مصطلح الانحياز الإعلامى قد يفسره البعض خاصة الأكاديمين والمختصيين بأنه الانحياز السياسى فى عرض الأخبار السياسية وتحليلها وتفنيدها، كل من جانبه، وكل من وجهة نظره وموقعه السياسى، سواء مع أو ضد؛ سواء إن كانت سياسة داخلية أو خارجية، وهناك دراسات سنوية ترصد إحصائيات حول وسائل الإعلام العالمية ومدى توازنها أو انحيازها السياسى لقضية أو لبلد أو لسياسة دون أخرى، وتصنف هذه المواقع وتلك القنوات وفق المعايير المهنية والموضوعية ومدى المصداقية والشفافية ومساحات الحرية المتاحة لعرض الأخبار والآراء المتعددة، لكن القضية الأهم اليوم هو ذلك الانحياز الإعلامى للتفاهة والسطحية والمظهرية وكل ما هو غث وردىء حتى وصل بنا الحال اختصار معنى الحياة فى المظهر وليس الجوهر والمخبر، فنحول كل ومعظم ما يقدمه الفن والأدب والإبداع إلى مجرد أطروحات شكلية وحوارات فارغة المضمون ساذجة المحتوى بدعوى أن هذا هو ما يطلبه الجمهور والمستمعين والمتابعين، وإن تلك اللقاءات البائسة تلهى النفوس المنهكة وتفرغ الرؤوس المتعبة من ضغوط الحياة.
وتدريجيًا ظهرت ظواهر الخلل المجتمعى بعد تدخل وسائل الإعلام وشبكات التواصل فى الحياة اليومية ودقائق وتفاصيل التواجد الحياتى للمشاهير وللأفراد العاديين.. حتى أن بعض الإعلاميين والإعلاميات حدث ليهم خلط كبير فى نسق ومنهج المهنة وتصوروا أنهم يعيشون حياة النجوم والنجومية، فإذا بنا أمام ظواهر خطيرة تختلط فيها الأدوار وتتداخل الشخوص ونفقد البوصلة وينفصل الفن عن الرسالة والإبداع عن المجتمع والمبدع عن نبض الشارع ويتصور الفنان والإعلامى أن كل ما يهم المتابع هو تفاهات الظهور والعلاقات الشخصية، فأصبحت المهرجانات والحفلات وسرادقات العزاء بديلًا عن مناقشة قضايا الأعمال الفنية والدرامية والسينمائية والأدبية، وتلاشت القوى الناعمة فلا كتاب ولا أدب ولا نقد ولا شعر ولا موسيقى ولا فنون تشكيلية وبصرية طرح للنقد والتحليل والتنوير فى أى وسيلة إعلامية ولا تخرج كاميرات ولا فريق عمل ليتابع ندوة نقاشية علمية، ولكن المهم عرض ونشر الترند والفستان وتسريحة الشعر والقبلات الزائفة والمشاعر الخادعة.. البرامج الإعلامية لا تخرج عن هذه الدائرة المغلقة وتتنافس الإعلاميات والإعلاميين فى استضافة الصغار والكبار يتحدثون عن صغائر وتوافه الأمور حتى تزيد نسب المتابعة ويتسابق المنتجون وشركات الإعلانات فى توقيع عقود البرامج والمسلسلات والأفلام والحفلات!
هذا إعلام منحاز لكل غث وردى.. إعلام تسطيح وتدمير للمجتمع بعد أن قضت الألعاب الإلكترونية وأفلام العنف ومسلسلات البلطجة على الصغار والمراهقين وحولت العديد منهم إلى زومبى نجد الإعلام يدفع بالمجتمع إلى حالة إستقطاب واستنفار بين الطبقات من خلال الإعلانات المستفزة والبرامج المكررة المعادة عن النجوم وأشباههم وتتصدر الأخبار صورهم وحركاتهم.. أهى عملية إلهاء فقط أم عملية تغييب للعقل أم أن هذا الانحياز قد يؤدى إلى احتقان وفصام انفجار لا تحمد عقباه ولا نتحمله ولا نرجوه…
الخريطة الإعلامية لا تحتاج إلى هذا الكم الهائل من الهيئات الإعلامية واللجان الفرعية المنبثقة من اللجان العليا والهيئات الكبرى لنصل فى نهاية المطاف إلى كلام فى مؤتمرات وتوصيات فى ندوات وصور على صفحات السوشيال ميديا والمحصلة أن الماكينة لا تخرج قماشًا يستر العقل من الغباء والفكر من الهراء والوجدان من الفراغ والنفس من الخواء…
الانحياز الإعلامى أوصلنا لأن ننجذب فى صوفية متشددة مغيبة للعقول فى الموالد الشعبية ذات الصبغة الدينية، وكذلك الموالد والمهرجانات الاستعراضية ذات النكهة الفنية دون مضمون ودون إبداع ودون تناغم وتناسق طبيعى بين أفراد المجتمع... احذروا الانحياز الإعلامى لطفيليات الأرض ومتسلقى الشهرة لأنه زبد يذهب جف.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الحياة اليومية شركات الإعلانات
إقرأ أيضاً:
المجلات العلمية بين التوثيق التاريخي وإثراء الحياة الثقافية
للمجلات العلمية دور بارز في صناعة الثقافة والمعرفة المستدامة؛ لأنها تشكل رافدًا أساسيًا من هذه المعرفة، وتؤدي غرضًا للتوثيق التاريخي للأطوار التي يمر بها المجتمع والحالة الثقافية والفكرية التي يعيشها، لاسيما تلك التي تناقش المجالات المعرفية والفكرية بحيادية واستقلالية لا تتدخل فيها الأجندة التي يُمكن أن تؤدي إلى نشر أوراق لا قيمة علمية لها؛ وبالتالي فإن محاولة دراسة أو تتبع تأثير المجلات العلمية على الحياة الثقافية وإسهامها في توثيق التطور المجتمعي مهمة لتحسينها ومعرفة جوانب النقص أو التحسين الممكنة، أو محاولة وصف كيفية إسهامها على الأقل وأهمية استقلالها العلمي.
تنقل المجلات العلمية الأبحاث المكتوبة من التخصصية الضيقة إلى الفضاء الثقافي العام، بحيث يُمكن لغير المتخصص أن يقرأ في الموضوع دون الحاجة اللازمة لمعرفة التخصص معرفة دقيقة، وعلى الرغم من أن المقالات عادة تناقش أو تحاول سد فجوات معينة في موضوع الكتابة، إلا أنها لا تتعمق تعمقًا مبالغًا فيه تخصصيًا، سوى في بعض المجلات العلمية أو بعض المقالات، أما الغالب فيمكن للقارئ العادي قراءته، وبالتالي، فإن دور المجلات العلمية هنا هو أن تنقل النقاش أو الحوار من الدوائر الضيقة التي يُمكن أن تكون في غرف الأكاديميا أو المحاضرات الجامعية، إلى النقاش الثقافي الأوسع الذي يشارك في تحسينه أو تجويده أو نقده الجميع، دون الحاجة إلى الرخصة الأكاديمية أو العلمية، لكن هذا لا يدعو أيضًا أن يكون النقاش نابعًا من توجهات أو نظرات تنميطية مسبقة، وإنما يكون نقاشًا يحاول الوصول إلى الموضوعية ولو بشكل قليل، ويسهم في وضع لبنة في بناء النقاش.
هذا يسمح للباحثين والمجتمع أن يتحاوروا بشكلٍ علمي وقادر على البناء المعرفي بشكل أكبر، إذ نقل النقاشات وما يدور فيها إلى المجتمع يطور الحاسة النقدية ويسمح بزيادة «التقدم» المعرفي. فضلا عن ذلك، فإن المجلات العلمية تشكل ذاكرة معرفية تحفظ التحولات الفكرية والاجتماعية للأمم، إذ إن هذه الدراسات المكتوبة في المجلات تتيح للباحثين المستقبليين أن يستخدموها مصادر لتتبع التطور الذي شهدته المجتمعات وما جرى فيها من نقاشات ومطارحات فكرية وعلمية والسياقات المحلية والعالمية التي أدت إلى هذه النقاشات، فعلى سبيل المثال يُمكن دراسة الحالة العلمية والمعرفية للمنطقة خلال الإبادة الجماعية لغزة بعد 2023 من خلال تتبع المقالات والدراسات العلمية المنشورة في المجلات التي كتبت حول هذه المسألة، والمقارنة بين مجتمع وآخر أو دولة وأخرى في المواقف والقرارات.
وفي عمان، شهدت الحياة الثقافية ظهور العديد من المجلات التي تنشر دراسات محكّمة، ينبغي الالتفات لها وتتبعها ودراستها. وقبل الإشارة لعينات تمثيلية من المجلات العمانية، لابد من ذكر مجلة الغدير التي صدر أول عدد لها في 1977 على يد أحمد الحارثي رئيسًا للتحرير، وأحمد الفلاحي مديرًا للتحرير، وتوقفت في 1984، وهي بحاجة لإعادة البحث فيها أو إنتاجها لما تمثله من قيمة علمية وثقافية في وقتها. من ضمن العينات التمثيلية للمجلات في العصر الحديث مجلة التسامح التي صدرت لأول مرة في 2003 عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وكان الهدف المعلن منها كما ورد في العدد الأول أنها ترسخ «الإسلام الذي يقوم على التسامح وحق الاختلاف وتعددية وجهات النظر» و«إعادة الاعتبار للاجتهاد بوصفه مسألة حيوية في الفكر الإسلامي من أجل تجديد ذاته في مواجهة العصر ومتغيراته» و«العمل على إصلاح مواطن الخلل في الفكر الإسلامي» وكانت تعنى بالخطاب الإسلامي في العموم وشؤون الحياة المعاصرة كما ورد في الصفحة الأولى من العدد الأول، والتي تحول اسمها لاحقًا لمجلة «التفاهم». ومجلة نزوى، المجلة الأكثر شهرة على الأرجح، التي صدرت لأول مرة في 1994 عن دار جريدة عمان للصحافة والنشر(آنذاك)، وتذكر في العدد الأول أنها جاءت «كمتطلب ثقافي ضروري في مسار الثقافة العمانية ومحاولة بلورة خصوصيتها وأصواتها وروافدها المتعددة» (ص4)، واستطاعت مجلة نزوى أن تصدر حتى الآن مائة وثلاثة وعشرين عددًا، آخرها كان في يوليو، 2025، واستقطبت العديد من الكتّاب والباحثين وأصبحت مقروءة بشكل كبير في الدول العربية على العموم. وآخر المجلات العلمية التي صدرت مجلة الدراسات الاستراتيجية والدفاعية عن أكاديمية الدراسات الاستراتيجية والدفاعية بوزارة الدفاع، صدر العدد الأول منها في إبريل 2025، والهدف من صدورها هو «نشر بحوث عالية الجودة في مجالات الدراسات الاستراتيجية والدفاعية بهدف تعزيز الحوار العلمي وتقديم المعرفة في هذه المجالات»، وقد نشرت عدة دراسات محكمة في المجلة.
من خلال النماذج السابقة يُمكن تبين أن المجلات العلمية تحفظ السجلات الفكرية والتحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وعليه فإنها توثق لفترات تاريخية يُمكن أن تكون مصادر أولية للباحثين الذين يودون تتبع التطور الفكري والمعرفي للمجتمع خلال الفترات المختلفة، فعلى سبيل المثال، يُمكن تتبع التطورات الفكرية والمعرفية والمجتمعية والسياسية من خلال تتبع الموضوعات المطروحة في مجلة نزوى من العدد الأول في 1994 وحتى العدد الأخير في 2025، وإذا افترضنا وجود مجلات عديدة تناقش مجالات مختلفة يصبح التتبع أكثر ثراء وقوة.
وإذا كانت الصحف اليومية تشكّل ثراء راهنًا أو لحظيًّا بما يُكتب فيها من مقالات رأي أو حول القضايا وجوانب الثقافة، فإن المجلات العلمية تُعنى بالعمق التحليلي والمعرفي، وليست بالضرورة مرتبطة براهنية زمنية معينة، إلا بمقدار الفترة التي تشتغل عليها الدراسة الموضوعة في المجلة، وبالتالي فإن وجود الصحف لا يغني عن المجلات المتخصصة، إضافة إلى أن المجلات تفترض سياسات تحكيمية ومعايير علمية أكثر دقة من الصحف اليومية، مما يجعلها أكثر ثراءً وقوة.
بالنسبة للمجلات العمانية، فمن الانتقادات التي يُمكن توجيهها إليها، أنها ليست مستقلة في أغلبها، إذ الأغلب يتبع مؤسسة حكومية معينة تمثّل الممول الرئيس، ولعدم وجود مراكز أبحاث مستقلة، فإن المجلات المستقلة غير موجودة تقريبا، ومن المهم والضروري أن تكون المجلات العلمية مستقلة حتى تحافظ على مصداقيتها وقوتها، إذ هي لا تتبع أي أجندة معينة، وبالتالي تتخذ من المنطلق المعرفي أساسًا لها، وكذلك حتى لا ترتبط بالضرورة بشخصيات معينة، تنتهي بانتهاء فتراتهم الوظيفية، ولذلك فالاستقلالية بالنسبة للمجلات العلمية مهمة وضرورية، وهذا يتعلق أيضًا باستقلالية لجان التحكيم فيها حتى تضمن قبول المقالات ذات المنهجية العلمية الجيدة، وهنا تتكون مشكلة أخرى يُمكن أن تواجه هذه المجلات وهي القدرة على الموازنة بين الجاذبية الثقافية والصرامة الأكاديمية، بحيث إنها تبقى مقروءة وتؤثر في الحياة الثقافية للمجتمع ولا تبقى في معزل عنه، وفي الوقت ذاته تلتزم بالمعايير الأكاديمية التي تحفظ جودتها ودقتها ومصداقيتها، وقد استطاعت العديد من المجلات العربية أن تحافظ على هذه الموازنة وتكوّن جمهورًا دائمًا لها.