولة الثلاث؛ الإله، والملك والشعب، لضمان استقرار الدولة سياسيا واجتماعيا، ويتجلى ذلك في نقشه الذي يقول:”هذه هي المدن والأقاليم التي ملكها كرب إل وتر بن ذمر علي مكرب سبأ- في فترة حكمه للإله المقه ولسبأ عندما نظم كل قبيلة فجعل لكل منها إلها وحامياً وميثاقا وعهداً، وذبح للإله عثتر الذبائح (كقربان)، وأنار موضع (ترح)..”.
كان الدافع الأبرز وراء الحملات العسكرية التي قادها كرب إل وتر، هو توحيد البلاد، ليس لمجرد تعزيز قوة دولته، وهو هدف مشروع ومفهوم، بل لإيمانه العميق بأن الوطن لا ينهض إلا بوحدته، فالوحدة كانت الركيزة الأساسية للتطور والازدهار، ويمكن فقط تخيّل كيف كان سيكون حال اليمن آنذاك لو لم يوحدها تحت راية دولة واحدة، أصبحت لاحقًا من أعظم وأقوى الحضارات.
إن الحفاظ على الثوابت الوطنية مسؤولية النخب أيضا، وكما أن الدفاع عن الجمهورية يُعد موقفا وطنيا، فإن الأمر ذاته ينطبق على الوحدة، التي تستدعي موقفا سياسيا وأخلاقيا واضحا، وهذه رسالة ينبغي أن يدركها من يطلقون على أنفسهم “الأقيال”، خاصة أولئك الذين يلتزمون الصمت أو يتخذون مواقف باهتة تجاه الوحدة، في حين أنهم الأجدر باستلهام تجربة المكرب كرب إل وتر والدفاع عن إرثه، ونتحدث هنا عن مواقف سياسية لا أكثر.
لقد أسهم عهد المكربين، وبالأخص فترة حكم كرب إل وتر، في وضع الأسس التي قامت عليها الدولة السبئية الموحدة، انتقل فيها اليمن من تحالفات قبلية متفرقة إلى كيان سياسي مركزي قوي، استطاع أن يفرض سيطرته بفضل مزيج من التحالفات السلمية، القوة العسكرية، والإصلاحات الاقتصادية في سبأ التي ستظل واحدة من أعظم الحضارات التي شهدتها الجزيرة العربية.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةالمتحاربة عفوًا...
من جهته، يُحمِّل الصحفي بلال المريري أطراف الحرب مسؤولية است...
It is so. It cannot be otherwise....
It is so. It cannot be otherwise....
سلام عليكم ورحمة الله وبركاتة...
المصدر: يمن مونيتور
إقرأ أيضاً:
اليمن الموحد.. ذكرى تتحدى الانقسامات وتستدعي الدولة الفيدرالية
يمن مونيتور/ رصد خاص
في الذكرى الـ35 لليوم الوطني لليمن الموحد (22 مايو 1990)، يعيد اليمنيون الإحياء بهذا اليوم التاريخي العظيم، الذي حولته الحرب والأزمات وصراع الساسة والحكومات المتعاقبة طوال عقود من الزمن من حلمٍ ثوري إلى واقعٍ مُثقل بالأزمات والمعاناة والصراع المتشابك.
وبين تأكيد التمسك بالثوابت الاتحادية، وتحذيرات من انهيارٍ معيشي غير مسبوق، يبرز السؤال: هل يُمكن لليمنيّ اليوم الاحتفاء بالوحدة بينما يعيش نصف شعبه تحت سطوة الانقلاب؟
الوحدة “مشروع هوية”
وفي إحياء ذكراها، اختار نائب الرئيس السابق علي محسن الأحمر أن يعيد تشكيل السردية التاريخية للوحدة، ليس كحدثٍ سياسي فحسب، بل كـ”مشروع هوية” نضالي تكرّس عبر دماء اليمنيين من تعز إلى حضرموت.
ووصف الأحمر وحدة مايو 1990 بأنها “تتويج لتاريخ مشترك”، مشيرًا إلى أن تلاحم اليمنيين ضد الإمامة والاستعمار كان النواة الأولى للوحدة، قائلًا: “لم تكن الوحدة وليدة لحظة، بل حصيلة دماء سالت في تعز وصنعاء وعدن.. حين كانت هذه المدن مراكزَ بديلة لبعضها أثناء حصار السبعين يومًا، فلم يسقط حلم الوحدة حتى مع تهديد سقوط العاصمة”.
استحضر الأحمر بيت الشاعر الراحل حسين أبوبكر المحضار: “وحده، وبالوحدة لنا النصر مضمون”، مؤكدًا أن النصر هنا ليس عسكريًا بل “انتصارًا للهوية الجامعة” التي رفضت التشظي رغم الحروب.
وأشار الأحمر إلى “مفارقة تاريخية”، حيث نشأ مجلس التعاون الخليجي في ذات الحقبة التي تحققت فيها الوحدة اليمنية، لكنه استمر بينما فشلت تكتلات عربية أخرى، معللًا ذلك بـ: “السرّ يكمن في الرؤية العملية وحكمة التكامل التي تميزت بها دول الخليج، بينما غرقت مشاريع عربية في الخطاب الشعاراتي”.
وحذّر الأحمر من أن مستقبل اليمن مرهون بـ”تكامل ثلاثي صنعاء-عدن-تعز”، معتبرًا إياها – إلى جانب حضرموت – “قلاعًا للهوية الوطنية”، قائلًا: “لا أمن ولا تنمية دون إعادة الاعتبار لهذه المدن كـرافعات للدولة.. ففي تلاحمها تاريخيًا دليلٌ على أن الجغرافيا اليمنية وحدةٌ لا تقبل القسمة”.
الوحدة ليست شعار بل عقد اجتماعي
في السياق، قال محافظ شبوة السابق محمد صالح بن عديو، إن ذكرى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية تأتي هذا العام في ظل معاناة متزايدة للشعب اليمني، بين آثار الحرب، وانكماش حضور الدولة، والانهيار الاقتصادي، وغياب الخدمات. وأكد أن هذا الواقع يتطلب موقفاً وطنياً مسؤولاً من الجميع.
وأشار إلى أن الثاني والعشرين من مايو 1990 شكّل حدثاً مفصلياً في تاريخ اليمن، إذ تحقق فيه حلم الوحدة بعد سنوات من النضال، رغم ما شابها من إخفاقات، إلا أنها تظل المشروع الأقدر على جمع اليمنيين، متى تم تصحيح أخطاء الماضي.
وأضاف أن الوحدة ليست مجرد شعار أو مناسبة، بل عقد اجتماعي يمثل تطلعات اليمنيين، ويجب أن يُبنى على أسس العدالة والمواطنة المتساوية، بعيداً عن الوصاية أو النزعات السلالية والمناطقية.
“إشراقة في سماء الوطن”
بدوره، وصف فهد كفاين، وزير الثروة السمكية اليمني السابق، الوحدة اليمنية بأنها “إشراقة ساطعة” شكلت أهم حدث في تاريخ اليمن الحديث، معتبرًا إياها حلمًا تحقق بجدارة الشعب بعد عقود من النضال ضد التشطير.
وأكد في منشور على صحته بـ”فيسبوك”، أن الوحدة كانت “ولادة تاريخية” جمعت اليمنيين من مختلف المناطق، وفتحت باب الأمل لبناء دولة عصرية تعكس عظمة الشعب وتراثه وتنوعه.
وأشار كفاين إلى أن الحدث الاستثنائي واجه عقبات منذ البداية، حيث فاقت تحدياته قدرة النظام الحاكم آنذاك على إدارتها، مما أدى إلى انتشار الخلل وتراجع الإنجازات.
وانتقد تحويل الوحدة من “قيمة وطنية نقية” إلى أداة للصراعات السياسية والطائفية، قائلًا: “حُمّل النور تبعات الظلام، وتحولت الوحدة إلى مطية للطمع والحرب بدلًا أن تكون أساسًا للأمان والشراكة”.
وشدد على أن الوحدة ليست ملكًا لفصيل أو منطقة، بل هي “هوية واختيار جماعي” لا يقبل المزايدة أو المراهنة. ودعا إلى التوقف عن لوم الأطراف المختلفة، والبدء بحوار قائم على الاحترام المتبادل وقبول الاختلاف. وقال: “نحتاج اليوم إلى تنازلات وتضامن لاستعادة ثقة فقدناها، فبدونها سنخسر الوطن معًا”.
وحذّر من استمرار الانقسامات والصراعات التي تزيد الضعف والبؤس، مؤكدًا أن الحل يكمن في العودة إلى “نقاء لحظة الوحدة الأولى”، حيث اجتمع اليمنيون حول هدف مشترك.
واختتم بالقول: “الأنوار لا تسطع إلا من النقاء.. فلنكفّ عن الجدالات العقيمة، ولنعمل معًا لإنقاذ ما تبقى من أمل”.
تفاعلات واسعة على مواقع التواصل بمناسبة ذكرى الوحدة
احتفاءً بالذكرى الـ35 لتحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، تفاعل نشطاء وإعلاميون وسياسيون على منصات التواصل الاجتماعي مع هذا الحدث التاريخي، مؤكدين مكانته الراسخة رغم التحديات الراهنة، لا سيما في ظل الحرب المستمرة والانقلاب الحوثي الذي يشهده اليمن.
الوحدة واقع ثابت والخلافات هوامش
وعلى منصة “إكس”، وصف الصحفي والكاتب عبدالله دوبلة الوحدة اليمنية بأنها “واقع وحقيقة ثابتة”، معتبرًا التحديات الحالية، بما في ذلك الصراع مع الحوثيين والمطالبات الانفصالية، مجرد “هوامش في حدث كبير ما يزال يتطور”. وأضاف في تعليقه: “كل الاشكالات الراهنة تفاصيل صغيرة أمام عظمة الوحدة التي صنعها اليمنيون بإرادتهم”.
إرادة الشعب حققت الحلم
من جهته، أكد مختار الرحبي، مستشار وزير الإعلام، أن الوحدة اليمنية كانت “حلمًا تحقق بإرادة أبناء الشمال والجنوب”، مشيرًا إلى أنها “ستظل الركيزة الأساس لبناء دولة يمنية عادلة وقوية، قادرة على تجاوز الأزمات وترسيخ الاستقرار”.
22 مايو يوازي عهد سيف بن ذي يزن
أما الدبلوماسي علي العمراني، فربط الحدث بتاريخ اليمن العريق، قائلًا: “22 مايو هو أعظم أيام اليمنيين منذ عهد الملك سيف بن يزن الحميري، الذي وحّد العرب من عاصمته صنعاء قبل أكثر من 1500 عام”. وأضاف: “هذا اليوم يجسّد استمرارية النضال اليمني نحو الوحدة والعزة”.
الشكر للمتمسكين بالجمهورية
عبر عضو مجلس القيادة الرئاسي، طارق صالح، عن تقديره “لكل يمني تمسك بجمهوريته ورفض سطوة المشاريع الطائفية”، في إشارة إلى الحوثيين. وأكد في منشوره على منصة “إكس” أن “اليمنيين متمسكون بهويتهم الوطنية والدينية رغم عنف المليشيات”، داعيًا إلى “حماية الإرث الوحدوي من محاولات التشويه”.
الوحدة طوق النجاة من الإمامة والتقسيم
بدوره، أجاب وزير الثقافة الأسبق، خالد الرويشان، على سؤال “لماذا نحتفل ب22 مايو؟” بالقول: “نحتفي بهذا اليوم لأن الوحدة السبيل الوحيد لاستعادة الجمهورية ومستقبلنا”.
وحذّر من أن “تقسيم اليمن يعني السقوط في فخ الإمامة والانتحار السياسي”، مستشهدًا بتوحيد أوروبا رغم تنوعها، ومؤكدًا أن “التاريخ اليمني الممتد 4000 عام يؤكد أن الوحدة هي أساس عروبة اليمن وقوته”.
وأضاف: “الصغار فقط من يريدون تقسيم اليمن، أما نحن فنحبّه كبيرًا موحدًا… 22 مايو هو طوق النجاة لشعبنا، والحفاظ عليه يعني الحفاظ على كرامتنا واستقرارنا”.
وتوكد هذه التفاعلات لتؤكد رسالة مشتركة مفادها أن الوحدة اليمنية، رغم محاولات إضعافها، تبقى “إشراقة لا تنطفئ”، كما عبّر مغردون. وفي خضم الأزمات، يبدو الحدث التاريخي مناسبة لإعادة التذكير بأن “اليمن الكبير كان، وسيبقى، عنوانًا لشعب رفض أن يكون ضحية للصراعات الضيقة والمشاريع المشبوهة التي لم تفهم يوما معني الدولة أو تمثيلها”، وفق تعليقات شاركها آلاف النشطاء.