من بغداد إلى المنافي.. رحلة العقل العربي عبر الزمان
تاريخ النشر: 13th, August 2025 GMT
محمد أنور البلوشي
كان هناك زمنٌ كانت فيه الدنيا تنبض بفكر العرب، زمن كانت فيه رائحة الحبر والورق تعبق أزقَّة القاهرة وبغداد ودمشق وفاس. في تلك القرون الذهبية، كان الكتاب خبز الناس، وكان الجدل العلني أكسجين الحياة. كان العلماء والشعراء يتجولون في الطرقات، من أزقة باب المعظم في بغداد، حيث كانت الكتب تملأ كل زاوية، إلى مقاهي القاهرة حيث صدى صوت طه حسين يشعل العقول ويُلهم الأجيال.
الماضي العربي زاهر بأسماء لا تزال أفكارها تتردد عبر الزمن. طه حسين من مصر "عميد الأدب العربي"، تحدّى السائد وفتح دروبًا جديدة للفكر النقدي والإنسانية. كان يؤمن بتحرير العقل، داعيًا العرب للانتقال من مجرد التقليد إلى الإبداع الحقيقي. وتوارث هذا النهج الكثير من أبناء الفكر إن لم يكن بالاسم فبالروح.
ومن مصر أيضًا، ظل نصر أبو زيد رمزًا للحرية الفكرية، فقراءته الجريئة للنص الديني أودت به إلى المنفى، لكنه بقي أيقونة في الدفاع عن حق التفكير المستقل.
أما في العراق، فقد مزّق علي الوردي قشرة التجميل عن واقع المجتمع، محللًا تناقضاته النفسية والاجتماعية، كاشفًا أمراض البنية التي تُثقل كاهل المجتمعات العربية، وداعيًا إلى المصارحة مع الذات، وهي شجاعة نادرة في كل عصر.
ومن الجزائر جاءنا مالك بن نبي بمفهومه العميق عن "القابلية للاستعمار"، محذرًا من أن الاستعباد الحقيقي يبدأ عندما يستسلم العقل للخمول والقَدَرية. دعوته لم تقتصر على التحرر السياسي، بل نادى بنهضة الروح النقدية والعودة إلى الحوار مع الذات والمجتمع.
وفي المغرب، قضى محمد عابد الجابري عمره في مساءلة بنية العقل العربي، باحثًا عن التوازن بين الأصالة ومتطلبات العصر. ولا يزال كتابه "نقد العقل العربي" حاضرًا في جدالات الإصلاح والديمقراطية والهوية.
أما السودان، فقد حمل عبدالله أحمد النعيم الفكر إلى آفاق العالمية، مستخدما علمه لسد الفجوة بين التراث الإسلامي وحقوق الإنسان العالمية، مؤكدًا أن الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى شجاعة فكرية، وإلى مواجهة التعصب الداخلي كما التحامل الخارجي.
واليوم، حين نبحث عن العقل العربي، كثيرًا ما نصطدم بالصمت، أو نسمع همسات يبتلعها صخب الصراعات السياسية وقلق الاقتصاد وطوفان التسلية السطحية. تضاءل عدد أكشاك الكتب في باب المعظم، وهدأت الجدالات التي كانت تعصف بمقاهي القاهرة وقاعات المحاضرات.
ماذا حدث لذاك العصر الأسطوري حين كان عامة الناس يفخرون بانخراطهم في الفكر والأدب؟ هل نسينا أن شوارع بغداد كانت مفروشة بالكتب، وأن كل عالم كان منارة أمل لمجتمعه؟
اليوم، يعيش العقل العربي حالة توتر. في بعض الزوايا، هناك من يقاوم، كتّاب وفنانون ومفكرون يُلهمون ويثرون، حتى وإن كان ذلك بثمن باهظ. تنتقل أعمالهم عبر الإنترنت، في المنافي، أو في الدوائر السرية للمدن الكبرى. لكن العقبات جسيمة؛ ففي أجزاء كثيرة من المنطقة، تُقابل حرية الفكر بالريبة أو العداء. والطائفية والانقسام الاجتماعي وخطر التهميش أو العنف يدفع بالمفكرين نحو الحياد أو حتى الانسحاب.
بعض الأصوات خفتت؛ وبعضها أُسكت أو نُفي. شجاعة طه حسين ونصر أبو زيد تبدو استثناء في أجواء اليوم. من كان للعرب فضل في صياغة الفكر العالمي فقد ترجموا وطوّروا علوم الفرس والإغريق والهنود ثم نقلوا ابتكاراتهم غربًا، ها هم خلفاؤهم معزولون، لا يُسمَع لهم في أوطانهم، أو يبحثون عن جمهور في بلاد الآخرين.
على الساحة العالمية، يواجه المفكر العربي أزمة مكانة. ففي حين تحتفي أمم العالم بمفكريها، ويُشجَّع الحوار والإنجاز العلمي كركائز للتقدم، كثيرًا ما يجد العقل العربي نفسه مكبَّلًا بالقيود السياسية والثقافية. الخسارة ليست شخصية فقط، بل حضارية؛ إذ حين يُقمع الفكر النقدي، يذبل المجتمع كله ويتجمد.
فأين هو الفكر العربي؟ الحقيقة أنه موجود في كل مكان، لكنه لا يظهر بالقدر الكافي. يكمن في أفعال الشجاعة الصغيرة: في معلمة تُلهم طلابها بطرح الأسئلة، وفي كاتب يتحدى حدود المألوف، وفي منفيٍّ يرفض أن ينسى لغته وتراثه.
لكن حتى يستعيد العقل العربي مكانته بين القوى الكبرى في العالم، يجب أن تُبعث من جديد روح الفضول والحوار والتنافس الحر للأفكار. علينا أن نتذكر مجد الشوارع التي كان فيها الكتاب والجدل معيار عظمة المدينة.
وربما لن تشبه النهضة الجديدة سابقاتها، لكن الروح يمكن أن تعود. العقل العربي، وإن أُنهك، لم ينطفئ. نهضته مرهونة بإرادتنا على السؤال والبحث والحلم من جديد.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«حكاية عن التلّي».. رحلة بين الأصالة والابتكار
لكبيرة التونسي (أبوظبي)
احتفى «بيت الحرفيين» بحرفة «التلّي» والتقاليد التراثية المحلية الراسخة، ضمن أنشطة المعرض المؤقت «الرحلة: حكاية عن التلّي»، الذي يختتم فعاليته اليوم في أبوظبي. وقد أتاح لزواره من مختلف الجنسيات والفئات العمرية، فرصة استكشاف حرفة «التلّي» كتراث حي توارثته المرأة الإماراتية، من خلال ورش فنية وتجارب تفاعلية تربط الماضي بالحاضر.
قطع متطورة
عما تضمنه المعرض من محطات إبداعية قالت آمنة الزعابي، متخصص أول برامج في «بيت الحرفيين»: إن «الرحلة: حكاية عن التلّي» سلط الضوء على فن «التلّي» الإماراتي التقليدي، كأحد أعرق أشكال الحياكة اليدوية التي تستخدم فيه خيوط معدنية، ذهبية أو فضية، تُحاك لتثبّت على الأقمشة، لتزيين الملابس مثل الثوب والكندورة. ويهدف المعرض إلى توثيق هذا الإرث الحرفي ونقله للأجيال الجديدة، من خلال عرض نماذج نادرة من القطع المزينة بـ «التلّي»، وشرح الأدوات والمواد المستخدمة في صنعه واستخداماته، إلى جانب تقديم ورش عمل حية تُتيح للزوار التعرف على تقنيات ومهارة هذا الفن المحلي في توظيف هذا التطريز في قطع متطورة تحاكي الذوق العالمي. كما يروي المعرض حكايات النساء اللواتي حافظن على هذا الفن عبر الزمن، ما يجعله رحلة بصرية ووجدانية في ذاكرة المجتمع الإماراتي وثقافته.
ورش حية
وأشارت الزعابي إلى أن المعرض استعرض يومياً مراحل صناعة «التلّي»، ضمن ورش حية، لإطلاع الزوار على مراحل صناعته والتعرف على الأدوات والتقنيات المستخدمة وأهمية التطريز في الثقافة الإماراتية. وأكدت أن المعرض أتاح الفرصة للتعرف على مهارة حرفيات أسهمن في إثراء التراث الثقافي، وأتاح مشاهدتهن وهن يعملن بحرفية عالية، ومشاهدة مجموعة من الأعمال الفنية المعاصرة التي قدمها حرفيون معاصرون، وضعوا على كاهلهم حماية التراث الغني والمساهمة في نقله إلى الأجيال.
رؤية معاصرة
أوضحت الزعابي أن المعرض يشتمل على عدة أقسام منها: ركن «التلّي برؤية معاصرة»، ويوضح كيفية توظيف «التلّي» في أغراض يومية، ما يبرز مرونة هذه الحرف اليدوية وقدرتها على الخروج من إطار الملابس التقليدية، حيث تعكس هذه الأعمال المعاد ابتكارها توجهاً متنامياً للحفاظ على جوهر «التلّي» من خلال الابتكار والتجديد المستمر.
فن عريق
لفتت الزعابي إلى أن معرض «الرحلة: حكاية عن التلّي» يستهدف مجموعة متنوعة من الزوار، بدءاً من الباحثين والمهتمين بالتراث والثقافة الإماراتية، الراغبين في التعرف على تاريخ هذا الفن العريق، مروراً بالطلاب ودارسي الفنون والتصميم ممن يبحثون عن الإلهام في مجالات الأزياء والحرف التقليدية، وصولاً إلى الحرفيين والمصممين الذين يرغبون في استلهام تقنيات «التلّي» في ابتكاراتهم المعاصرة.
حِرف واستدامة
ضمن مشاركتها في معرض «الرحلة: حكاية عن التلّي»، تقدم مريم الفلاسي، المصممة الإماراتية، وخريجة معهد دبي للتصميم والابتكار، رؤية معاصرة لأداة «الكاجوجة» التقليدية المصنوعة من نوى التمر المستدامة، والمدعومة بعناصر مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد، وجاء هذا الابتكار كجزء من بحثها حول العلاقة بين الحرف اليدوية والاستدامة، والذي يهدف إلى إلهام الجيل الجديد للتفاعل مع الحِرف الإماراتية التقليدية بطريقة حديثة.
شاشات
تضمن المعرض شاشات عرّفت بحرفة «التلّي»، الذي تم إدراجه على قائمة «اليونسكو» عام 2022 للتراث الثقافي غير المادي، واستعرضت الأدوات المستخدمة في صنعه وتصميماته الشائعة، ونبذة عن استخداماته، بحسب ما أكدته الزعابي، وقالت: إن هذه الحرفة عبارة عن تطريز يزين الأكمام والحواشي وأطراف الملابس، ما يعكس الذوق الرفيع للمرأة الإماراتية في تفاصيل الزينة والتطريز، ومن أبرز أنواعه: «البادلة» وهي عبارة عن شريط قابل للفصل ويستخدم حول كاحل سروال النساء التقليدي، ويتميز هذا النوع بدقة تصميمه ومهارة يدوية عالية، وامتد استخدام «التلّي» إلى مجالات حديثة، حيث نراه اليوم يزين حقائب اليد وأغطية الهواتف والوسائد وقطع الديكور المنزلي، كما ينسج تقليدياً بخيط من الفضة أو الذهب الخالص مع خيوط قطنية نقية بألوان متعددة، وقد أضفى هذا التناسق بين الخيوط طابعاً زخرفياً دقيقاً، خصوصاً في الملابس الخاصة بالزفاف والمناسبات الرسمية.