بعد مذبحة فضّ اعتصام السودانيين في الخرطوم أمام مباني قيادة الجيش، وأماكن أخرى، في 3 يونيو/ حزيران 2019، أصدر رئيس المجلس العسكري الحاكم وقتها، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قراراً بوقف التفاوض مع قوى الحرية والتغيير، وتشكيل حكومة لمدة انتقالية لتشرف على الانتخابات. لم يخضع الشارع، وواجه قرار الجيش بحكم الفترة الانتقالية رفضاً شعبياً أجبره على العودة الى التفاوض مع القوى السياسية المدنية.

ترى القوى المدنية أن عودتها إلى التفاوض كانت ضرورية، فإن في ذلك حقناً للدماء، لأن الحل الآخر غير قبول التفاوض يعني الدخول في مواجهة مفتوحة مع المجلس العسكري. كما تعرّضت القوى المدنية لضغوط قوية من وسطاء إقليميين ودوليين. لم يكن هذا مقنعاً لكثيرين، خصوصاً القوى الشبابية التي رأت العودة إلى التفاوض وقبول الشراكة مع الجيش لم يعودا مقبوليْن بعد غدر فض الاعتصام. لكن القوى السياسية مضت في طريقها، وخاضت تفاوضاً بدعم دولي.

في تلك الأيام، فوجئ نائب رئيس المجلس العسكري، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بحديثٍ عن دمج قواته في الجيش القومي. لم يفهم قائد المليشيا هذا الأمر! فهو يقود مليشيا خاصة، لكنها مقننة عبر برلمان نظام عمر البشير/ الحركة الإسلامية، ولديها قانون خاص. حتى الرتب العسكرية التي حصل عليها، طلبها من الرئيس السابق قائلاً “نريد رتباً عسكرية مثل التي تمنحها للجنوبيين في شوالات”، مشيراً إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان.

ظلّ حميدتي دائم اللوم للقوى المدنية، ويقول إن أحداً قبلهم لم يقترح أمراً كهذا. ورفض قائد الجيش أيضاً هذه الدعوات. وهاجم مطلقيها، واتهمهم بالنوم في منازلهم آمنين، بينما تحرسهم قوات الدعم السريع! كان لافتاً أن يفخر قائد الجيش بأن مليشيا تحرس المواطنين، لا الجيش الذي يقوده!

كان حميدتي قبل الثورة السودانية قد أعلن بوضوح رؤيته نفسه والدولة. في 2014، انتقد رئيس حزب الأمة الصادق المهدي (آخر رئيس وزراء منتخب قبل انقلاب البشير) وضع قوات الدعم السريع، وجرائمها في دارفور التي ترتكبها باسم النظام الحاكم وبتنسيق مع الجيش. اعتقل المهدي مباشرة عقب هذا التصريح. ووقف حميدتي متفاخراً يقول لجنوده “نحن من نتحكّم في هذا البلد. نقول اعتقلوا الصادق المهدي. يعتقلوا الصادق المهدي. نقول أطلقوا سراحه. يطلقون سراحه”. ثم قال كلمته التي اشتهرت لاحقاً “يوم ما الحكومة تسوي جيش تجي تكلّمنا”. ولأنه ظنّ أن سيده القديم سيبقى إلى الأبد، صرح في يناير/ كانون الثاني 2018 “ترشيح البشير فوق راس أي زول”. أي غصباً عن أي معترض. وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، اكتشف حميدتي أنه راهن على جوادٍ لن يعدو طويلاً. ومثل ما يفعل الجيش السوداني منذ الاستقلال، انقلاب، ثورة شعبية ينحني لها الجيش ويقيل قائدة الدكتاتور، ثم ينقلب مرّة أخرى على السلطة المدنية الجديدة، سارع حميدتي بالتخلي عن رئيسه و”انحاز” مع الجيش للثورة بعزل عمر البشير. كان هذا أقصى ما أراد الجيش والدعم السريع تحقيقه، لكن مطالب الناس كانت أكثر من ذلك.

في جلسات التفاوض التي طرحت فيها مسألة “تعدّد الجيوش”، قال حميدتي إنه سيذهب بقواته إلى الصحراء ويتمرّد. بعدها سيدعوه السياسيون إلى الخرطوم لتوقيع اتفاق سلام معه يمنحه سلطاتٍ أكبر! تحدّثت مع شهودٍ ممن سمعوا ما قال. ولا واحد منهم أحسّ أن الرجل يمزح. بل كان جادّاً. هذه هي الطريقة التي يفهمها للحكم. أثِر مشكلةً، اصمد فترة، تفاوض، احصل على السلطة التي تريد.

من المحزن طبعاً أن هذه ليست طريقة اكتشفها هو. إنما هي طريقة يعرفها الملايين من السودانيين منذ عام 1955.

لم تتغيّر أفكار حميدتي، ولا رؤيته نفسه دائمة الشعور بالظلم، فالرجل يحسب نفسه مهمّشاً، وأنه مظلوم، وغير مرغوب فيه. ويردّ ذلك كله إلى أسباب وأفكار عنصرية، فحتى في الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، لحل الخلافات بين قائد الجيش وقائد المليشيا، والذي اتهم فيه حميدتي البرهان بأنه من دبّر محاولة اغتيال حمدوك بتفجير سيارة عند مرور موكبه، لم يفهم حميدتي لماذا لم ينحز إليه المدنيون، إنما طالبوه والبرهان بالتعقّل وتقدير عواقب الصراع بينهما. غادر حميدتي الاجتماع غاضباً، وكان تفسيره الوحيد لما حدث انحياز المدنيين لخصمه لأسباب عنصرية. بعد أسابيع، كان يشارك مع البرهان في انقلاب عسكري باسم “تصحيح المسار”! واعتقل عبد الله حمدوك وكل من حضروا ذلك الاجتماع.
وحتى خطابه أخيراً، يظهر فيه حميدتي مع بعض جنوده وهو يشكو الظلم والافتراء،

ثم يبشّر مواطني ولاية شمال السودان بأنه سيغزوهم قريباً، لكن لن يكون مع قواته لصوص، لذلك عليهم آلا يقلقوا!

في تقديري، هذه أسوأ رسالة طمأنينة بُعثت منذ ابتدعت البشرية الرسائل.
حمور زيادة حمّور زيادة

العربي الجديد
28 يونيو 2025

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

معاناة بلا نهاية.. الشعب السوداني يعيش أعمق أزمة إنسانية

كشفت مخيمات النازحين السودانيين في مدينة الأُبيض بولاية شمال كردفان عن أبعاد متفاقمة لما تصفه منظمات دولية بأنها واحدة من أعمق الأزمات الإنسانية في العالم، في ظل ظروف معيشية قاسية ونقص حاد في المساعدات الأساسية.

سفير السودان: القرار البريطاني ضد الدعم السريع خطوة سياسية مهمةالرئيس السيسي: ندعم وحدة وسيادة السودان وسلامة أراضيه ونساند جهود إنهاء الحربأوضاع صعبة داخل المخيمات 

ورصدت فضائية العربية، تقريرا يوضح الأوضاع المأساوية التي يعيشها آلاف المدنيين داخل المخيمات، حيث تعاني العائلات من شح الغذاء والمياه الصالحة للشرب، إلى جانب نقص الرعاية الصحية والمأوى الملائم، ما يزيد من معاناة النساء والأطفال وكبار السن.

تفاقم الأزمة الإنسانية بالسودان 

وأكد نازحون أن استمرار تراجع الدعم الإنساني وغياب الإمدادات الإغاثية يفاقم الأزمة يومًا بعد آخر، في وقت تحذر فيه جهات إغاثية من تداعيات خطيرة على الوضع الصحي والإنساني في ولاية شمال كردفان إذا لم يتم التحرك بشكل عاجل.

الدفاع عن الوطن 

وقال الجيش السوداني، نحن ماضون في مسيرة تحرير الوطن والدفاع عن سيادته.

وأكمل: لن نتراجع عن تطهير كل شبر من أرض السودان.

طباعة شارك كردفان السودان الدعم الإنساني

مقالات مشابهة

  • تصعيد ميداني في شمال كردفان وتوسع للجيش السوداني نحو الجنوب
  • سوريا: إصابة جنود أمريكيين في هجوم بحمص
  • معاناة بلا نهاية.. الشعب السوداني يعيش أعمق أزمة إنسانية
  • حاكم دارفور يدعو لتكثيف جهود استعادة الأمن والاستقرار في السودان
  • مصرع مواطن سوداني بنيران الدعم السريع في كردفان
  • الجيش السوداني يُدمر ارتكازات ومعدات عسكرية للدعم السريع
  • الجيش السوداني: ماضون في مسيرة تحرير الوطن والدفاع عن سيادته
  • الصندوق العربي للمعونة الفنية يختتم دورته حول التفاوض وإدارة الأزمات
  • أوكرانيا تعلن استعادة بلدتين من الجيش الروسي قرب مدينة استراتيجية
  • بريطانيا تفرض عقوبات على 4 قادة في الدعم السريع بينهم شقيق حميدتي