هكذا لبنان.. مثل لوحة إيفان الرهيب
تاريخ النشر: 11th, August 2025 GMT
"إيفان الرهيب" هذه اللوحة التي رسمها الفنان الروسي إيليا ريبين، وهي تُجسد إيفان الرهيب، أمير موسكو، مُمسكا ابنه المقتول باكيا، بلوعة وحزن، بعد أن قام بقتله.. هكذا لبنان، يبكي على من قتله.
تاريخيا، كان لبنان ومعه مصر والعراق، دولا تُعرف أنها معاقل أساسية في الثقل الثقافي العربي، إذ مقولة "القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ"، لم تكن من محض فراغ أو سرديات خيالية ليس لها محل من الواقع، فقد شهدت هذه المدن، مع غيرها من المدن العربية، تأسيس وازدهار الصحف والمجلات ودور النشر ومراكز الأبحاث ونوادي السينما والمسرح والموسيقى، فضلا عن التنظيمات والأحزاب التي ملأت المنطقة بالفكر والعمل السياسي.
الآن، تبخر كل هذا. لكن، التبخر الذي حدث في لبنان يختلف عن العراق الذي شهد حصارا ومن ثم حربا لم يتعاف منهما إلى الآن. أما مصر، فهي كما كانت رائدة في مجالات كثيرة، إلَّا أن سُلطوية السيسي الممتدة منذ 11 عاما قد قضت على كثير من العمل الفكري والسياسي والإبداعي، عبر القمع المباشر لتلك الفضاءات وتمثلاتها.
أما لبنان، فبدون التعرض لحصار أو قمع سُلطوي مباشر، تلاشى منه الفضاء الثقافي والسياسي والفكري، بعدما كان مليئا بكل تمثلاته، إذ شهد لبنان منذ أوائل القرن العشرين، ولا سيما بعد عام 48، تصاعدا كبيرا في الساحة الفكرية والثقافية، ما أدى إلى تأسيس التنظيمات والأحزاب، ونشاطية العمل السياسي والعسكري، فضلا عن عشرات الصحف العريقة ودور النشر. كل هذه الفضاءات، وغيرها، كانت ترعاها نخبة عربية، وليست لبنانية فقط، بل كانت نخبة من أفضل الشخصيات في التاريخ العربي الحديث.
كان لبنان عبر تاريخ حكمه اللامركزي مسرحا لاستقطاب واستقرار كثير من مفكري وصحفيين وأدباء العرب، بل وحتى شخصيات عالمية أممية جاءت لتشارك في الكفاح المسلح من أجل تحرّر فلسطين، وغير ذلك من تمثلات ثقافية وسياسية وفكرية. لكن، من بعد اتفاق الطائف عام 1989 تغيّرت الحالة. فماذا حدث؟ ولماذا أفلس لبنان من المفكرين والمناضلين، والآن يكتفي بالرثاء والبكاء على ضحاياه؟
إن المجتمع اللبناني، كما شخصَّه المفكر اللبناني سمير خلف، انتقل من ساحة الحرب إلى ساحة اللعب، وهنا الحرب ليس بمعناها العسكري فحسب، فمنذ اتفاق الطائف، وارتماء الحكومة اللبنانية وطوائفها، بلا أي استثناء، في أحضان النيوليبرالية بقيادة رفيق الحريري، دخلت عصرا استهلاكيا، حاصرَ المُجتمع وتاريخه، وسلَّع كل شيء فيه. وكانت أهم هذه السلع هو التاريخ الثقافي والسياسي اللبناني. إذ يعيش لبنان ضمن حفلة استهلاكية للتاريخ والعمل الفكري السياسي والعسكري، وأصبحت شخصيات كثيرة هي محل تقديس، مع بكاء ورثاء، لا محل نقاش ونقد وإعادة صناعة شخصيات مثلها.
أتذكر، مع أصدقائي المصريين مازحا، حين وصلت إلى بيروت (المدينة الذي أحبّها، والتي أمّنت خوفي من سجون السيسي) من القاهرة، متصوّرا أني بعدما سكنتُ في شارع الحمرا أني سأنزل على المقاهي، فأجدُ من هم أمثال محمد الماغوط ومحمود درويش، حيث كانوا يجلسون على المقاهي لكتابة الشعر والمقالات، أو حتى حين أتمشى في شارع بلِس، بجوار الجامعة الأمريكية، سأعُيد ذات النقاشات التي دارت بين جورج حبش ووديع حداد. لكني وجدت صورا، وإكسسوارات، وحفلات تُدفع لها التذاكر. كل شيء قابل للبيع، بل الشيء المُغلَّف ثقافيا هو الأكثر جاذبية ورواجا للبيع.
فيما بعد، اعتدنا المزاح حين كنَّا نرى مفكرا مثل فواز طرابلسي، فنبتسم ونقول: إنه آخر رجال اليسار العربي، آخر الرجال المُحترمين، حيث له تاريخ سياسي وفكري، بل ومواقف مُشرفة، يتخذها أي إنسان مُتحرر، أو يدَّعي التحرر، فلا يؤيد أنظمة الدكتاتورية العربية، وأبرزهم سفاح العصر-ومعه نتنياهو- الرئيس السوري الهارب بشار الأسد، وأيضا حين نذكر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو الحزب الشيوعي، نقول عن صديق لنا إنه آخر عضو فيها. نقارن، ونضحك على ما وصلت إليه الحالة الفكرية والتنظيمية من إفلاس.
كثير من اللبنانيين حوّلوا التاريخ الثقافي والفني والسياسي إلى سلعة تُباع، في المكتبات والبارات والمسارح وغير ذلك. مؤخرا، مع الاحتفاء والرثاء الكبير، والحزين، الذي ناله زياد رحباني بعد وفاته، وهو فنان قدير ومبدع، تجد "تيشرتات" مطبوعة بصورته للبيع، وبوسترات وكؤوسا عليها مقولاته. هذه الأقوال، والتي هي بمثابة مبادئ مُختصرة، لم تتحول إلى شعارات فحسب، بل شعارات للبيع. وهذه ظاهرة ليست مُقتصرة على لبنان فقط، لكن، برأيي ومن خلال المعايشة، بارزة هناك مقارنة بأي مكان آخر..
أيضا، من آفات استعادة التاريخ اللبناني وشخصياته، أنها استعادة من أجل التباهي، وانتماء من أجل التمايز، لا من أجل طرح فعّال ونقديّ حقيقي للتاريخ ورموزه وتنظيماته، أو من أجل العمل على تطوير ما تركوه من فكر وعمل وفن، بل ما يحدث هو التعاطي بـ"الاستسهال"، أي تبني السرديات "السهلة" بلا أي نقاش، بل تبنٍ من أجل الارتماء سريعا في أحضان أي خندق، والانتماء، دون اختلاف أو نقد أو دعوة للمراجعة، بل انتماء بلا أدنى تفكير، انتماء للراحة، فما أسهل أن نتحدث عن شعارات التحرر والمقاومة والنصر دون أي تكلفة سندفعها، حتى لو كانت هذه التكلفة هي تكلفة من الوقت، أي قراءة كتاب ومن ثم إعادة التفكير في التاريخ والحاضر.
بعدما توفى الفنان اللبناني القدير زياد رحباني، انتشرت له مقاطع فيديو كثيرة، فلا خلاف على فنّه العظيم، ومُوسيقاه وكلماته، وأغنياته ومسرحياته. لكن كان ضمن هذه المقاطع حديثه عن السياسة، وهي رؤى عفوية بلا سياق منهجي أو حديث يتبنى دلائل. ولن أذكر هنا حديثه السياسي عن النظام السوري المجرم والبائد، لكن، مثلا، ضمن أحاديثه، كان حبّه وتأييده لزعيم الاتحاد السوفييتي السابق ستالين.
بتفكير بديهي، هذا يتناقض تماما مع قضية فلسطين، التي يؤمن زياد وجمهوره من ذات الطابع السياسي بتحرّرها، فهناك حقيقة تاريخية تقول: إن الاتحاد السوفييتي بقيادة ستالين هو أول من اعترف بدولة إسرائيل، بعد ثلاثة أيام فقط من تأسيسها، هذا فضلا عن إمداده عصابات بن غوريون بالسلاح الذي ساعدها في تأسيس الدولة، بعد قتل وتهجير الفلسطينيين في نكبة 48.
هناك أمثلة لا تُعد، لكن ما هو مثير أن الجماعة، أي الجمهور، تقتل الثقافة والفنون والسياسة حين لا تأخذها بعين الاعتبار، أي بعين تقرأها جيدا وتناقش وتقارنها وتُفككها وتنتقدها، بل، والأهم، تبني عليها عملا فكريا وتنظيما سياسيا. إن ترديد المقولات والشعارات، حتى وإن كان ترديدا رثائيا وبكائيا، يقتل الثقافة، فأنت تبكي على الشيء الذي تغتاله دون وعي، فما يهمُّ مهدي عامل أو حسين مروة أو فواز طرابلسي وزياد رحباني وغيرهم من تاريخ لبنان الفكري والسياسي والفني، والتاريخ العربي أيضا، هو أن تفهم تجربتهم، وتناقشها وتطورها، بل وتكمل ما تركوه، وتنجح فيما فشلوا هم في تحقيقه، لا أن تُحول كلماتهم إلى مطبوعات تُلبَس وشعارات تُرفع، في فضاء نيوليبرالي، يشجع الرقص على حبّات الكلمنتينا، والإبادة أيضا.
إعادة ترديد الشعارات والمقولات، وتقديس الناس في غير مَحلهم، مرض فكري كبير، فَالفنان هو فنان، وفيلسوف في الفن لا في التحليل السياسي وقراءة التاريخ. وهذه هي إشكالية الثقافة في عمومها، وعلاقتها بالسياسة والأخلاق. فمن بعد 7 أكتوبر، وجدنا فلاسفة ذوي شأن عالمي مثل جيجك وهابرماس وإيفا إيلوز، يؤيدون إسرائيل في قتل أطفال غزة، ويبررون لها. فهل نسامح مُحبيهم وجمهورهم في تبنّي نفس خطابهم، بما أنهم فلاسفة، أو ننتقد ما يقولونه ونسمّي ما تبنّوه بشكل واضح تأييدا للقتل، حتى يتراجعوا ويعتذروا حيال ازدواجيتهِم الأخلاقية؟
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء لبنان السياسة الثقافة لبنان ثقافة سياسة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة رياضة صحافة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من أجل
إقرأ أيضاً:
لوحة جنائزية وتميمة وجمجمة.. تفاصيل استرداد 13 قطعة أثرية من بريطانيا وألمانيا
تسلمت وزارة السياحة والآثار، ممثلة في المجلس الأعلى للآثار، 13 قطعة أثرية كانت قد وصلت إلى أرض الوطن قادمة من المملكة المتحدة وألمانيا، وذلك بالتنسيق مع وزارة الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، وبالتعاون مع كافة الجهات المعنية المصرية والبريطانية والألمانية.
يأتي ذلك في إطار الجهود المستمرة التي تبذلها الدولة المصرية لحماية وصون تراثها الحضاري، واسترداد القطع الأثرية التي خرجت من البلاد بطرق غير مشروعة.
وأكد شريف فتحي، وزير السياحة والآثار، أن استرداد هذه المجموعة يعكس التزام الدولة المصرية، بجميع مؤسساتها، بحماية تراثها الحضاري الفريد، مشيدًا بالتعاون المثمر بين وزارتي السياحة والآثار والخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، مقدماً الشكر على ما أبدته السلطات البريطانية والألمانية من تعاون لاسترداد هذه القطع إلى موطنها الأصلي مصر، ما يعكس عمق التعاون والتنسيق المشترك في مجال حماية التراث الثقافي ومكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية.
ومن جانبه، أوضح الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، أن استعادة القطع الأثرية من المملكة المتحدة تم بعد أن تمكنت السلطات البريطانية، ممثلة في شرطة العاصمة لندن، من ضبطها ومصادرتها، وذلك عقب ثبوت خروجها من مصر عبر شبكة دولية متخصصة في تهريب الآثار.
أما فيما يخص القطع المستردة من ألمانيا، فقد تلقت السفارة المصرية في برلين إخطارًا من سلطات مدينة هامبورج تُعرب فيه عن رغبتها في إعادة عدد من القطع الأثرية المحفوظة بمتحف المدينة، وذلك بعد التأكد من أنها خرجت من مصر بطريقة غير مشروعة.
وأفاد شعبان عبد الجواد مدير عام الإدارة العامة لاسترداد الآثار والمشرف علي الإدارة المركزية للمنافذ الاثرية، أن القطع الأثرية التي تم استردادها من بريطانيا تعود إلى عصور مختلفة من الحضارة المصرية القديمة.
وتضمنت لوحة جنائزية من الحجر الجيري من الدولة الحديثة تُظهر المتوفى "باسر“ المشرف على البنائين في مشهد تعبدي أمام الآلهة أوزير وإيزيس وأبناء حورس الأربعة، وتميمة صغيرة حمراء على هيئة قرد البابون، والتي ترمز إلى أحد الأشكال الرمزية المرتبطة بالآلهة في الفكر الجنائزي المصري للحماية، وإناء ذات قاعدة مصنوعة من الفيانس الأخضر وقارورة صغيرة جنائزية من الفيانس الأزرق كلاهما من الأسرة الثامنة عشرة، بالإضافة إلى جزء من تاج من البرونز عبارة عن ريشة وثعبان وكبش كان جزءًا من تمثال كبير للإله أوزير يمكن تأريخه للفترة ما بين الأسرات 22 و26، وقناع جنائزي من الخرز، من الأسرة 26 وعدد من التمائم جنائزية من الفيانس والحجر الأسود.
وأضاف أن القطع التي تم استعادتها من ألمانيا تضمنت جمجمة ويد من مومياء غير معروفة، بالإضافة إلى تميمة لعلامة الـعنخ، رمز الحياة في الحضارة المصرية القديمة.
اقرأ أيضاًمصر تستعيد 21 قطعة أثرية من أستراليا وتودعها المتحف المصري بالتحرير
بعد استعادة 67 قطعة أثرية.. حواس: أتمنى من ألمانيا تكملة جميلها برد رأس نفرتيتي (فيديو)
زاهي حواس يستعرض حكايات «استرداد الآثار» بمعرض الكتاب في دورته الـ55