ما سر الضوء الخافت في العقل البشري؟
تاريخ النشر: 27th, June 2025 GMT
سان فرانسيسكو"د ب": الضوء سر من أسرار الحياة، وعنصر رئيسي لضمان استمرارية مختلف الأنظمة البيئية على الأرض، بل أن بعض الأنواع الحية مثل الديدان والأسماك تشع بالضوء من تلقاء نفسها. ويفسر العلماء هذه الظاهرة بما يطلق عليه اسم "الفوتونات الحيوية" وهي جسيمات مضيئة تنبعث كناتج للعمليات الكيميائية الحيوية وتقترن بتوليد الطاقة داخل الخلايا الحية.
وفي هذا الإطار، توصل فريق بحثي كندي إلى أن المخ البشري يشع بضوء خافت أثناء عملية التفكير، بل وأن انبعاث الفوتونات الحيوية تتغير طبيعته أثناء أداء العمليات المعرفية المختلفة داخل العقل. ورغم أن العلاقة بين انبعاث هذا الضوء الخافت داخل المخ وبين الأنشطة المعرفية ليست واضحة تماما، يعتقد الباحثون من جامعة ويلفريد لاورير في مدينة أونتاريو الكندية أن تلك الجسيمات المضيئة تلعب دورا مهما في وظائف المخ المختلفة.
وتقول رئيسة فريق الدراسة نيروشا موروجان المتخصصة في علوم الفيزياء الحيوية أن علماء معنيين بدراسة الأنسجة الحية، بما في ذلك الخلايا العصبية، رصدوا انبعاثات ضعيفة من الضوء ناجمة عن تكون بضع عشرات إلى عدة مئات من الفوتونات داخل عينات من الأنسجة الحية بحجم سنتيمتر مربع في الثانية الواحدة داخل أوعية الاختبار المعملية.
ومنذ القرن الماضي، يعتقد علماء الأحياء أن الجسيمات المضيئة الحيوية تلعب دورا في التواصل بين الخلايا، وفي عام 1923، أثبت العالم الروسي ألكسندر جورويتش أن وضع حواجر لحجب الفوتونات داخل جذور البصل يمنع نمو النبات، وقد أكدت العديد من الدراسات خلال العقود الماضية أن الفوتونات الحيوية تلعب بالفعل دورا في التواصل الخلوي، وتؤثر على نمو وتطور الكائنات الحية.
ومن هذا المنطلق، شرعت موروجان وفريقها البحثي في تتبع هذه الظاهرة في العقل البشري وتقصي أسبابها عن طريق قياس كمية الفوتونات التي تبعث من المخ أثناء العمل. وفي إطار التجربة التي نشرتها الدورية العلمية iScience، ارتدى عشرون متطوعا أغطية رأس مزودة بأقطاب لتسجيل النشاط الكهربائي للمخ، وتثبيت أنابيب خاصة على الرأس لتضخيم أي انبعاث للجسيمات الضوئية أثناء التفكير، مما يتيح إمكانية رصدها.
ووجد الباحثون أن عناقيد الفوتونات المضيئة تتركز في منطقتين أساسيتين من المخ وهما الفصوص القذالية في الجزء الخلفي من الرأس، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة الصور البصرية داخل المخ، وفي الفصوص الصدغية على جانبي الرأس، وهي الجزء المسؤول عن معالجة الأصوات. وتقول موروجان في تصريحات للموقع الإلكتروني "ساينتفيك أمريكان" المتخصص في الأبحاث العلمية إن "أول نتيجة لهذه التجربة هي أن الفوتونات تنبعث فعلا من المخ، وتحدث هذه العملية بشكل مستقل، وهي ليست خداع بصري ولا عملية عشوائية".
واتجهت موروجان بعد ذلك لقياس ما إذا كانت كثافة هذه الانبعاثات تتغير مع اختلاف العملية المعرفية التي يقوم بها المخ. ونظرا لأن المخ عضو يتسم بالشراهة من ناحية التمثيل الغذائي، فقد افترضت أن كثافة الجسيمات المضيئة التي تنبعث منه سوف تزداد كلما انخرط المخ في أنشطة معرفية تتطلب كميات أكبر من الطاقة مثل معالجة الصور البصرية.
ووجد الباحثون أن التغيرات في كمية الجسيمات المضيئة ترتبط بتغير الوظيفة المعرفية التي يقوم بها المخ، مثلما ما يحدث عن اغلاق العين ثم فتحها مرة أخرى على سبيل المثال، وهو ما يشير إلى وجود علاقة ما بين التحولات في العمليات المعرفية التي يقوم بها العقل وبين كميات الفوتونات الحيوية التي تنبعث منه.
وتطرح هذه التجربة مزيدا من التساؤلات بشأن الدور الذي تقوم به الجسيمات المضيئة داخل العقل. ويقول مايكل جرامليش اخصائي الفيزياء الحيوية في جامعة أوبورن بولاية ألاباما الأمريكية في تصريحات لموقع "أمريكان ساينتفيك": "اعتقد أنه مازال هناك الكثير من أوجه الغموض التي يتعين سبر أغوارها، ولكن السؤال الجوهري هو هل تمثل الجسيمات المضيئة آلية نشطة لتغيير النشاط العقلي؟ أم أن دورها يقتصر على تعزيز آليات التفكير التقليدية".
ويتساءل الباحث دانيل ريمونديني اخصائي الفيزياء الحيوية بجامعة بولونيا الإيطالية بشأن المسافة التي يمكن أن تقطعها الفوتونات الحيوية داخل المادة الحية، حيث أن الإجابة على هذا السؤال قد تسلط الضوء على العلاقة بين الوظائف العقلية وانبعاث الفوتونات في أجزاء مختلفة من المخ. وتريد موروجان وفريقها البحثي استخدام أجهزة استشعار دقيقة لرصد مصدر انبعاث الفوتونات داخل المخ، ويعكف فريق بحثي من جامعة روشستر في نيويورك على تطوير مسبارات متناهية الصغر لتحديد ما إذا كانت الألياف العصبية داخل المخ يمكن أن تنتج تلك الجسيمات المضيئة.
وبصرف النظر عما إذا كان الضوء الخافت الذي ينبعث بانتظام من المخ يرتبط بالوظائف العقلية أو لا، فإن تقنية قياس حجم الجسيمات الحيوية المضيئة وعلاقتها بالإشارات الكهربائية للمخ، Photoencephalography، قد تصبح يوما ما وسيلة مفيدة لعلاجات المخ غير التدخلية. ويقول جرامليش: "اعتقد أن هذه التقنية سوف يتم تعميمها على نطاق واسع خلال العقود المقبلة حتى إذا لم يتم إثبات صحة النظرية بشأن الدور الذي تلعبه الفوتونات في دعم الأنشطة العقلية".
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: داخل المخ من المخ
إقرأ أيضاً:
رحيل صنع الله إبراهيم.. صوت الغضب والذاكرة الحية للأدب المصري
ودعت الأوساط الأدبية والثقافية، اليوم الكاتب والروائي الكبير صنع الله إبراهيم، الذي رحل عن عالمنا عن عمر ناهز 88 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا إبداعيًا سيظل حاضرًا في ذاكرة الأدب العربي.
برحيله، تخسر الثقافة المصرية صوتًا حرًا ظل وفيًّا لقضايا مجتمعه، وشاهدًا صادقًا على تحولات مصر السياسية والاجتماعية لعقود طويلة.
النشأة والبدايات
وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937 لأسرة متوسطة، وتلقى تعليمه في مدارس العاصمة قبل أن يلتحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، في شبابه المبكر، انخرط في العمل السياسي ضمن الحركة الشيوعية المصرية، وهو ما قاده للاعتقال عام 1959 وقضاء خمس سنوات في السجن، تلك التجربة القاسية لم تكسر إرادته، بل صقلت وعيه النقدي وشكّلت رؤيته الأدبية التي ستظهر لاحقًا في أعماله.
البداية الأدبية وتجربة السجن
بعد خروجه من السجن، أصدر روايته الأولى "تلك الرائحة" عام 1966، والتي جاءت صادمة في لغتها وبنيتها، كاشفة بجرأة عن الواقع الاجتماعي والسياسي بعد هزيمة الأحلام الكبرى، أثارت الرواية جدلًا واسعًا وقت صدورها، لكنها كرّسته كصوت مختلف لا يهادن، ومنذ ذلك الحين، أصبح اسمه مرتبطًا بالكتابة التجريبية الممزوجة بالتوثيق والجرأة السياسية.
أسلوب الكتابة وملامح الإبداع
جمع صنع الله بين الحس الصحفي والخيال الروائي، مستفيدًا من عمله السابق في وكالة أنباء الشرق الأوسط، حيث أدخل الإحصاءات والوثائق والأحداث الحقيقية في نسيج رواياته، لغته كانت مباشرة، مشحونة بالسخرية المرة، وأبطاله غالبًا من المهمشين والفقراء، ما جعل أعماله مرآة تعكس وجوه المجتمع المخبأة.
أهم أعماله
من أبرز رواياته اللجنة (1981) التي رصدت آليات البيروقراطية القمعية، وبيروت بيروت (1984) التي وثقت الحرب الأهلية اللبنانية، وذات (1992) التي قدّمت بانوراما للمجتمع المصري من عهد السادات حتى نهاية الثمانينيات، وشرف (1997) التي تناولت عالم السجون والفساد، وأمريكانلي (2003) التي وجّه فيها نقدًا لاذعًا للسياسة الأمريكية، تنوعت موضوعاته بين المحلي والعالمي، لكن ظلت السياسة وخطاب المقاومة حاضرين في كل نص.
الجوائز والتكريمات
رغم مواقفه النقدية الحادة، حظي بتقدير واسع، ونالت أعماله ترجمات إلى عدة لغات، حصل على جوائز عربية ودولية، منها جائزة كافكا في النمسا عام 2004، وجائزة سلطان العويس الثقافية عام 2016، لكنه ظل يؤكد أن أعظم تكريم له هو تفاعل القراء مع كتاباته.
إرثه الأدبي
يُعد صنع الله إبراهيم “شاهد عصر” بامتياز، حيث سجّلت رواياته تحولات المجتمع المصري منذ الخمسينيات حتى اليوم، أسلوبه التوثيقي جعل من كتبه مصادر موازية للتاريخ، ودرست أعماله في الجامعات كمراجع في الأدب العربي الحديث.
خاتمة
برحيل صنع الله إبراهيم، فقدت مصر أحد أكثر كتّابها صدقًا وجرأة، ورحل صوت ظل يذكّرنا بأن الأدب ليس ترفًا، بل سلاحًا لكشف الحقيقة، ستظل كتبه حاضرة كوثائق أدبية، تحمل غضبه النبيل وحرصه على أن تبقى الذاكرة مفتوحة على الجرح، حتى لا يتكرر. وكما قال في إحدى مقابلاته: "الكاتب الحقيقي هو الذي يظل واقفًا في وجه الريح، حتى لو كان وحده".