إن الصراع بين الحق والباطل ليس أمرًا جديدًا، بل هو صراع قديم قِدَمَ الخلق متجدد بوجود الخلق، بدأ مع أول الخليقة، وما زال مستمرًا إلى أن تقوم الساعة. إنه صراع النور مع الظلام، وصراع الإيمان مع الكفر، وصراع الهداية مع الجهل. لقد أراد فرعون أن يقتل النبي موسى عليه السلام، لا لِجُرمٍ اقترفه أو تمرُّدٍ أعلنه، ولكن فقط لأنه دعا قومه إلى الحق، إلى كلمة “لا إله إلا الله”، الكلمة الأبدية التي تُعلن أن لا معبود بحقٍّ إلا الله.
وكذلك حاول كفار قريش أن يُسكتوا نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، لا لأنه ظلمهم أو اعتدى عليهم، ولكن لأنه دعاهم إلى عبادة إلهٍ واحد، إلهٍ فوقهم، وفوق آرائهم، وفوق آلهتهم.
واليوم، في زماننا هذا، لا يزال الصراع نفسه قائمًا، لكنه ليس حربًا بالسلاح، بل حربٌ باردة على العقيدةِ والإيمان. إنه صراعٌ بين من يؤمن أن هناك إلهًا فوق كل شيء، يُدبِّر الأمر، ويَحكم في خلقه، وإليه يرجع الأمر كلّه. إن أصحاب النفوذ والسلطة يحاولون إطفاء نور الإيمان، ذلك النور الذي بدأ منذ أكثر من ألفٍ وأربعمائة سنة برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لن يستطيعوا، لأن هذا النور ليس من صنع البشر، فالإسلام ليس علامة تجارية، ولا فكرة عابرة إنسانية، بل هو دينٌ إلهيّ، كلمات ربانية تدخل لتسكن قلوب وأرواح من اعتنقوه من الإنسانية، كلمات من الله حيّة باقية لا تموت، إن الإيمان حقيقةٌ تتغلغل في قلوب البشر، ونورٌ لا تستطيع أي ظُلمةٌ ولا ظَلمةٌ أن يطفوه، فإذا غرس الله بذرة الإيمان في قلب إنسان، فلن يستطيع إنسٌ ولا جان أن يمحوها. ذلك النور سيبقى ساطعًا في كل جيل، وفي كل أرض، وفي قلب كل مؤمنٍ يقف مع الحق، قال الله تعالى: “يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” (سورة التوبة: 32).
فما موقف المسلمين اليوم من هذا الصراع؟ ولِماذا يُعاني الكثير من المسلمين اليوم؟ ولماذا هذا التدهور الخطير لحال الأمة؟ كمؤمنين إن صح التعبير يجب أن نعرف ونعي أولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “أشدُّ بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ”، وفي المقام الثاني يظنّ كثيرٌ منا أنَّ كل ما يحدث لنا سببه الحكومات أو الإعلام أو الأعداء؟ لكن الحقيقة التي لا نريد أن نعرفها لأنها تُحملنا المسؤولية وهي أن الداء والمرض الذي نعانيه ينبع من داخلنا، في قلوبنا، فلابد من تغيير أولوياتنا، فنحن الداء ونحن الدواء!!! لقد بدأ الإنهيار عندما ضعف الإيمان في قلوبنا وتحول الدين من منهج حياة إلى عادات شكلية، فلا أحد يمنعنا من الصلاة، ولكننا توقفنا عن تقديرها، ولا أحد يمنعنا من تلاوة القرآن وحفظه، ولكننا توقفنا عن العمل به، ولا أحد يمنعنا من قول الحق، ولكننا صمتنا عن الباطل باسم الخوف والحفاظ عن المصلحة.
إن أول طريق الإصلاح ليس في تغيير الحكومات أو القوانين، بل في تغيير القلوب والأنفس فالله جل جلاله يقول: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11). وبعد هذا القول الفصل نريد أن نذكر هنا ما حدث من تغيير لحكومة مصر وليبيا، في الأولى كان بداية التغيير جيدا حيث تم اختيار الرئيس محمد مرسي رحمه الله، ولكن لم يكن الشعب مهيئ ولا الدول المحيطة، فعمل الأعداء باختلاق الذرائع والإطاحة بالرئيس مرسي بوسائل مختلفة وعلى رأسها الإقتصاد وكان عامة الشعب معهم لعدم الوعي وعدم الإستعداد لتحمل المسؤولية، وكذلك الحال في ليبيا وإن اختلف الأمر بعض الشيء ولكن عدم الوعي وإدراك المسؤولية على تغيير الأنفس كما ورد في التوجيه الربانيّ سببا رئيسيا في استمرار معاناة الشعب الليبي؟ فإذا أردنا تغيير الحال الذي نحن فيه، وإذا أردنا أن يرفع الله عنا الضعف، وأن يُعيد لنا وللأمة عزّتها، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا: أن نُصلح نيّاتنا، وأن نُطهّر قلوبنا من الرياء والحسد والكبر، وأن نُعيد الصلاة إلى مكانها في حياتنا، والقرآن إلى منهجه في بيوتنا، والأخلاق إلى سلوكنا اليومي. إن التغيير الذي ننشده تغيير ليس سهلا فهو تغيير جذري لنمط تفكيرنا وأسلوب حياتنا وترتيب كُلّي لأولوياتنا في الحياة، هو تغيير يقلب ما نحن فيه رأسا على عقب لتصبح الآخرة هي همنا في كل قول نقوله وكل عمل نعمله، ويجب ألا يتوقف هذا التغيير القولي والعملي الراسخ في القلب عند مكان ولا زمان محدد فبذلك وحده وبعون الله سنغير أنفسنا وسنغير الأمة كاملة، فأمتنا لم تتغير في تاريخنا إلا بالأخيار الذين غرس الله الإيمان الراسخ في قلوبهم ولمّا رأى الله الصدق والإخلاص في نواياهم وترجموه عملا في حياتهم صاروا بعونه قدوة للعالمين. ونختم بقول الله تعالى: “فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الحجر: 92-93)، أي سنُسأل عن كل ما نعمل صغيرا كان أم كبيرا، عن إيمانٍ وقر في قلوبنا، وعملٍ صالحٍ ظهر على جوارحنا وصدّقته أفعالنا، أو ربما عمل غير ذلك؟
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
إقرأ أيضاً:
خطبتا الجمعة بالحرمين: القرآن الكريم فيه حقائق التربية الفاضلة وأُسس المدنية الخالدة.. ومعرفة أسماء الله تزيد الإيمان وتشرح الصدر
ألقى الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله -عز وجل-، والحذر من اقتراف الشرور والأكدار، والسعي لكل صلاح وإعمار.
وقال: في هذا العصر الزاخر بالصراعات المادية والاجتماعية، والظواهر السلوكية والأخلاقية، والمفاهيم المنتَكسَة حيال الشريعة الربانية، لا بد من الرجوع إلى هدايات القرآن وآدابه، ففيه حقائق التربية الفاضلة، وأُسس المدنية الخالدة، ولذلك كانت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثرة موعظة النَّاس بالقرآن، بل كان كثيرًا ما يخطب النَّاس به”.
وأضاف يقول: “اشتملت سورة الفاتحة على أمهات المطالب العالية، فلا يقوم غير هذه السورة مقامها، ولا يَسُدُّ مَسَدَّهَا، ولذلك لم يُنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، جمعت أصول القرآن، ومعاقد التوحيد، ومجامع الدعاء، وهي رقية فيها الشفاء، واشتمالها على التوحيد وأصول الدين وقواعده ومقاصده، والحمد والثناء والدعاء، وعلمتنا هذه السورة الدعاء والثناء، والتوسل والعبودية والولاء والبراء، كما اشتملت على آداب الطلب، وثبوت أوصاف الكمال والجلال والعبودية والاستعانة بالله رب العالمين وحده لا شريك له”.
وشدد الشيخ عبدالرحمن السديس على احتياج الأمة إلى تأمل هدايات كتاب ربها ومقاصده في عصر عمت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، وتَنَكَّبَ فيه بعضهم صراط الله المستقيم بموجات تشكيك وإلحاد، وضروب إشراك وبدع ومحدثات، ونيل من مقامات الأنبياء والرسل، ووقيعة بالصحابة والآل الكرام، وتوسيع هوة الخلافات، وهم يكررون هذه السورة عدة مرات، ولا سيما في زمن أصيبت فيه الأمة بفقد علمائها الربانيين، وفقهائها الراسخين، سائلًا الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، ويجعلنا من أهل إياك نعبد وإياك نستعين، ويجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه جواد كريم.
ولفت فضيلته النظر إلى أنه لا بد أن تُربّى الأجيال والمجتمعات على هدايات القرآن الكريم قولًا واعتقادًا، وعملًا وانقيادًا علميًا، وخلقيًا واجتماعيًا، لأنها ملاك الحفاظ على الهوية الإسلامية، والحصن المكين دون تسلل ذوي الأفكار السلولية شطر ديار المسلمين الأبية، وبذلك تعز الأمة وترقى، وتبلغ من المجد أسمى مرقى، مؤكدًا أن الحاجة ماسة لهدايات القرآن في هذه الحقبة، ذلك أن العالم اليوم يعيش الفتن والقلاقل، ويحيى على كثير من الزعازع والبلابل، مبينًا أن واجبنا أن ننهل من معين القرآن الكريم ونرتوي منه لنحقق سعادة الدنيا والآخرة.
* وفي المسجد النبوي الشريف ألقى خطبة الجمعة اليوم فضيلة الشيخ حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله وطاعته. قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وبيّن فضيلته أن أنفع العلوم وأشرفها العلم بأسماء الله الحسنى الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات وأجلها وأعظمها، وأعظم ما يستنير به القلب وينشرح به القلب والصدر معرفة أسماء الله الحسنى، مشيرًا إلى أن من تلقى أسماء الله الحسنى بالقبول والرضا والتسليم والإذعان لها بالانقياد والاطمئنان إليها وتعبد الله بها ازداد إيمانًا.
وأكّد أن المعرفة بأسماء الله والحاجة إليها تملأ القلب بمراقبة الله مراقبةً تامة في الحركات والسكنات والمسارعة إلى الطاعات والبعد عن المنهيّات، وزاد الإيمان بالله والعبودية، قال تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وبين إمام وخطيب المسجد النبوي أن لله تسعًا وتسعين اسمًا، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن لله تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دخل الجنة».
وأشار فضيلته إلى أن العبد يجب عليه إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، ونفي ما نفاه عن نفسه في نصوص القرآن والسنة من غير تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل، قال جل من قائل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وأوضح تقسيم الدعاء إلى دعاء عبادة بالعلم بأن الله هو القوي المتين، فهو يقوي التوكل على الله والركون إليه، ويقطع الالتفات إلى غيره من المخلوقات. ودعاء المسألة والطلب فهو دعاء العبد بما يتوافق مع حاجته.