محمد أنور البلوشي

كان هناك زمنٌ كانت فيه الدنيا تنبض بفكر العرب، زمن كانت فيه رائحة الحبر والورق تعبق أزقَّة القاهرة وبغداد ودمشق وفاس. في تلك القرون الذهبية، كان الكتاب خبز الناس، وكان الجدل العلني أكسجين الحياة. كان العلماء والشعراء يتجولون في الطرقات، من أزقة باب المعظم في بغداد، حيث كانت الكتب تملأ كل زاوية، إلى مقاهي القاهرة حيث صدى صوت طه حسين يشعل العقول ويُلهم الأجيال.

الماضي العربي زاهر بأسماء لا تزال أفكارها تتردد عبر الزمن. طه حسين من مصر "عميد الأدب العربي"، تحدّى السائد وفتح دروبًا جديدة للفكر النقدي والإنسانية. كان يؤمن بتحرير العقل، داعيًا العرب للانتقال من مجرد التقليد إلى الإبداع الحقيقي. وتوارث هذا النهج الكثير من أبناء الفكر إن لم يكن بالاسم فبالروح.

ومن مصر أيضًا، ظل نصر أبو زيد رمزًا للحرية الفكرية، فقراءته الجريئة للنص الديني أودت به إلى المنفى، لكنه بقي أيقونة في الدفاع عن حق التفكير المستقل.

أما في العراق، فقد مزّق علي الوردي قشرة التجميل عن واقع المجتمع، محللًا تناقضاته النفسية والاجتماعية، كاشفًا أمراض البنية التي تُثقل كاهل المجتمعات العربية، وداعيًا إلى المصارحة مع الذات، وهي شجاعة نادرة في كل عصر.

ومن الجزائر جاءنا مالك بن نبي بمفهومه العميق عن "القابلية للاستعمار"، محذرًا من أن الاستعباد الحقيقي يبدأ عندما يستسلم العقل للخمول والقَدَرية. دعوته لم تقتصر على التحرر السياسي، بل نادى بنهضة الروح النقدية والعودة إلى الحوار مع الذات والمجتمع.

وفي المغرب، قضى محمد عابد الجابري عمره في مساءلة بنية العقل العربي، باحثًا عن التوازن بين الأصالة ومتطلبات العصر. ولا يزال كتابه "نقد العقل العربي" حاضرًا في جدالات الإصلاح والديمقراطية والهوية.

أما السودان، فقد حمل عبدالله أحمد النعيم الفكر إلى آفاق العالمية، مستخدما علمه لسد الفجوة بين التراث الإسلامي وحقوق الإنسان العالمية، مؤكدًا أن الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى شجاعة فكرية، وإلى مواجهة التعصب الداخلي كما التحامل الخارجي.

واليوم، حين نبحث عن العقل العربي، كثيرًا ما نصطدم بالصمت، أو نسمع همسات يبتلعها صخب الصراعات السياسية وقلق الاقتصاد وطوفان التسلية السطحية. تضاءل عدد أكشاك الكتب في باب المعظم، وهدأت الجدالات التي كانت تعصف بمقاهي القاهرة وقاعات المحاضرات.

ماذا حدث لذاك العصر الأسطوري حين كان عامة الناس يفخرون بانخراطهم في الفكر والأدب؟ هل نسينا أن شوارع بغداد كانت مفروشة بالكتب، وأن كل عالم كان منارة أمل لمجتمعه؟

اليوم، يعيش العقل العربي حالة توتر. في بعض الزوايا، هناك من يقاوم، كتّاب وفنانون ومفكرون يُلهمون ويثرون، حتى وإن كان ذلك بثمن باهظ. تنتقل أعمالهم عبر الإنترنت، في المنافي، أو في الدوائر السرية للمدن الكبرى. لكن العقبات جسيمة؛ ففي أجزاء كثيرة من المنطقة، تُقابل حرية الفكر بالريبة أو العداء. والطائفية والانقسام الاجتماعي وخطر التهميش أو العنف يدفع بالمفكرين نحو الحياد أو حتى الانسحاب.

بعض الأصوات خفتت؛ وبعضها أُسكت أو نُفي. شجاعة طه حسين ونصر أبو زيد تبدو استثناء في أجواء اليوم. من كان للعرب فضل في صياغة الفكر العالمي فقد ترجموا وطوّروا علوم الفرس والإغريق والهنود ثم نقلوا ابتكاراتهم غربًا، ها هم خلفاؤهم معزولون، لا يُسمَع لهم في أوطانهم، أو يبحثون عن جمهور في بلاد الآخرين.

على الساحة العالمية، يواجه المفكر العربي أزمة مكانة. ففي حين تحتفي أمم العالم بمفكريها، ويُشجَّع الحوار والإنجاز العلمي كركائز للتقدم، كثيرًا ما يجد العقل العربي نفسه مكبَّلًا بالقيود السياسية والثقافية. الخسارة ليست شخصية فقط، بل حضارية؛ إذ حين يُقمع الفكر النقدي، يذبل المجتمع كله ويتجمد.

فأين هو الفكر العربي؟ الحقيقة أنه موجود في كل مكان، لكنه لا يظهر بالقدر الكافي. يكمن في أفعال الشجاعة الصغيرة: في معلمة تُلهم طلابها بطرح الأسئلة، وفي كاتب يتحدى حدود المألوف، وفي منفيٍّ يرفض أن ينسى لغته وتراثه.

لكن حتى يستعيد العقل العربي مكانته بين القوى الكبرى في العالم، يجب أن تُبعث من جديد روح الفضول والحوار والتنافس الحر للأفكار. علينا أن نتذكر مجد الشوارع التي كان فيها الكتاب والجدل معيار عظمة المدينة.

وربما لن تشبه النهضة الجديدة سابقاتها، لكن الروح يمكن أن تعود. العقل العربي، وإن أُنهك، لم ينطفئ. نهضته مرهونة بإرادتنا على السؤال والبحث والحلم من جديد.

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

شقيق زوج عروسة المنوفية: مراتى كانت بتعملها الأكل ومحرمتهمش من حاجة

أكد شقيق زوج عروسة المنوفية، خلال لقائه ببرنامج “صبايا الخير” المذاع عبر فضائية “النهار”: "أنا كنت بشتغل واللي هي عايزاه كنت بجيبهولها.. وأهلها قالوا على مراتي كلام محصلش.. وكانت بتعملها الأكل وتبعتهولها".

وعود ليلة الزفاف تتحول إلى مأساة | ماذا حدث لعروس المنوفية؟ وخالتها لـ "صدى البلد": الزوج قتلها بعد 4 شهور من الفرحخالة عروس المنوفية: زوجها أنهى حياتها وهي حامل.. وجارتهم أبلغتنا بعد انقطاع صوت صراخها


وفي ليلة زفافهما قبل أربعة أشهر فقط، وقفا أمام الجميع يتبادلان عهود المودة والرحمة، تعانقت ابتساماتهما ورسما معا ملامح حياة هانئة ومستقبل يجمعهما ويزينه الأطفال، ولم يتخيل أحد حينها أن تلك الوعود التي بدت ثابتة ستتحول لاحقا إلى ذكرى مؤلمة توجع القلوب، حيث شهدت محافظة المنوفية حادثة مقتل زوجة وجنينها قبل أن يرى النور، على يد من أقسم يوما أن يحميهما، هكذا تحولت قصة زواج العروس "كريمة" و"أيمن" أبناء محافظة المنوفية، إلى مأساة. 

 تروي خلود خالد، خالة الفقيدة كريمة والمقيمة في محافظة القليوبية، أن كريمة، البالغة من العمر عشرين عاما، تزوجت قبل أربعة أشهر من عامل يدعى أيمن يقيم بقرية ميت بره التابعة لمحافظة المنوفية، مؤكدة أنه لم تظهر خلال تلك الأشهر أي خلافات زوجية كبرى بينهما.

وتشهد خلود لابنة شقيقتها بأنها كانت مثالا لحسن الخلق وحسن المعاملة، وبارة بوالديها طوال حياتها، الأمر الذي جعل خبر مقتلها صدمة هائلة نزلت على الأسرة بأكملها كالصاعقة، خاصة أنها كانت حاملا في الشهر الثالث. 

وأضافت خلود- خلال تصريحات لـ "صدى البلد"، أن إحدى جارات كريمة اتصلت بأهلها بعدما سمعت صراخا متواصلا من داخل منزل الزوجية استمر لساعات طويلة قبل أن ينقطع فجأة، وقد حصلت الجارة على رقم الأسرة من أحد الأقارب في المنوفية، لتتواصل معهم محاولة إنقاذ كريمة.


طباعة شارك عروسة المنوفية زوج عروسة المنوفية صبايا الخير

مقالات مشابهة

  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • الشيف أبو جوليا: كنت بشتغل حداد في غزة.. والجامعة كانت بتحتاج مصاريف 200 دولار
  • رحلة العمر
  • لجنة حماية الصحفيين: حرب غزة كانت الأكثر دموية للصحفيين
  • من تحرير حلب إلى دمشق.. لماذا كانت لدير الزور قصة مختلفة؟
  • شقيق زوج عروسة المنوفية: مراتى كانت بتعملها الأكل ومحرمتهمش من حاجة
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»
  • سرقة مجوهرات اللوفر.. مسؤول فرنسي: 30 ثانية كانت ستمنع اللصوص
  • محاضرة حول أصول الفكر المتطرف بمركز الثقافة الإسلامية بدمنهور
  • المشرف على الرواق الأزهري: الاجتهاد فريضة إسلامية والحرية الفكرية منهج علماء هذه الأمة