غزة- تفحّص الموظف البيانات بدقة، ومرّر عينيه على الأوراق التي تحمل اسم الزوج، وتاريخ فقده، وتفاصيل تقرير وفاته، ثم أغلق الملف مخاطبا أم حامد "نعتذر، لا يمكن تسجيل الأطفال ضمن برنامج الكفالات لدينا".

حينها، لم تسمع أم حامد سوى وقع كلمات تتهاوى عليها كأنها تسقط من علو، فجرّت قدميها خارج المبنى، وهي تحمل في يدها شهادة وفاة قاتلت للحصول عليها، وبدت كأنما تلقت صفعة تعيدها لنقطة الصفر، حيث ظنت أنها وصلت أخيرا، بعد شهور من الجري خلف إثبات واحد فقط لأن زوجها استشهد دون جثة أو دفن.

في قطاع غزة تواجه آلاف العائلات صعوبة بالغة في استخراج شهادات الوفاة لذويهم، حيث ترفض الجهات الرسمية في القطاع إصدار شهادة وفاة لأي شخص لم تُفحص جثته أو يُسجّل دخوله إلى مستشفيات القطاع، دون ما يُعرف بـ"محضر إثبات وفاة".

وهذا المحضر إجراء قانوني يتطلب من ذوي المفقود إحضار شاهدَين يقسمان يمينا مغلّظا على صدق البيانات التي يقدمونها كدليل على رؤيتهما الجثمان دون تمكنهما من انتشاله أو دفنه بوقت سابق، أو إثباتٍ يؤكد صدق الرواية، ليمنح بعدها رخصة لإصدار شهادة وفاة رسمية.

معاناة وفقد

تقول أم حامد للجزيرة نت، إنها استخرجت بعد مشقة شهادة وفاة لزوجها، حيث استعانت بفيديو بثه الاحتلال الإسرائيلي عبر وسائل إعلامه، يُظهر جثمان زوجها مع جثامين مقاومين استُشهدوا في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، فوافقت المحكمة وأقرّت باستشهاده رسميا.

لكن أم حامد، ورغم هذا الاعتراف القانوني، اصطدمت بعقبة جديدة حين توجّهت لتسجيل أطفالها الأربعة في برنامج كفالة بإحدى المؤسسات الدولية، فقوبلت بالرفض.

وتضيف "انتزعت شهادة الوفاة بشقّ الأنفس لأحصل على كفالات مالية لأطفالي، لكن المؤسسة عندما عرفت أنه من مقاتلي "7 أكتوبر"، حرموني الاستفادة منها وكأن الفقد وحده لا يكفي".

إعلان

تواصلت الجزيرة نت مع زوجات لمقاتلي "7 أكتوبر"، اللواتي يشتركن بوجع واحد، وفقد لا ينتهي عند الألم النفسي، بل يمتد لخلق مأساة مركّبة قانونيا واجتماعيا ومعيشيا، حيث تُحرَم النساء وأطفالهن من أبسط حقوقهن كالكفالات المالية، والمساعدات الإغاثية، وحتى الحق بإعادة بناء حياتهن.

فأم ساجد، التي لم تتمكن من إثبات استشهاد زوجها حتى اليوم، باعت كل ما تملك من مصاغها الذهبي لتُطعم أبناءها الأربعة بعد فقد زوجها، وتروي "يقول الناس خبي (احتفظ) قرشك الأبيض ليومك الأسود، ولا شيء أسود من هذه الأيام".

حل مؤقت

حملت مراسلة الجزيرة نت هذه الشكاوى إلى القضاء الشرعي في غزة، الذي أوضح أنه قدم حلا مؤقتا لزوجات المفقودين، يتمثّل في وثيقة تعرف بـ"المشروحات" تُمنح للنساء اللاتي فقدن أزواجهن منذ أكثر من عام، وتوضح أن الزوج مفقود منذ ذلك الحين دون التمكن من التثبّت من وفاته.

وفي مقابلة خاصة مع "الجزيرة نت" قال رئيس المحكمة الشرعية في غزة محمد فروخ، إن هذه الوثيقة تمكّن المرأة من تقديمها للمؤسسات الإغاثية للمطالبة بحقوقها المالية، مشددًا في الوقت ذاته أن الزوجة لا تُعد معتدّة ولا يجوز لها الزواج مجددًا حتى التحقق من مصير زوجها، إن كان أسيرا أم شهيدا.

وبخصوص العدة، أوضح فروخ أن على زوجة المفقود الانتظار سنة كاملة بعد نهاية الحرب وعودة المحاربين، وهي المهلة التي أقرّها القانون المدني في مادته رقم 119، وتُعتبر الفترة القانونية القصوى لاحتمال عودة المفقود أو معرفة مصيره.

لا يقتصر ملف المفقودين على مقاتلي "7 أكتوبر"، بل يشمل أيضا آلاف المدنيين الذين لا يزالون تحت ركام البيوت المدمّرة، ويصعب انتشال جثث كثير منهم، ما يدفع ذويهم لتقديم محضر إثبات وفاة لإثبات استشهادهم.

ويوضح فروخ أن المحكمة تعتمد بهذه الحالة على أدلة تشير إلى وجود الشخص في المنزل وقت الاستهداف، كشهادات ناجين من القصف، أو رسائل وبيانات تثبت وجوده حينها، ويُعامل كشهيد لم يُنتشَل.

وينطبق ذلك أيضًا على من دُفنوا في مقابر عشوائية خارج المستشفيات، بسبب صعوبة الوصول إليها أثناء القصف، أو تعذّر تحرك سيارات الإسعاف، ويُطلب من ذويهم في هذه الحالات إحضار شاهدَين شاركا في دفن الشهيد أو شاهدا الجثمان ومكان القبر، ويتحقق من إفادات كل منهما على حدة، قبل إصدار القرار.

وأكدت مصادر قضائية للجزيرة نت أن عدد محاضر إثبات الوفاة المقدمة في شمال وجنوب قطاع غزة بلغ أكثر من 16 ألف محضر، أكثر من 11 ألفًا منها شمالا، حيث كانت العمليات البرية الإسرائيلية الأعنف.

لكن ما يقارب 10% من هذه المحاضر تم رفضها، بسبب تضارب شهادات الشهود أو عدم كفاية الأدلة، وهو ما يضع العائلات في حلقة مفرغة من الانتظار والمعاناة.

مسعفون يستخرجون جثامين شهداء من تحت الأنقاض في غزة (غيتي) قصص مفزعة

وأفرزت الحرب في غزة حالات بالغة التعقيد، يصعب تصورها لولا وقوعها فعلا، حيث يروي القاضي "س.د" لـ"الجزيرة نت" قصة امرأة كانت تقيم جنوب القطاع، حين وصلها خبر يفيد باستشهاد زوجها تحت أنقاض منزلهما خلال حصار جباليا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

إعلان

واستندت الزوجة إلى شهادتَين تؤكدان أن الجثمان دُفن بعدما تحلل إلى هيكل عظمي، وأجرت بناءً على ذلك معاملات قانونية، ثم ارتبطت لاحقًا برجل آخر، لكن بعد عدة شهور، فوجئت العائلة بأن الزوج لا يزال على قيد الحياة، وبأنه أسير لدى الاحتلال الإسرائيلي.

ويُعامل هذا النوع من القضايا وفق المذهب الحنفي، السائد في المحاكم الشرعية بغزة، الذي ينص على أن عقد الزواج الثاني يثبت إذا تم الدخول، وتُفسخ العلاقة بالزوج الأول تلقائيا بهذه الحالات.

وفي واقعة أخرى، أدى قصف إسرائيلي لاستشهاد أب وابنته في الوقت نفسه تقريبًا، لكن العائلة واجهت معضلة في معاملة "حصر الإرث"، لعدم القدرة على تحديد من توفي أولًا، وهو تفصيل حاسم قانونيا، لأن من يُتوفى ثانيًا يرث من الأول.

وأوضح القضاء الشرعي أنه تمكن من حل الإشكال بالاعتماد على مقطع فيديو وثقته كاميرا مراقبة في المكان، أظهر أن الأب فارق الحياة أولا، فيما كانت الفتاة تلتقط أنفاسها الأخيرة بعده بدقائق، ما مكّنها قانونيا من أن ترث منه.

أما في الحالات التي تُثبت فيها وفاة الطرفين في اللحظة نفسها، فلا يرث أحدهما الآخر، ويُنقل الإرث مباشرة إلى بقية الورثة، حسب الترتيب الشرعي، بحسب القاضي "س.د".

محاولة للإثبات

وفي مواجهة آلاف الجثث التي دُفنت دون هوية واضحة أو فُقدت ملامحها بالكامل بفعل التحلل أو نهشها من الكلاب الضالة، يواجه خبراء الأدلة الجنائية تحديات غير مسبوقة.

وبعد التواصل مع مختص في الأدلة الجنائية -فضل عدم كشف هويته- أوضح للجزيرة نت أن طواقم الأدلة تعمل بالتنسيق مع الدفاع المدني، وتنطلق فور الإبلاغ عن جثمان مجهول، لتوثيق كل ما يمكن الاستدلال به.

يقول المصدر "نصور الجثة بمكان العثور عليها، مع التركيز على وضعيتها، وملابسها، ومقتنياتها الشخصية إن وجدت، ونقارنها لاحقًا بما يبلّغ عنه الأهالي من حالات فقد".

ويؤكد المصدر أن فحوصات الحمض النووي "دي إن إيه"، التي يمكنها حل غالبية هذه الحالات، غير متوفرة في غزة بسبب الحصار ونقص الأجهزة، ما يضطر الفرق للاعتماد على وسائل بدائية، من خلال فحص 3 أمور هي الملابس والمقتنيات والعلامات الفارقة في الجسد، كوجود بلاتين، أو بتر، أو التواء في الأطراف، أو تفاصيل في الفك والأسنان إن بقيت.

النساء أكثر معاناة جراء الفقد واستشهاد أزواجهن (الفرنسية)

وتُجمع الجهات القضائية والصحية على أن الوضع القانوني المتعلق بملف المفقودين والشهداء في غزة يحتاج "لمعالجة طارئة"، لكن استمرار الحرب وتدهور الوضع الميداني يمنعان أي إصلاح قانوني شامل.

وصرح مصدر مطلع للجزيرة نت بأن "ملفات كثيرة لا يمكن حسمها قانونيا إلا بعد استقرار الأوضاع، فإثبات وفاة المفقود مثلا، يحتاج إلى انتهاء المهلة القانونية، والتحرّي والنشر، وربط الوقائع بالأدلة، وكل ذلك غير ممكن بظل حالة الطوارئ المستمرة".

وفي غضون ذلك، تبقى آلاف العائلات معلّقة بين الحزن والانتظار، وتدفع النساء الثمن مضاعفا؛ فهنّ معلّقات حتى تقرير المصير.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الجزیرة نت شهادة وفاة للجزیرة نت أم حامد فی غزة

إقرأ أيضاً:

نقص الملابس وارتفاع أسعارها.. معاناة أخرى تُثقل كاهل الغزيين

غزة- مدلين خلة - صفا "نحن لا نبحث عن الجديد، فقط نريد ما يسترنا".. بهذه الكلمات تصف الخمسينية ليندا معروف حال أبنائها في ظل شح الملابس والأحذية، وانعدام القدرة الشرائية على اقتناء المتوفر منها، بسبب ارتفاع ثمنها.  لم يكن أمام معروف حلٌ سوى ترقيع الثياب البالية وخياطة الأحذية المهترئة يدويًا، في محاولة منها لستر أبنائها واستخدام القطعة منها لوقت أطول من المعتاد على أمل انتهاء الأزمة في وقتٍ قريب. معاناة لا تتوقف تقول معروف لوكالة "صفا": "لا يوجد أمامي حلول سوى إعادة خياطة الممزق من ثياب أبنائي القديمة عدة مرات، نحن نتطلع إلى تغطية الجسد لا إلى المظهر العام". وتضيف "في الوقت الذي اهترئّت فيه ثياب ابني الصغير قررتُ التوجه إلى السوق لشراء غيارين له، إلا أنني صُعقت بالثمن الباهظ لزي الرياضة، البالغ ثمنه 45 شيقلًا، بعدما كان يُباع سابقًا بـ5 شواقل فقط". وتتابع "واصلتُ بحثي كي أحظى ببائع لم تُغيره الحرب، لكن دون جدوى، فالأسعار فلكية، ولا نستطيع اقتناء الملابس الجديدة لأطفالنا، لذلك قررتُ العودة أدراجي وترقيع ما لديه من ثياب". و"لا يختلف سوق الأحذية عن الملابس، فالباعة هنا يتحججون بغلاء التنسيق وتكدس بضاعتهم على المعابر وعدم السماح بدخولها، الأمر الذي يجعلهم يرفعون ثمن ما لديهم من بضاعة لتقليل خسائرهم".  وتشير معروف إلى أنها اعتمدت على الخياطة اليدوية، لإصلاح المهترء والممزق من ملابس وأحذية أبنائها. وتساءلت "ما هو الذنب الذي ارتكبه الصغار حتى تتحول حياتهم إلى جهنم؟، ألا يجدوا ما يستر أجسادهم ويقيهم حرارة شهر آب؟". ولم تعد المعاناة في قطاع غزة تقتصر على الجوع والقصف والقتل اليومي، بل تعدى ذلك ثانويات الحياة، وأدق تفاصيلها من انعدام الملبس والسير بأقدام حافية تحت لهيب الصيف، لينتهي الحال بهم يعانون من ضربة شمس وارتفاع في الحرارة دون دواء يُخفف حدة ألمهم. لا مكان لرفاهية الاختيار في غزة، لأن الحصول على حذاء بدون نعلٍ أصبح أمنية يحلم بها أهالي غزة الذي يقاسون الوجع والألم تحت وطأة حرب إسرائيلية مدمرة طالت كل مناحي الحياة. ومنذ حرب الإبادة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، يمنع جيش الاحتلال إدخال معظم السلع والبضائع لغزة، بما فيها الملابس الجاهزة والأحذية، ما فاقم معاناة المواطنين. أسعار مضاعفة المواطنة شيماء الهسي تقول لوكالة "صفا": "اضطررتُ إلى التوجه لمحل (البالة)، بيع الملابس المستخدمة، على أمل أن تكون الأسعار مناسبة وأشتري بعض الملابس لشقيقاتي، لكتي تفاجأتُ بارتفاع ثمن القطع أضعاف مضاعفة". وتضيف "حاولت تفصيل ملابس من أقمشة حصلت عليها من مركز إيواء، لكن دون جدوى، لأن الثياب ممزقة، وغير صالحة، والأقمشة لا تكفي، حتى الإبر والخيط ارتفع ثمنها". وتضطر الهسي إلى ارتداء ما كانت ترتديه منذ العام 2023، قائلة: "كل شيء تغيّر إلا ثيابنا، ومع الحرب، ونقص الماء، باتت الملابس متسخة طوال الوقت، فلا كهرباء لنغسل، ولا مياه كافية لتنظيفها". وتردف "في مخيم الإيواء نُغطي أقدامنا ببعض قطع القماش أو البطانيات الممزقة، والتي تم خياطتها على شكل حذاء أو جوارب سميكة تقي حرارة الرمال، أما حين نضطر للخروج فهناك حذاء وحيد مهترئ ومشقوق، لكنه ما زال يصلح للمشي". وعمّد حيش الاحتلال خلال حربه المتواصلة، إلى تدمير معظم المصانع والمنشآت الاقتصادية والتجارية في القطاع، ما أدى إلى توقف تام في خطوط الإنتاج المحلية، والتي كانت تُغطي جزءًا من احتياجات السكان. 

مقالات مشابهة

  • المملكة تعزي باكستان في ضحايا الفيضانات والسيول التي ضربت عددًا من الأقاليم
  • فيضانات كشمير المدمرة.. عشرات القتلى والمفقودين وتعليق الحج السنوي
  • وفاة طفلة نتيجة سوء التغذية - ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الجماعية بغزة
  • القاهرة الإخبارية: نبيهة كراولي تختتم مهرجان الحمامات الدولي برسائل فنية وإنسانية
  • نبيهة كراولي تختتم مهرجان الحمامات الدولي برسائل فنية وإنسانية (فيديو)
  • «لو نفسك تسافر».. خطوات الهجرة إلى لاتفيا والأوراق المطلوبة
  • الصحة بغزة: 54 شهيدًا و831 إصابة خلال 24 ساعة جراء العدوان الإسرائيلي
  • شباب متلازمة داون يبدعون في بازار المحبة بحمص بمعروضات فنية وإنسانية
  • نقص الملابس وارتفاع أسعارها.. معاناة أخرى تُثقل كاهل الغزيين
  • خبراء: موجات الحر الممتدة تشكل خطراً متزايداً على حياة البشر