مواصلات مشلولة.. وغزة تمشي بالعربات فوق جراحها
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
وسط معاناة الغزيين اليومية، تحوّلت المواصلات إلى معركة يومية مع الحياة. فالتنقل داخل القطاع بات اختبارًا للصبر والألم، خصوصًا للنازحين والجرحى الذين يجدون أنفسهم بين وجع الجسد وعجز الوسيلة. شوارع الوسطى وغرب خانيونس غصّت بالناس الساعين إلى مأوى أو علاج، يسيرون حفاة تحت الشمس أو يتشبثون بأي مركبة متهالكة تمرّ.
رحلة الألم فوق عربات الكرو
تحت شمس الظهيرة الحارقة، يرقد الشاب رائد الزيناتي، البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، فوق عربة «كرو» خشبية تجرها دابة هزيلة، في طريقه إلى مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح. عظامه المكسورة ترتجف مع كل مطبّ، فيما يتصبب جبينه عرقًا وألمه يزداد مع كل اهتزاز.
يصف رحلته قائلًا: «ليس هناك إسعافات أو سيارات، وكي أصل إلى المستشفى خرجت منذ الساعة السابعة صباحًا. أتألم كثيرًا على هذه العربة من المطبات، أشعر بوجع مضاعف».
يحاول رائد أن يتمسك بأطراف العربة، لكنه يصرخ من شدة الألم. ساقه المثبّتة بعصا خشبية ترتطم بخشب العربة المهتزّ. يضيف بصوت متهدّج خلال حديثه لـ«عُمان»: «أنا مصاب في ساقي، وأي حركة تزيد الألم وتضرّ عظامي. من المفترض أن أنتقل إلى المستشفى بسيارة كما أوصاني الأطباء، لكن لصعوبة الأمر جئت على عربة كرو».
لا يكاد يقطع نصف الطريق حتى يضطر السائق إلى التوقف لإراحة الدابة التي أنهكها الحرّ. على جانبي الطريق، ينتظر عشرات المصابين والمرضى نصيبهم من وسيلة نقل، ولو كانت بدائية كهذه. أحد المارة يحاول مساعدته في تثبيت ساقه المضمّدة بقطع من القماش المهترئ، في مشهد يلخص مأساة جيل كامل يواجه العجز بنزيف الصبر.
رائد ليس وحده في هذه الرحلة القاسية، فمئات الجرحى والمرضى يعيشون المأساة ذاتها. بعضهم يسير مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، وآخرون يُنقلون على عربات بدائية بلا أي وسيلة سلامة. يقول رائد وهو يشير إلى الطريق المزدحم: «من حولي ترى أطفالًا ونساءً يسيرون أميالًا لأنهم لا يجدون وسيلة نقل. الحرب أوقفت كل شيء حتى سيارات الإسعاف».
انقطاع المواصلات جعل من المرضى أسرى الألم في بيوتهم. الأدهى من ذلك أن بعض الجرحى لم يتمكنوا من الوصول إلى المستشفيات وفارقوا الحياة في بيوتهم، بعد أن عجزت سيارات الإسعاف عن التنقل في المناطق المدمرة أو نفد منها الوقود.
مشاهد العجز
في قطاع غزة اليوم، أصبحت المواصلات مشهدًا من فوضى الحياة اليومية. الطرق مزدحمة بالنازحين المتجهين إلى مراكز الإغاثة أو المستشفيات، ومفترقات الطرق تحوّلت إلى ساحات انتظار طويلة تمتد لساعات. الناس يقفون تحت الشمس الحارقة، ينتظرون أي وسيلة تنقلهم، حتى لو كانت عربة يدوية أو شاحنة متهالكة.
يصف عاصم بدوان أحد الشباب الغزيين المشهد قائلًا: «ترى الناس واقفين عند المفترقات بالعشرات، يحملون أطفالهم وأمتعتهم، ينتظرون الميكروباص أو الشاحنة التي قد لا تأتي أصلًا. كثير منهم يضطرون إلى السير لأميال طويلة، وبعض النساء يحملن أطفالًا رضعًا تحت الشمس».
شوارع غزة امتلأت بالمركبات المدمّرة، بعضها تركه أصحابها بعد نفاد الوقود، وأخرى تعطلت بسبب السولار الصناعي الرديء الذي يُستخدم بديلًا عن الوقود الأصلي. وفي الوقت نفسه، تحوّلت عربات الكرو التي كانت وسيلة هامشية في الأحياء إلى وسيلة رئيسية للنقل، خصوصًا في المناطق التي انقطعت عنها الطرق.
أزمة النقل لم تعد مجرد مسألة معيشية، بل أصبحت عنوانًا للانهيار العام في بنية الحياة اليومية. فالمواطن الذي كان يركب سيارة أجرة للوصول إلى عمله أو بيته، أصبح الآن يصارع كي يجد مقعدًا في سيارة نصف محطّمة، أو يتشبث بحافلة مكتظة بأضعاف طاقتها، كي يقضي حاجيات بيته.
القصف المتكرر دمّر مئات المركبات، فيما أجبر نقص السولار محطات الوقود على إغلاق أبوابها. هذه العوامل مجتمعة ضاعفت الضغط على ما تبقى من وسائل النقل القليلة، فتحولت الطرق إلى طوابير بشرية طويلة، وازدادت معاناة النازحين في التنقل بين المخيمات والمستشفيات والأسواق.
ميكروباص مثقل بالألم
على مدخل دير البلح، يقف خالد أبو شقير، سائق ميكروباص متهالك يعود إلى ما قبل الحرب بسنوات، يحمّل الركاب فوق طاقته كل صباح. وجهه المتعب ويداه المتسختان بالزيت تحكيان عن معركة يومية مع الحياة. يقول: «لا توجد قطع غيار للسيارات أو سولار جيد. نعتمد على السولار الصناعي الذي يفسد السيارات ويصدر عوادم رائحتها صعبة».
يشرح خالد أن أغلب السائقين توقفوا عن العمل لأن تكاليف التشغيل أصبحت أعلى من العائد. «التكلفة علينا مرتفعة جدًا، والطرق مكسرة بسبب القصف. والله يكون في عون الناس، نحن نحاول مساعدتهم ولكننا لا نستطيع تغطية الطلب».
ويشير خلال حديثه لـ«عُمان»: «إلى أن المسافة التي كانت تستغرق عشر دقائق قبل الحرب قد تستغرق اليوم ساعة أو أكثر بسبب الازدحام وسوء الطرق. «الناس تتدافع على الأبواب، وبعضهم يركب فوق السيارة. لا أحد يشتكي لأن الجميع يعرف أن لا بديل».
يشير بيده إلى صف طويل من الناس ينتظرون خلف الميكروباص. «هؤلاء ينتظرون منذ ساعتين. بعضهم نازح من رفح أو خانيونس، يريد فقط أن يصل إلى مستشفى أو إلى مركز توزيع المساعدات. ما نراه اليوم لم يحدث في غزة من قبل».
نساء تحت الشمس
في وسط الطريق، تقف سمية العطار، وهي نازحة في الثلاثين من عمرها، ترتدي حجابًا يغطي وجهها المتعب، وتحت عينيها هالات سوداء من قلة النوم والجوع. تقول وهي تمسح العرق عن جبينها: «نقف في الشمس لساعات طويلة كي نركب المواصلات، وبعدها نبقى في الشمس أيضًا داخل السيارات المزدحمة. هذه المواصلات متعبة جدًا لنا، ترى كيف الشمس حامية وحرارتها عالية، ومع ذلك ننتظر لأننا مضطرون».
تسرد سمية خلال حديثها لـ«عُمان» كيف أصبحت رحلتها اليومية إلى السوق مغامرة شاقة. «أحيانًا أنتظر ثلاث ساعات ولا أجد مكانًا في الميكروباص، فأضطر إلى الركوب فوق الأمتعة أو في صندوق سيارة نقل صغيرة. النساء والأطفال يعانون أكثر من غيرهم، لا ظل ولا راحة».
تضيف بنبرة حزينة: «قبل الحرب كنت أتنقل بسهولة، الآن حتى المواصلات أصبحت حلمًا. أحيانًا نضطر للسير على الأقدام، ومعنا أطفالنا وأغراضنا. تعبنا من الانتظار ومن هذه الحياة الصعبة».
نساء فوق عربات الكرو
أما آلاء البرعي، وهي نازحة في الثانية والعشرين من عمرها، فتقول: «لم نفكر في حياتنا أننا كفتيات وسيدات سنركب عربات الكرو. أبي كان يملك سيارة، ولم أركب سيارة أجرة من قبل، ولكننا الآن مضطرون لركوب هذه العربات للوصول إلى السوق أو قضاء حوائجنا. ماذا نفعل في هذا الوضع؟».
تتحدث آلاء وهي متشحة بالسواد، تمسك بطفلة صغيرة بيدها، وتقول لـ«عُمان»: «الرحلة على هذه العربات متعبة جدًا، بلا مظلة ولا وسيلة أمان. لكننا لا نملك خيارًا آخر. السيارات نادرة، وأجرتها مرتفعة جدًا».
تشير إلى الطريق أمامها وتقول: «انظر، حتى الرجال يدفعون عربات بأيديهم، ينقلون النساء والجرحى. المشهد كله مؤلم. لم نكن نتخيل أن غزة ستصل إلى هذا الحد».
وقود مفقود
في المقابل، يؤكد عائد أبو رمضان، رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة، أن أزمة الوقود هي السبب الجوهري في شلل قطاع المواصلات. يقول: «ما يدخل إلى القطاع من شاحنات وقود أسبوعيًا لا يكفي حتى لتشغيل ربع محطات الوقود. نتحدث عن كميات محدودة جدًا من السولار الصناعي تُستخدم للمولدات والمستشفيات قبل أن تصل إلى السائقين».
ويضيف لـ«عُمان» أن مئات المركبات توقفت عن العمل منذ أشهر بسبب نفاد الوقود وغياب قطع الغيار. «هناك محطات مغلقة بالكامل، وبعضها تعرض للقصف المباشر. حتى من يملك المال لا يجد الوقود في السوق».
ويحذر أبو رمضان من أن استمرار الأزمة سيؤدي إلى انهيار كامل في حركة النقل التجارية والمدنية على حد سواء. «النقل في غزة شريان حياة، وعندما يتوقف، تتوقف معه كل مظاهر الاقتصاد والمعيشة».
ويؤكد أن غرفة التجارة رفعت عدة مطالب إلى الجهات الدولية لإدخال كميات كافية من الوقود وتخصيص جزء منها لقطاع النقل، إلا أن الاستجابة ما تزال محدودة. «نحن بحاجة إلى 200 شاحنة أسبوعيًا على الأقل لتغطية الاحتياج الأدنى، بينما ما يدخل فعليًا لا يتجاوز 40 شاحنة».
ويختم بالقول: «ما يحدث ليس مجرد أزمة وقود، بل أزمة إنسانية شاملة. عندما لا يجد الجريح أو المريض وسيلة للوصول إلى المستشفى، فذلك يعني أننا أمام انهيار حقيقي في أبسط مقومات الحياة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تحت الشمس لـ ع مان
إقرأ أيضاً:
استشارية تربوية تحذر المطلقات: الأم السوية لا تستخدم أبناءها وسيلة انتقام بعد الطلاق
أكدت الدكتورة ياسمين الجندي، الاستشارية التربوية، أن الأم السوية لا يمكن أن تتخلى عن أبنائها أو تستخدمهم وسيلة للانتقام بعد الطلاق، مشيرة إلى أن بعض الممارسات المنتشرة في بعض المناطق الريفية والصعيدية، ما زالت تعكس ثقافة مجتمعية خاطئة ترى أن الأبناء ملك للأم وحدها بعد الانفصال.
وقالت الجندي خلال مشاركتها في برنامج "خط أحمر" الذي يقدمه الإعلامي محمد موسى على قناة الحدث اليوم، إن هناك حالات كثيرة تتحول فيها علاقة الأم بالأبناء بعد الطلاق إلى حالة من الانتقام المغلّف بالمبررات، فتبرر الأم احتكارها للأبناء بالخوف عليهم أو بحجة تقصير الأب في النفقة، موضحة أن هذه السلوكيات في حقيقتها تُعمّق الخلاف وتؤذي الأبناء نفسيًا قبل أن تمسّ الطرف الآخر.
وأضافت أن الحل الجذري لهذه الإشكالية يبدأ من تغيير الثقافة المجتمعية ونشر الوعي بأهمية “الرعاية المشتركة”، بحيث يكون كلا الوالدين مسؤولًا عن الأبناء تربويًا وتعليميًا وإنسانيًا، دون إقصاء أحدهما، لافتة إلى أن مشاركة الأب في الولاية التعليمية ومتابعة شؤون أبنائه تُعدّ خطوة ضرورية لتصحيح المسار.
وحذرت الجندي من تخاذل بعض الآباء عن أداء دورهم التربوي بحجة الخلاف أو البُعد، مؤكدة أن الأب أيضًا عليه مسؤولية متابعة الأبناء وتقديم الدعم النفسي والعاطفي لهم، قائلة:“ليست الأم وحدها المسؤولة، وعلى الأب أن يعرف ما المطلوب منه تجاه أبنائه، لا أن يكتفي باللوم أو الانسحاب.”
وأشارت إلى أن بعض الأمهات يعبرن عن خوفهن بطريقة غير سوية عبر الغضب أو السيطرة، وهو سلوك نابع من اضطراب نفسي عابر أو شعور بالعجز بعد الانفصال، مؤكدة أن الحل يكمن في الوعي والتهدئة وليس في التصادم.
واختتمت الجندي حديثها بالتأكيد على أن الأبناء ليسوا أداة ضغط بين الأبوين، بل هم مسؤولية مشتركة تتطلب وعيًا وتعاونًا لحمايتهم من الانكسار النفسي، داعيةً إلى تبني منهج تربوي جديد يضع مصلحة الطفل فوق كل اعتبار.