د. ذياب بن سالم العبري

في مثل هذه الأيام من كل عام، يتجدد في القلوب شعورٌ يصعب وصفه؛ شعورٌ يجمع الفخر بالماضي والثقة بالحاضر والطموح نحو الغد؛ فالوطن ليس مساحة جغرافية تُعرَف على الخرائط؛ بل حكاية ممتدة عبر العصور، وحضورٌ يملأ الوجدان قبل أن يملأ المكان. وعُمان، منذ فجر تاريخها، لم تكن يومًا مجرد دولة تتقلب مع الرياح؛ بل كانت هويةً راسخة تشكلت من صبر الإنسان وصلابة الجبال وهدوء البحر وامتداد القوافل وروح القيادة الحكيمة منذ عهد الإمام المؤسس السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي.

تلك اللحظة التاريخية التي أسس فيها الإمام الدولة العُمانية الحديثة لم تكن مجرد انتقال سياسي؛ بل كانت إعادة بناءٍ للثقة في النفس العُمانية، وترسيخًا لمبدأ الدولة الراسخة التي تعرف طريقها وسط المتغيرات. ومنذ ذلك الحين، ظل هذا الوطن يعيد إنتاج نهضته مرة بعد مرة، لا يستنسخ الماضي كما هو، ولا ينقطع عنه؛ بل يجعل منه جذورًا ثابتة ينطلق منها نحو كل تحول جديد.

واليوم، ونحن نعيش عهدًا تتجدد فيه النهضة تحت قيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أعزه الله- نُعاصر مشهدًا مختلفًا تمتزج فيه الحكمة بالرؤية، والاتزان بالجرأة، والاستمرارية بإعادة التشكيل؛ فالدولة تعيد تنظيم مؤسساتها بعمق، والاقتصاد ينساب نحو التنويع بثقة، والإنسان العُماني يُعاد تمكينه ليكون في قلب كل مشروع وغاية كل سياسة. لم يعد التطور في الخارج فقط؛ بل في داخل الدولة نفسها: في الإدارة، والتعليم، والاقتصاد، والنظام العام، ورؤية الإنسان لدوره ومكانه في هذا العالم المتغير.

نعيش اليوم في زمن تعاد فيه خرائط الاقتصاد والمعرفة والفرص كل يوم، ويتشكل فيه المستقبل بسرعة تجعل من الاستعداد له شرطًا للبقاء. ومع ذلك، نجد أن عُمان، بخصوصيتها الهادئة، تدخل هذا العالم الجديد دون أن تفقد صورتها، ودون أن تتخلى عن أصالتها. فمن بين قيمها الراسخة تنبثق رؤيتها الحديثة، ومن بين إرثها العريق يبرز تصميمها على أن تكون جزءًا فاعلًا من الاقتصاد العالمي الجديد، لا متلقيًا له.

وتتقدم البلاد بخطى ثابتة نحو بناء اقتصاد معرفي، يقوم على الابتكار والتقنية والطاقة المتجددة، ويتيح للشباب أن يكونوا صناعًا للفكرة، ومنتجين للقيمة، ومشاركين في الثورة الرقمية، لا مجرد مستخدمين لها. وتتشكل في الأفق ملامح دولة ذكية، تنمو فيها المدن بتقنيات المستقبل، وتتطور فيها الخدمات بمرونة وفاعلية، وتُبنى فيها الفرص على أساس المهارة لا الوظيفة، وعلى الإبداع لا التكرار.

ومع كل هذا التحول، تبقى الصورة الأجمل هي صورة الإنسان العُماني؛ ذلك الإنسان الذي حمل عبر القرون روح الحكمة والاتزان، ويُطلب إليه اليوم أن يحمل أيضًا روح الابتكار والطموح. فالمستقبل لا يُفتح إلا لمن يملك الشجاعة على التحليق، والإصرار على التعلم، والرغبة في أن يكون جزءًا من عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة.

إنَّ اليوم الوطني المجيد ليس مجرد احتفال بذكرى؛ بل هو محطة وعي، محطةٌ يتأكد فيها أن ما يجمع الماضي بالحاضر، ويقود الحاضر نحو المستقبل، هو تلك الروح العُمانية التي لا تتبدل. روحٌ قادرة على جعل التغيير فرصة، وعلى تحويل الهدوء قوة، وعلى أن تبقى الأصالة سندًا مهما تقدمت أدوات العصر.

وعندما ننظر إلى عُمان- أرضًا وإنسانًا- نرى وطنًا لا يكتفي بالثبات؛ بل يعرف كيف ينهض في كل مرحلة، وكيف يضيف إلى ذاته معنى جديدًا مع كل تحول. وطنًا يستطيع أن يجمع بين أصالة المكان وامتداد الجغرافيا، بين حكمة التاريخ وتكنولوجيا المستقبل، وبين قلبٍ يعرف جذوره وعقلٍ يعرف طريقه.

وهكذا تتأكد الحقيقة التي لا تتغير: أن عُمان، بحكمتها وتاريخها وقيادتها وإنسانها، تمضي دائمًا نحو آفاقٍ أوسع، ونهضةٍ لا تنطفئ، ومستقبلٍ يكتب فصوله أبناء الوطن بوعيهم وإصرارهم وعزيمتهم.

إنها عُمان، الراسخةٌ في جذورها، النابضةٌ في حاضرها، المُحلّقةٌ نحو مستقبلٍ لا حدّ لسُمُوِّه.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

في عيد الوطن

 

 

هند الحمدانية

في يوم الوطن.. لا نسأل الأرض عمَّا مضى، نسألها عمَّا تبقى من الحلم في عيون الأجيال، نُمسك بكفِّ التاريخ كما يُمسك الابن يد أبيه، نقول للعشرين من نوفمبر: ها نحن هنا... نُواصل بداية وُلدت مع الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، ولا تزال الجبال تناديها من مسندم حتى ظفار، وتبث البحار صداها من مصيرة إلى صحار، كأنَّ الوطن نشيد نردده دائمًا، ولا نصل إلى آخر بيت فيه.

تتفتح ذاكرة الشعوب في الأعياد الوطنية؛ فهي تحتفل لتؤكد أن حاضرها ابن ماضيها، وأنها رغم تغير الأزمنة، لا تزال تحمل جذورها فوق أكتافها كما يحمل الفلاح جدوله الأول إلى آخر أرض في الأفق، الأعياد الوطنية مرافئ للهوية، تستعيد فيها الأمم ثباتها، وتعيد ترتيب مشاعرها، وتصالح شعوبها مع إرادة أجدادها العظماء.

جاء العشرون من نوفمبر ليكون علامة مضيئة في تاريخ عُمان، فهو اليوم الذي بدأت فيه مرحلة جديدة من الحكم مع تأسيس الدولة البوسعيدية، يوم تحول فيه قدر البلاد إلى قدر العز والثبات، وتجلت الرسالة منذ اللحظة الأولى: أنَّ الوطن يستطيع أن يولد من جديد حين تمسك به يد قوية وعقل حكيم، وأن البناء لا يحتاج إلى وقت طويل بقدر ما يحتاج إلى رؤية بعيدة، ومنذ ذلك اليوم كان التاريخ يميل ناحية عُمان، كأنما وجد فيها ما يخلد به نفسه.

انتقلت عُمان إلى عهد جديد حين اختار السلطان قابوس -طيب الله ثراه- حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- أبقاه الله- ليحمل الأمانة ويُواصل المسير، لقد جاء العهد الجديد بنهضة متجددة أعادت صياغة طريقة التفكير ومنهج الإدارة وهندسة المستقبل.

انطلق مسار مختلف في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة، وابتكرت أبواب واسعة نحو اللامركزية وتمكين المحافظات، لتنبض التنمية في كل زاوية من أرض الوطن، ولتتحول الإدارة من تسلسل تقليدي إلى منظومة ديناميكية، تنجز وتبتكر وتعيد تعريف كفاءة العمل العام، وتجلت الرؤية بوضوح: أن الدولة الحديثة لا تقاد بالنوايا الطيبة وحدها، وإنما بفكر مستنير يحول الطموح إلى نتائج يلمسها الناس في حياتهم اليومية.

اليوم.. تتقدم سلطنة عُمان بخطى ثابتة نحو الاقتصاد المتنوع، وتعيد توزيع ثرواتها الفكرية والطبيعية، وتمنح المساحة لكل قطاع كي ينمو ويتنفس ويسهم في صناعة المستقبل، فالسياحة تحولت إلى دعامة اقتصادية، والاستثمار اتخذ طريقاً أكثر انفتاحًا مدعومًا بتشريعات حديثة وأنظمة رقمية وتسهيلات تُعيد الثقة إلى رأس المال، وتضع السلطنة في مسار جديد من المنافسة الذكية والأفق الاقتصادي المستند إلى رؤية "عُمان 2040"، رؤية تجعل من التعليم والتنمية البشرية والاقتصاد والتكنولوجيا ركائز أساسية لبناء الدولة العصرية.

وضعت عُمان الإنسان في قلب فلسفة التنمية، فلَمْ تُعامل الحكومة المواطن على أنه مُتلقٍ للخدمات؛ بل شريك في البناء وركن أصيل في صناعة التحول، وبذلك نشأت علاقة ناضجة بين الدولة والمجتمع، قائمة على المسؤولية المشتركة والوعي، والولاء الذي يتحول إلى عطاء وتعاون وروح وطنية تمد جسور الأمل بين الأجيال.

أما سياسيًا.. فقد حافظت سلطنة عُمان على توازن عجيب بين العطاء الداخلي والتقدم الخارجي؛ فلم تسمح للرياح أن تغير بوصلتها، ولم تنس يومًا أنَّ القوة الحقيقية تكمن في الثبات، ولهذا عرفت عُمان بأنَّها الدولة التي إن حضرت نشرت السلام، وإن غابت تركت خلفها أثرا طيبًا في القلوب.

صاغت عُمان علاقاتها الخارجية بوعي عميق، فلم ترفع صوتها كثيرًا، لكن العالم تعلم أن يصغي إلى حضورها الهادئ، لأنها تتقن لغة السلام، وتفهم تعقيدات المنطقة والعالم بحكمة نادرة، حيث استطاعت أن تجعل اسمها مرادفا للسياسة المتزنة، فكان موقفها تجاه القضية الفلسطينية ثابتا وواضحا، قائماً على التزام إنساني عميق لا يتلون بتغير الظروف ولا ينحني أمام ضغط أو مساومة.

ويبقى الشعب جوهر الحكاية وسر النهضة، فالأوطان تنهض بإيمان الناس بها، وإحساسهم أنهم ينتمون إليها كما ينتمي الجذر إلى التربة، فالمواطن العُماني يرى الوطن قدرًا وامتدادًا لعائلته وأجداده، ومشروعًا ينتظره أبناؤه في المستقبل، وحين يحب المرء وطنه يرفع الراية، ويرفع مستوى العمل والمسؤولية والتعليم والإنتاج.

في هذا العيد، تسترجع عُمان تاريخها التليد، وتدعو أبناءها إلى استكمال المسير واستئناف البناء، وتعزيز الوحدة التي جعلت من هذا الوطن قلبًا واحدًا لا يتشظّى، ومن عهد إلى عهد تتشكل عُمان بروحها الأصيلة: حكمة واستقرار وثقة بأن المستقبل يصنع بإرادة الشعوب ويبنى بالصبر ويحمى بعقولٍ تعرف أن الثبات على المبادئ أعظم قوة في زمنٍ تزدحم فيه المتغيرات.

ويبقى القول.. إنَّنا تحت القيادة الحكيمة لجلالة السُّلطان المُفدّى- حفظه الله ورعاه- نمُد يدنا إلى المستقبل بثقة، وُنحافظ على أركان الدولة الحديثة الراسخة، ويظل الوطن هو الفكرة التي نتنفسها، والنبض الذي يحمل أسماءنا نحو الغد، وإنْ كان لكل شعب عيد، فإنَّ لعُمان عيدًا يعُم القلب كله، ويعلن أن الهوية مسؤولية تُحمَل، وأمانة تَنتظر من يحافظ عليها جيلًا بعد جيل.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • عُمان.. طبقات من التاريخ تتقدم معنا
  • في عيد الوطن
  • المرة الوحيدة التي بكى فيها تشيزني حارس برشلونة خلال مسيرته الكروية
  • عُمان وطنٌ يسكن القلب ومسيرة مجد لا تنطفئ
  • بالصور.. شاهدوا الخيمة التي سيلتقي فيها البابا مع شخصيات
  • اليوم الوطني لسلطنة عمان.. تاريخ عريق وفكر سديد
  • نيفين مختار تكشف المواعيد التي تكره فيها الصلاة.. فيديو
  • تحويل المعرفة إلى قوة استراتيجية
  • اليوم الوطني.. نموذج لتجديد العهد مع المستقبل