في وقتٍ تتسارع فيه التحولات في ميزان القوى الدولي، جاءت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) في ماليزيا، لتكشف عن فصلٍ جديد من الصراع الأمريكي-الصيني على النفوذ في واحدة من أكثر مناطق العالم حيوية واستراتيجية.

ورغم الطابع الاقتصادي الظاهر للزيارة، فإنها تحمل في عمقها أبعادا سياسية وأمنية تمتد من بحر الصين الجنوبي إلى مضيق ملقا، ومن الرقائق الإلكترونية إلى موازين التحالفات الإقليمية.



وبهذا تدخل آسيا ساحة الحرب الباردة الجديدة؛ لم تعد الحرب بين واشنطن وبكين مجرد منافسة تجارية، بل تحولت إلى سباق شامل للهيمنة على النظام العالمي القادم. وفي هذا السياق، تمثل دول الآسيان -التي تضم أكثر من 650 مليون نسمة وناتجا إجماليا يقارب 4 تريليونات دولار- جائزة كبرى للطرفين.

فالصين نجحت خلال العقد الأخير في تحويل الآسيان إلى شريكها التجاري الأول، وفرضت حضورها عبر اتفاقيات مثل "RCEP" ومبادرة "الحزام والطريق"، لتجعل من البنية التحتية والتجارة والديون أدوات نفوذ متشابكة.

في المقابل، تحاول واشنطن إعادة التموضع بعد تراجع نسبي في عهد الإدارات السابقة، عبر مبادرات مثل الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (IPEF)، وتحالفات بحرية جديدة مع اليابان والفلبين وأستراليا.

زيارة ترامب جاءت لتُثبت أن أمريكا لا تزال في الميدان، وأنها لن تترك الصين تحكم وحدها فضاء آسيا الصاعد.

كوالالمبور بين المطرقة والسندان

اختيار ماليزيا كمحطة رئيسية لم يكن اعتباطا؛ فهي تقع في قلب شبكة التجارة الآسيوية، وتمتلك صناعة متقدمة في الرقائق وأشباه الموصلات، وهي إحدى نقاط التحوّل التي تراهن عليها واشنطن في حرب التكنولوجيا مع بكين.

لكن كوالالمبور -كغيرها من عواصم الآسيان- تمارس توازنا دقيقا: فهي تستقبل الاستثمارات الصينية في الموانئ والبنية التحتية، وفي الوقت ذاته تبحث عن شركاء غربيين لتخفيف الارتهان الاقتصادي.

ومن هنا، مثّل حضور ترامب محاولة أمريكية لاختراق هذا الحياد النسبي، وتحويله إلى اصطفافٍ ناعم عبر "صفقات تجارية" و"شراكات أمنية" دون مواجهة مباشرة مع الصين.

يعتبر اقتصاد الرقائق.. سلاح القرن الحادي والعشرين، ففي خلفية المشهد تدور واحدة من أكثر المعارك خفاء: حرب الرقائق.

الصين تريد السيطرة على سلاسل الإنتاج والتوريد، بينما تسعى أمريكا لتفكيك اعتمادها عليها، عبر نقل المصانع والمراكز التقنية إلى دول مثل ماليزيا وفيتنام وسنغافورة. وبذلك تتحول الآسيان إلى ساحة استراتيجية لصناعة العقول الإلكترونية التي ستحدد شكل التفوق الاقتصادي والعسكري في العقود المقبلة.

زيارة ترامب حملت في حقيبتها وعودا باستثمارات في هذا القطاع، لكن المراقبين يرون أن بكين ما زالت تتقدم بخطوات عملية أعمق، عبر التمويل طويل الأجل والتكامل الصناعي.

من الاقتصاد إلى الجغرافيا السياسية

لا يمكن فصل الاقتصاد عن الأمن، فالولايات المتحدة تدرك أن السيطرة على الممرات البحرية -من بحر الصين الجنوبي إلى مضيق ملقا- تعني التحكم في شرايين التجارة العالمية. ولهذا، تتزايد الدوريات المشتركة والتحالفات البحرية بقيادة واشنطن، بينما ترد الصين بتعزيز وجودها العسكري في الجزر المتنازع عليها.

بهذا المعنى، لم تكن زيارة ترامب مجرد مبادرة اقتصادية، بل رسالة جيوسياسية إلى الصين: "الولايات المتحدة عادت إلى آسيا، ولن تتركك تتمدد دون كلفة".

وبهذا يمكن القول إن الآسيان هي الكتلة الحرجة في ميزان العالم. فوسط هذا الاستقطاب، تحاول دول الآسيان أن تمارس "فن الحياد النشط": الاستفادة من الطرفين دون الانزلاق إلى أحدهما، والحفاظ على وحدة المنظمة التي تتعرض لضغوطٍ متزايدة من الخارج.

لكن ذلك الحياد يزداد صعوبة كلما تعمق الصراع الأمريكي- الصيني، وكلما أصبحت القضايا التقنية والاقتصادية قضايا أمن قومي لا يمكن الفصل فيها.

الخلاصة: آسيا تختبر القرن الأمريكي الجديد

زيارة ترامب إلى ماليزيا ليست مجرد محطة في أجندة دبلوماسية، بل علامة على التحول الاستراتيجي في خريطة النفوذ الدولي.

فالآسيان باتت اليوم ميزان ترجيح بين القوتين الأكبر في العالم: إذا نجحت الصين في تثبيت نفوذها، ستغدو آسيا مركز النظام العالمي الجديد، وإذا استطاعت واشنطن استعادة زمام المبادرة، فسيُكتب فصلٌ جديد من "القرن الأمريكي" ولكن بوجهٍ آسيوي هذه المرة.

ما جرى في كوالالمبور ليس مؤتمرا اقتصاديا، بل جولة من الحرب الباردة الجديدة؛ حرب تُخاض بالصفقات بدل الدبابات، وبالرقائق بدل الرصاص، وبالتحالفات بدل الاحتلال.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء ترامب الصيني الاقتصادي اقتصاد امريكا الصين اسيا ترامب قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة زیارة ترامب

إقرأ أيضاً:

أسعار النفط ترتفع مع إعلان إطار عمل تجاري بين واشنطن وبكين

الجديد برس| اقتصاد| شهدت أسعار النفط العالمية ارتفاعاً، الاثنين، بعد إعلان كبار المسؤولين الاقتصاديين في الولايات المتحدة والصين التوصل إلى إطار عمل لاتفاق تجاري، ما خفّف المخاوف من تأثير الرسوم الجمركية وقيود التصدير على النمو الاقتصادي العالمي. وسجلت العقود الآجلة لخام برنت 66.41 دولاراً للبرميل بزيادة 47 سنتاً (0.71%)، بينما بلغت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط 61.94 دولاراً للبرميل بارتفاع 44 سنتاً (0.72%). وجاء هذا الصعود بعد مكاسب الأسبوع الماضي التي بلغت 8.9% و7.7% على التوالي نتيجة العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا. وأوضح وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت أن الإطار الجديد يسمح للرئيس دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ بمناقشته لاحقاً، ويجنب فرض رسوم جمركية أميركية بنسبة 100% على السلع الصينية ويؤجل تطبيق ضوابط تصدير المعادن الأرضية النادرة. وأشار محللو السوق إلى أن هذا التطور يخفف المخاوف من تخمة المعروض التي أدت سابقاً إلى انخفاض الأسعار، ويحد من إمكانية قيام روسيا بتجاوز العقوبات عبر خصومات الأسعار أو أساطيل الظل لجذب المشترين. وأكد ترامب تفاؤله بإمكانية التوصل لاتفاق مع بكين، متوقعاً عقد اجتماعات ثنائية في الصين والولايات المتحدة خلال الأيام المقبلة.

مقالات مشابهة

  • عبدالحليم قنديل: الصراع في غزة يعكس تعقيدات المشهد الدولي وتراجع النفوذ الأمريكي
  • خبير اقتصادي: الهدنة بين واشنطن وبكين هشة
  • قبل قمة ترامب-شي.. واشنطن وبكين تتوصلان إلى اتفاق اطار لتسوية الخلافات التجارية
  • أسعار النفط ترتفع مع إعلان إطار عمل تجاري بين واشنطن وبكين
  • مسئول أمريكي سابق يكشف عن هدف زيارة ترامب لقمة آسيان
  • مسؤول أمريكي سابق: زيارة ترامب لقمة آسيان تهدف لإعادة رسم النفوذ الأمريكي في آسيا ومواجهة الصين
  • ترامب يلمّح إلى اتفاق تجاري مرتقب مع الصين بعد تفاهم أولي في محادثات كوالالمبور
  • ترامب يعلن سلسلة اتفاقات تجارية في آسيا لتعزيز النفوذ الأمريكي قبيل لقائه بالرئيس الصيني
  • بداية مبشرة للهدنة التجارية.. محادثات مثمرة بين واشنطن وبكين