د. علي بن تميم *

في زمنٍ يتسارع فيه نبض التقنية، وتتداخَل فيه اللغات والثقافات والاقتصادات الإبداعية في نسيجٍ مُعَولَمٍ شديد التعقيد، تبدو الحاجة إلى إعادة تشكيل موقع اللغة العربية في العالم ضرورة ثقافية وتنموية، لا مجرد رفاه لغويٍّ. من هذا الفهم العميق لانزياحات المشهد، ينعقد «كونغرس العربية والصناعات الإبداعية» في دورته لعام 2025، بتنظيم من مركز أبوظبي للغة العربية، تحت شعار: «إعادة تخيّل الإبداع العربي: الابتكار في السرد وتعزيز تفاعُل الجمهور»، ليؤسّس لمرحلة جديدة في التعاطي مع اللغة لا بوصفها تراثاً فقط، بل باعتبارها رأسمالاً حيويّاً، ومَورِداً متجدّداً في سوق الإبداع العالمي.


منذ انطلاقه عام 2022، شكّل الكونغرس منصّة فارقةً، جمعت طيفاً واسعاً من الفاعلين في الصناعات الثقافية، من صُنّاع المحتوى، إلى روّاد الأعمال، والأكاديميين، والمبرمجين، والفنانين، في لقاءٍ تتقاطع فيه الرؤى والخبرات، وتُصاغ فيه خريطة طريق جديدة للصناعات الإبداعية باللغة العربية. هذا التعدد في التخصصات لا يعكس فقط ديناميّة الحدث، بل يُجسّد روح التكامل التي تنهض عليها النهضة الثقافية المعاصرة، وتُحفّز الاقتصاد المعرفي المرتبط باللغة والمحتوى. ولا تقتصر أهمية الكونغرس على كونه مساحة للعرض والنقاش، بل إنه يأتي منسجماً مع توجّهات دولة الإمارات في ترسيخ الصناعات الثقافية كأحد روافد الاقتصاد الوطني. ويتجلّى ذلك في تقاطُع أهدافه مع الاستراتيجية الوطنية للصناعات الثقافية والإبداعية (2021-2031)، والتي تسعى إلى رفع مساهمة هذا القطاع الحيوي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوسيع قاعدته المؤسسية والمهنية. وهي جهود تتكامل مع الرؤية السديدة لقيادة الدولة الحكيمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، الذي جعل من دعم الثقافة والمبدعين والمحتوى العربي ركيزة في مشروع الإمارات الحضاري.
ويقدّم الكونغرس هذا العام نقلةً نوعيّة، بإشراك كبرى شركات التكنولوجيا في جلسات حوارية معمّقة: غوغل، وأمازون، وميتا، وتيك توك، وسناب، في محاولة لقراءة تحوّلات السوق الرقمي، واستشراف موازين القوة والفرص التي تتشكل على وقع خوارزميات التأثير والتوزيع. كما يناقش أدوات جديدة مثل الكتب الصوتية والمنصات التفاعلية، بوصفها وسائط تُمكّن من إعادة الربط مع الجمهور، وتوسيع آفاق التلقي العربي، وتحقيق استدامة اقتصادية للمحتوى. وإذ يفتح الكونغرس نوافذ رحبة على موضوعات التقنية، فإنه يخصص مساحة وازنة لتقنيات الذكاء الاصطناعي والنماذج اللغوية الكبيرة باللغة العربية (LLM)، وتعلم الآلة، واللسانيات الحاسوبية، بما يُعزّز من موقع اللغة العربية ضمن بيئات التطوير التكنولوجي، ويحوّلها من لغة محتوى إلى لغة نظام معرفي متكامل، قابل للتفاعل والابتكار.
ولا يمكن الحديث عن صناعة المحتوى دون التوقف عند دور الأكاديميات، بوصفها الحاضنة الأولى للمعرفة النقدية، والمصدر الأوثق للبيانات والتحليل. ومن خلال مشاركتهم في جلسات الكونغرس، يسهم الأكاديميون في تطوير نظريات الاقتصاد الإبداعي، وتحليل سلوكيات الجمهور، وتقديم توصيات تستند إلى البحث العلمي، ما يعمّق من الفهم ويُثري القرارات والسياسات الثقافية. وفي قلب هذا الحراك، ينهض مركز أبوظبي للغة العربية بدورٍ محوري، مستنداً إلى رؤية استراتيجية تجعل من اللغة العربية بوابة للتنمية، ومن المبدع العربي فاعلاً أساسيّاً في سوق الابتكار. 
وقد انخرط المركز في بناء شبكة واسعة من الشراكات الدولية، مع مؤسسات أكاديمية وثقافية وتقنية، لدعم اللغة والمحتوى والمواهب، وتعزيز الابتكار في مجالات النشر والتقنيات اللغوية والصوتيات والمرئيات. وما من شك أن «كونغرس العربية والصناعات الإبداعية» يتجاوز حدود كونه مناسبة ثقافية، ليتحوّل إلى نقطة ارتكاز في مشروع أكبر، مشروع يؤمن بأن اللغة العربية ليست على هامش المستقبل، بل في صلبه، وأنها قادرة - إذا ما أُحسِن تمكينها - أن تكون حاضنة للمعرفة، وجسراً للابتكار، ومَصدراً للقوة الناعمة، تكتب اسمها في خرائط الاقتصاد والهوية والوجدان الإنساني، بوعيٍ حديث، وروح أصيلة، ونظرة لا تلتفت إلى الوراء.
* رئيس مركز أبوظبي للغة العربية

أخبار ذات صلة تشكيليون: نحتاج إلى قراءات نقدية فكرياً وجمالياً من الإمارات إلى العالم.. «معاً نروي قصتنا»

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: أبوظبي اللغة العربية علي بن تميم الاقتصاد المعرفي الثقافة مركز أبوظبي للغة العربية اللغة العربیة

إقرأ أيضاً:

مبادرة الأعوام الثقافية تحتفي بالثقافتين الأرجنتينية والتشيلية

أعلنت مبادرة الأعوام الثقافية عن إطلاق برنامج حافل بالفعاليات خلال موسم الخريف لتعريف الجمهور في قطر على الثقافتين الأرجنتينية والتشيلية.
ويبرز البرنامج الثقافتين عبر أروقة المكتبات والمتاحف والفضاءات العامة والمسارح، مع التركيز على الفنون والأدب والتصميم والسينما والموسيقى والضيافة والتجارة وفنون الطهي، مُشجعا على الحوار والتعاون بين الثقافات.
وبحسب جدول فعاليات البرنامج، سيشهد شهر سبتمبر المقبل لقاء موسيقيا تقدمه أوركسترا قطر الفلهارمونية بعنوان «أصوات من قطر والأرجنتين» يوم 14 سبتمبر في مركز قطر الوطني للمؤتمرات، بقيادة المايسترو الأرجنتيني إنريكي ديميكي، مع تقديم أعمال المؤلفين الأرجنتينيين الشهيرين إستيبان بنزكري، وألبرتو جيناستيرا، إضافة إلى تقديم مؤلفات محلية مثل أعمال دانا الفردان وناصر سهيم، ممزوجةً بلمسات سينمائية وروح الموسيقى العربية الأصيلة.
وتواصل المبادرة فعالياتها الثقافية والتعليمية، حيث تعلن مبادرة «قطر تقرأ» عن محورها لهذا العام الذي يركز على الأرجنتين عبر كتاب «مريم في الأرجنتين»، ولقاء تفاعلي مع سفير جمهورية الأرجنتين لدى قطر في 8 أكتوبر المقبل، إضافة إلى برنامج القراءة للعائلة، والذي يهدف لتعزيز التفاهم الثقافي لدى الأطفال وتحفيز حب الاستطلاع من خلال فن رواية القصص.
وتشمل فعاليات شهر أكتوبر أيضا، فعاليات الفن العام من 8 إلى 21 من الشهر المذكور، مثل أنشطة جداري آرت في مضمار السباق الأولمبي للدراجات الهوائية، حيث سيحول رسام الجداريات التشيلي دانييل مارسيلي والفنان الأرجنتيني بابلو هاريمبات أنفاق مضمار قطر الأولمبي للدراجات الهوائية إلى لوحة فنية في الهواء الطلق، تحتفي بالثقافات الأصيلة وفن رواية القصص البصرية في أمريكا اللاتينية، إلى جانب ورش الحرف اليدوية «اصنع معي» في النسخة التشيلية بتاريخ 21 أكتوبر.
وفي إطار فعاليات أكتوبر كذلك، تنظم مبادرة الأعوام الثقافية بالتعاون مع وزارة التجارة والصناعة برنامجًا ثقافيًا وتجاريًا متكاملًا من 28 إلى 30 أكتوبر.

قطر مبادرة الأعوام الثقافية

مقالات مشابهة

  • الحكومة تعلن تثبيت طلبات الحصول على الاستثمارات الأجنبية عند 3.42 مليار دولار
  • الحرب في السودان تدمر البنية الثقافية والعلمية وتلتهم عشرات المكتبات
  • «التعليم» تحقق في مزاعم تداول أسئلة اللغة العربية للثانوية العامة الدور الثاني 2025
  • انطلاق امتحانات الثانوية العامة الدور الثاني 2025 في اللغة العربية والتربية الدينية
  • بدء امتحان اللغة العربية بجميع لجان امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة 2025
  • مبادرة الأعوام الثقافية تحتفي بالثقافتين الأرجنتينية والتشيلية
  • بروتوكول تعاون لافتتاح «مركز الأزهر لتعليم اللغة العربية» في رواندا
  • تيته تبحث مع الحداد تثبيت الهدنة وتعزيز الحلول السلمية
  • د. ماهر الحوراني يزور الملحقية الثقافية السعودية في الأردن