إسرائيل المهزومة تحرق آخر أوراقها
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
سعيتُ أن أنكشَ في ملفات التاريخ وكتبها بحثا عن مجريات السياسة وصعود الحضارات وأفولها، وما يرتبط معها من شخوص وكيانات تتباين سماتهم ومواضعهم في التاريخ؛ فمنهم العظماء المصلحون، ومنهم الطغاة المفسدون، ولعلّي مع قصص الطغاة ونهايتهم أستفكر في أسباب نشأة الغرور البشري ونشأة الكيانات الظالمة -الديكتاتورية- وملامح جبروتهم وإجرامهم الباعثة -حتما- إلى سقوطهم المدوي، وكأنني أستعيد تحليلات علي الوردي عن النفس الإنسانية ونزعاتها أو روائع وحي قلمِ الرافعي في قَصصه عن الطغاة ونهايتهم، وهذا ما يصلنا بمحاولة فهم الكيان الصهيوني وتحديد أزمته الوجودية باعتباره مثالا معاصرا حيا للكيانات الظالمة.
يهمني أن أعرف العقيدة الوجودية للصهيونية -التي يمثّلها في يومنا كيان إسرائيل المحتل-، والتي تفرّعت منها مجموعات أخرى من العقائد منها العقيدة العسكرية والدينية وعقيدة السياسة الداخلية والخارجية؛ فمعرفتنا بماهية هذه العقيدة الكبرى وأساليبها حريٌ أن يمهّد لنا طريق الولوج إلى عقل هذا الكيان الصهيوني، ونحتاج قبلها أن ندرك إدراك الكيان نفسه أنه قابع في منطقة الخطر من حيث موقعه الجغرافي الذي يجعله في حالة وعي قطعي بـ« اللا انتماء»؛ فمع كل محاولات التزوير التاريخي والديني والمدخلات التعليمية الزائفة؛ فإن الإنسان اليهودي -خصوصا مَنْ كان مِنْ أصل أوروبي- يدرك بداهةً أنه في بيئته الخاطئة؛ فلا تشابه مع كل محيطه المجاور عِرقا ولغةً، وهذا ما ولّد في داخله عقدة النقص الداعية إلى فرض حالة «اللا استقرار» في المنطقة المحيطة به بشكل دائم؛ فتجعله في وضعية هجوم على كل عدو محتمل بسبب وبدون سبب؛ فيطمع في بقاءٍ طويل عبر تكريس طاقته العسكرية والاستخباراتية في تطبيق نظرية «جزّ العشب» «Mowing the grass» التي داومت إسرائيل على ممارستها منذ تأسيسها؛ فتعمل على إجراءات عسكرية متباعدة لا يطول زمنها مع توسيع الأزمات السياسية التي تكسبها قدرة على استنزاف طاقات خصومها وابتلاع قضاياهم الرئيسة دون الحاجة إلى مواجهة حاسمة ونهائية؛ فلا يفقد بذلك الكيانُ قدرته على إنهاء حالة «اللا استقرار» التي تمدّه بأسباب البقاء الطويل ومبررات التوسّع الاستيطاني الممنهج، وهذا ما تنتهجه -خصوصا- مع منظمات المقاومة غير النظامية مثل حركة حماس وحزب الله، ووفقَ ما نجده في عدد من المصادر -مثل الدراسة التي نُشرت في مجلة «Journal of Strategic Studies» «دورية الدراسات الإستراتيجية» عام 2013- فإن هذه العقيدة الأمنية أقرّها «بن جوريون»؛ لتكون بمثابة الوصية لمن يأتي بعده للعمل عليها؛ لضمان بقاء دولة الكيان الإسرائيلي.
يمكن أن نستشهد على الممارسة الإسرائيلية لهذه العقيدة الأمنية «جزّ العشب» -المذكورة آنفا- عن طريق عدد من الأمثلة منها: عملية «السور الواقي» في الضفة الغربية عام 2002 التي أعقبت تضاعف العمليات الاستشهادية التي قام بها المقاومون الفلسطينيون؛ فعمد الكيانُ إلى تفعيلٍ عسكري جزئي شمل اغتيالات لقيادات المقاومة وحملة اعتقالات كبيرة، وكذلك حرب لبنان عام 2006؛ فكانت حربا لم تجرؤ إسرائيل على إطالتها خوفا من دخولها عش الدبابير واستنزافها عسكريا واقتصاديا خصوصا بعد سحق أحد أهم ألويتها العسكرية «لواء جولاني» من قبل مقاتلي حزب الله، وكذلك نجدها في عمليتها العسكرية في غزة «الرصاص المصبوب» بين عامي 2008 و 2009؛ فاقتصرت على ضربات جوية وعملية عسكرية برية محدودة لم تتجاوز إسرائيل فيها أيّ مخططات لحسم عسكري مع حماس إدراكا منها أنها بهذا ستخرق عقيدتها الأمنية وتدخل منطقة الخطر الوجودي. تؤكد لنا مثل هذه الشواهد أن إسرائيل حافظت لعقود طويلة على ممارساتها العسكرية المحدودة التي تحاول بواسطتها أن تُفقِدَ خصومها بعضا من قوتهم دون الإزالة الكاملة، وأن تُبقي على منهجية ضرورة «وجود الأعداء» الدائمة وكسب استمرار الدعم الأمريكي والغربي لها.
نلحظ -منذ السابع من أكتوبر 2023- تغيرًا في مسار العقيدة الأمنية التي داوم الكيان الصهيوني على اتّباعها لعقود طويلة منذ نشأته؛ من حيث طول فترة الحرب وتوسّع أهدافها التي تشمل القضاء الكامل على الخصم وممارسة أشنع الإبادات الجماعية والتجويع والاحتلال العسكري المباشر غير المتدرج؛ ليجد كثيرون أنه تحوّل في العقيدة الأمنية يجر الكيانَ الصهيوني إلى نقل حالة «اللا استقرار» إلى داخله بدلا من إبقائها خارج حدوده كما هو معهود؛ ويُلمح من هذا التغيير تصاعد للمعارضة في داخل الكيان التي لا تريد رؤيةَ مسلكٍ جديدٍ لعقيدتها الأمنية؛ فتجده مسارا غير معهود يقود الكيان الصهيوني إلى النهاية، ويمكن أن نرى تحذيرات من الداخل الإسرائيلي منذ عدّة أعوام سبقت السابع من أكتوبر تحذّر من السلوكات «الديكتاتورية» للحكومة الإسرائيلية منها ما جاء في مقابلة نشرتها صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 22 يناير 2019، وأجراها الصحفي «أوفر أدرعت» مع المؤرّخ الإسرائيلي «بني موريس»، واستعرض «موريس» في هذه المقابلة رؤية كئيبة لمستقبل إسرائيل؛ فيرى أن استمرار الواقع الحالي يمكن أن يقود إلى تدهور تدريجي باعتبار إسرائيل دولة -وفق رأيه- شرق أوسطية ذات أغلبية عربية، وأن اليهود سيصبحون أقلية مُضطهدة؛ ليملك كثيرٌ منهم خيارات الهجرة العكسية إلى الغرب، ويربط «موريس» هذا المصير بعاملين يتصلان بعضهما ببعض: استحالة دوام حكم شعب محتل بلا حقوق -يقصد عرب 48 خصوصا وبقية الفلسطينيين غير المنتمين إلى دولة فلسطينية مستقلة-، وفي المقابل يجد أن منح الفلسطينيين حقوقًا كاملة سيُنهي طابع الدولة اليهودي ويقود إلى صراع داخلي، ويفترض أن الفلسطينيين بوجود عوامل البقاء مثل الديموجرافيا ووجودهم في محيط خارجي فيه الملايين من العرب؛ فإنهم لن يتنازلوا عن حقوقهم بجميع أنواعها، ويرجّح أنهم سينتصرون في نطاق زمني حدده بثلاثين إلى خمسين سنة.
نستدعي تحذيرات «بني موريس» التي تتعلق بالخطر الوجودي الحتمي للكيان الصهيوني؛ فتبرهن لنا أن مشروع الفكرة الصهيونية محاطٌ بأسباب زواله وعدم جدوى استمراره خصوصا مع انقطاع حبله السري الأهم: الدعم الأمريكي والغربي كما أكده منذ سنوات طويلة عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، ورغم أن هذا التصريح -وسبقه تحذيرات مشابهة من قبل أصوات يهودية وصهيونية- جاء في عام 2019؛ فإننا مع واقع جديد في الممارسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية التي اختارت «الانتحار» السياسي والعسكري عبر تأليب الرأي العام العالمي الذي يشتعل في كرهه للكيان وحكومته وفي مقته للفكرة الصهيونية ومشروعها الظالم، وعبر دخولها في حرب متعددة الجبهات -بعضها لأول مرة مثل الذي حصل مع إيران- منها مغامراتها في حرب طويلة لا تدرك -نفسها- نهاية لها مع المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي يراها كبار قادة جيش الكيان بداية لانهيار وشيك للجبهة العسكرية الإسرائيلية عن طريق اختيارها لمواجهة مع مقاتلين يجيدون فنون حرب الشوارع بكل كفاءة. هنا نجد أن «نتنياهو» اختار تغييرا في العقيدة الأمنية لحساباته الشخصية الخاصة، وكأنه لا يعبأ بمصير كيانه الهزيل الممزق من الداخل والممقوت من الخارج، وخروجه -مؤخرا- بتصريحات إعلامية استفزازية روّج فيها عن مشروعه الصهيوني الكبير «دولة إسرائيل الكبرى» الذي يشمل بعضا من دول المنطقة المحيطة بفلسطين. لا أجد أن هناك مزيدا من الأوراق الرابحة سواء للكيان الصهيوني أو نتنياهو شخصيا؛ فجميعها أُحرِقت، والغليان العالمي في تصاعد يقود حكومات العالم بما فيهم الغرب إلى فكرة التنازل عن الكيان ودعم مشروعه الصهيوني، وجبهة غزة كما أنها فاضحة للكيان وأعوانه؛ فلعلّها كذلك المسمار الأخير الذي يدق في نعش إسرائيل المهزومة.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی
إقرأ أيضاً:
إرادة جيل: تصريحات نتنياهو تؤكد أن الكيان الصهيوني لا يقيده قانون دولي
عبر النائب تيسير مطر، رئيس حزب إرادة جيل، أمين عام تحالف الأحزاب المصرية، عن رفضه واستهجانه الشديدين للتصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن زعمه عن حلمه المارق المسمى بـ«إسرائيل الكبرى»، والتي كشف خلالها عن نوايا الكيان الصهيوني الخبيثة التي تنم عن تصعيد مستمر من الاحتلال وعدم الرغبة في إحلال السلام، وأن الأمر لا يتوقف فقط تعنته ومزيد من الاستيطان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وإنما ضم مزيد من الأراضي العربية، وهو أمر لن يتحقق وواهم في أحلامه التي ستتحطم على صخرة الإرادة العربية والمصرية.
وأكد النائب تيسير مطر، أن المعتقدات الإسرائيلية تلك ومشروعاتهم الوهمية ستنسف أي فرص حقيقية لتحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة التي تزيد التهابًا يومًا بعد يوم، ويؤكد أن الكيان الصهيوني لا يقيده قانون دولي ولا معاهدات وإنما يسير في حماقته ودمويته، وتحدٍ سافر للمجتمع الدولي وكافة القرارات الصادرة من مجلس الأمن الدولي، مُحملًا المسئولية للمجتمع الدولي والدول الكبرى التي تقف صامتة أمام تلك الانتهاكات التي ترتكب بحق الفلسطينيين والاستمرار في سياسة التصعيد ضد الدول المجاورة دون مساءلة.
ولفت رئيس حزب إرادة جيل، إلى أن محاولة الاحتلال شرعنة وجوده الباطل في المنطقة وسياساته التوسعية، التي لم يخفيها، بل قيلت صراحة، تتطلب التكاتف العربي وموقفًا عربيًا موحدًا لحماية الامن القومي العربي، والتحرك الدولي الجاد، لمواجهة هذا التعنت الإسرائيلي، وخطورة سياساته التي ستنعكس حتمًا على المنطقة برمتها وعلى العالم أكمل، لأنه لن يكون ببعيد عن هذا الخطر.
وفي ختام حديثه، شدد النائب تيسير مطر، على أن الاصطفاف الشعبي والسياسي خلف الدولة المصرية والقيادة السياسية، لم تصبح نوعًا من الرفاهية بل حتمية على الجميع، وعلينا أن ندرك حجم ما يحاك ضد الدولة المصرية من مخاطر، الأمر الذي يتطلب دعمًا شعبيًا وسياسيًا لا نظير له، ولاسيما في ظل الهجمة الشرسة التي تقودها جماعة الإخوان الإرهابية ومعاونيها من الخارج، والتحديات الإقليمية والدولية الراهنة.