هدنة حذرة تكشف ميزان قوة جديدا بين الصين وأميركا
تاريخ النشر: 31st, October 2025 GMT
اختتم اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الأميركي دونالد ترامب في بوسان بكوريا الجنوبية بإعلان هدنة تجارية مؤقتة بين أكبر اقتصادين في العالم.
لكن ما بدا ظاهريا انفراجة دبلوماسية يخفي وراءه في الواقع مرحلة جديدة من الندية الإستراتيجية بين القوتين، حيث لم تعد الصين تتعامل من موقع الدفاع كما في السابق، بل باتت اليوم قادرة على فرض إيقاعها على المفاوضات وعلى الأسواق معا.
ووفقا لتقارير من صحيفتي فايننشال تايمز وإيكونوميست، فإن هذه الهدنة رغم ضيق نطاقها تعكس تحولا عميقا في المشهد الدولي، حيث تتراجع مظاهر الهيمنة الأحادية الأميركية أمام صعود منظومة اقتصادية موازية تقودها بكين بثقة متزايدة.
تحول في موازين القوةوأوضحت "فايننشال تايمز" أن الرئيس الصيني شي جين بينغ حرص خلال اللقاء على إظهار توازن الرمزية بين "الحلم الصيني" و"رؤية ترامب لجعل أميركا عظيمة من جديد" حين قال مخاطبا نظيره الأميركي "أؤمن بأن نهضة الصين يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع رؤيتكم لجعل أميركا عظيمة مجددا"، لكن خلف هذه العبارات الودية -كما تضيف الصحيفة- كان هناك تحول جوهري في ميزان القوة بين الطرفين.
فبعد عقد من التراجع أمام العقوبات والرسوم الأميركية أصبحت بكين اليوم أكثر استعدادا للمواجهة وأكثر قدرة على توظيف أدواتها الاقتصادية سلاحا جيوسياسيا، فمنذ إعلان ترامب في أبريل/نيسان الماضي عما سماه "يوم التحرير التجاري" عبر فرض رسوم جمركية تصاعدت إلى 145% نجحت الصين في الرد بالمثل وإجبار واشنطن على تعليق القرار مؤقتا.
وفي أزمة المعادن النادرة -التي تحتكر الصين أكثر من 70% من إنتاجها العالمي- لجأت بكين إلى تقييد الصادرات، مما تسبب باضطرابات في الصناعات الأميركية الحساسة، وأعاد واشنطن إلى طاولة المفاوضات، كما واجهت بكين القيود الأميركية على تصدير الرقائق الإلكترونية إلى آلاف الشركات الصينية بإجراءات مضادة مست مكونات إستراتيجية في سلاسل الإمداد العالمية.
إعلانوقالت "فايننشال تايمز" إن هذه الوقائع المتتابعة كشفت أن الصين لم تعد تستجيب لضغوط واشنطن، بل "ترد بالمثل وتفرض شروطها"، وإن البيت الأبيض "يقبل اليوم بحقيقة أنه يتعامل مع منافس ندي قادر على إحداث ضرر اقتصادي حقيقي"، في إشارة إلى ما وصفه محللو بنك "بي إن بي باريبا" بأنه "تأكيد نهائي لصعود الصين إلى مرتبة القوة الاقتصادية العظمى الثانية في العالم".
اتفاق هش لا يلغي المواجهةأما "إيكونوميست" فقد رأت أن القمة لم تفض إلى حل جذري للنزاعات التجارية، بل إلى "تجميد مؤقت للأسلحة الاقتصادية"، موضحة أن الطرفين اتفقا على تعليق القيود التصديرية والجمركية لمدة عام واحد، مع خفض واشنطن الرسوم على منتجات صينية متصلة بمادة الفنتانيل بنسبة 10 نقاط مئوية لتستقر عند 45% في المتوسط، مقابل استئناف الصين شراء فول الصويا والطاقة الأميركية.
وأضافت المجلة أن الاتفاق يعكس "هدوءا تكتيكيا لا يعبر عن تسوية دائمة"، لأن الرسوم الأميركية على السلع الصينية لا تزال مرتفعة، في حين لم تلغ أي من الإجراءات التكنولوجية التي تستهدف شركات أشباه الموصلات الصينية.
وأشارت المجلة إلى أن ترامب -الذي وصف اللقاء بأنه "يستحق 12 من أصل 10 نقاط"- خرج من القمة دون أن يقدم تنازلات جوهرية في الملفات السياسية الحساسة، مثل قضية تايوان وبحر جنوب الصين، في حين احتفظت بكين بقدرتها على استخدام المعادن الأرضية النادرة والرقائق والمركبات الكهربائية ورقة ضغط رئيسية.
ويرى محللون في "جي بي مورغان لإدارة الأصول" أن الجانبين احتفظا بـ"أدوات تفاوض مفتوحة" من خلال إبقاء العقوبات الجزئية دون إلغائها، معتبرين أن "الاتفاق يهدف إلى تهدئة الأسواق مؤقتا، وليس إلى إنهاء التنافس الهيكلي المستمر بين الطرفين".
"الند العالمي" ومرحلة ما بعد التفوق الأميركيوتضيف "فايننشال تايمز" أن تصريحات المسؤولين الأميركيين تعكس إدراكا متزايدا بأن الصين أصبحت قادرة على "إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي بما يخدم مصالحها"، فمع انكماش خيارات واشنطن أمام قيود المعادن النادرة وتراجع إنتاجها المحلي في بعض الصناعات التكنولوجية باتت أدوات الضغط الأميركية أقل تأثيرا مما كانت عليه قبل عقد من الزمان.
ويقول الخبير هان شين لين مدير مكتب "ذا آسيا غروب" في بكين لمجلة إيكونوميست إن "الصين تلعب لعبة طويلة المدى تبني فيها دفاعاتها الاقتصادية عبر توسيع السوق الداخلية وتعزيز سلاسل التصنيع والسيطرة على المواد الحيوية مثل الليثيوم والنيكل والمعادن الأرضية النادرة".
ويضيف أن واشنطن ما زالت تملك عناصر تفوق لا يمكن تجاهلها مثل الابتكار التكنولوجي والسيطرة على الدولار وشبكة التحالفات الأمنية، لكن "بكين تمارس صبرا إستراتيجيا وتعمل على تحييد هذه القوة ببطء عبر بناء استقلالها الصناعي والتقني".
وتشير "إيكونوميست" إلى أن الاتفاق الأخير لا يعني "نهاية الحرب التجارية"، بل هو فاصل مؤقت في صراع طويل المدى سيعاد فتحه مع كل أزمة اقتصادية أو انتخابية في أي من البلدين.
نهاية زمن الهيمنة الأحاديةوخلصت "إيكونوميست" إلى أن قمة بوسان تمثل تجميدا مؤقتا للنزاع لا تسويته، لكنها تحمل في طياتها مؤشرا على نهاية مرحلة الهيمنة الأميركية الأحادية على النظام الاقتصادي الدولي، فالصين لم تعد مجرد قوة صاعدة، بل أصبحت لاعبا موازيا في تحديد قواعد التجارة والابتكار العالمي.
أما "فايننشال تايمز" فترى أن "الاختبار الحقيقي" للعلاقة بين الجانبين سيظهر خلال الأشهر المقبلة حين يبدأ تنفيذ خطة الصين الخمسية الجديدة (2026-2030) التي تجمع بين هدفين متناقضين ظاهريا: تحفيز الطلب الداخلي وتعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، وهو ما قد يدفع النزاع التجاري نحو جولة جديدة من التوتر.
إعلانوبينما يتبادل الطرفان تصريحات التهدئة تظل الهشاشة سيدة الموقف، إذ يبدو أن "الهدنة ليست أكثر من استراحة بين جولات مواجهة اقتصادية ممتدة" كما ختمت "إيكونوميست"، مؤكدة أن العالم يعيش اليوم لحظة توازن هش بين قوتين عظميين لم تعودا تتنافسان على النفوذ فحسب، بل على تعريف شكل العولمة المقبلة نفسها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فایننشال تایمز
إقرأ أيضاً:
كيف سمحت الحكومة الأميركية ببيع تقنيات المراقبة إلى الصين؟
غضت الحكومة الأميركية البصر عن وصول مثيلتها الصينية إلى أحدث التقنيات التي تطورها الشركات الأميركية واستخدامها في تطوير أنظمة المراقبة والقمع منذ ما يقرب من عقدين وتحت أنظار 5 حكومات أميركية جمهورية وديمقراطية، وذلك وفق تحقيق نشرته "أسوشيتد برس".
ويضيف التقرير الذي أسهم كل من جارانس بيرك، ودايك كانج، وبايرون تاو في كتابته بأن الحكومة الأميركية ساعدت في بعض الأحيان الشركات الأميركية على بيع تقنياتها إلى الهيئات المرتبطة بالحكومة الصينية مثل الشرطة الصينية وشركات المراقبة وحتى بعض الهيئات الحكومية الأمنية.
وتم ذلك عبر مجموعة من الثغرات القانونية التي تتيح للكيانات الصينية المختلفة سواء كانت حكومية أو خاصة الوصول إلى التقنيات الأميركية من خلال آليات للالتفاف حول قواعد التصدير الصارمة مثل الخدمات السحابية وموزعي الطرف الثالث فضلا عن الثغرات في العقوبات التي أقرتها الحكومة الأميركية بعد مذبحة "تيانامين".
ورغم الاعتراضات الحزبية المختلفة، غض الكونغرس البصر عن هذه الثغرات وسمح للحكومة الصينية والشركات على حد سواء باستغلالها وفق ما جاء في التقرير.
ويشير التقرير إلى أن الصين تمكنت من شراء معدات لصناعة الشرائح المتطورة بأكثر من 20 مليار دولار خلال عام 2024، وذلك رغم العقوبات المتعلقة ببيع الشرائح وتقنياتها المختلفة.
ويوجه التقرير أصابع الاتهام إلى الشركات التقنية العاملة في الصناعات المختلفة وجماعات الضغط المرتبطة بها، مضيفا بأن نفوذ شركات "وادي السيليكون" وجماعات الضغط التابعة لها أصبح أكثر وضوحا في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب.
كما أن ترامب سعى في الشهور الماضية لتعزيز الارتباط بين الاقتصاد الأميركي ودافعي الضرائب من جهة، ومن الجهة الأخرى الشركات التقنية ومصالحها في بيع تقنياتها للصين، وذلك عبر مجموعة من القرارات المختلفة المرتبطة بشركات الشرائح الأميركية.
إعلانومن بينها استحواذ الحكومة الأميركية على حصة 10% تبلغ قيمتها 11 مليار دولار في شركة "إنتل" لصناعة الشرائح، فضلا عن رفع ضوابط التصدير لشرائح "إنفيديا" و"إيه إم دي" إلى الصين مقابل 15% من إيرادات.
إنفاق مئات الملايين على جماعات الضغطكشف تقرير "أسوشيتد برس" عن إنفاق الشركات التقنية مئات الملايين من الدولارات خلال السنوات الـ20 الماضية على جماعات الضغط التابعة لها، وهي الجماعات التي استهدفت القوانين التي تؤثر على العلاقة التجارية بين الصين وهذه الشركات.
ويذكر تشو فنغسو الناشط الصيني الذي كان جزءا من تظاهرات ميدان "تيانامين" عام 1989 قبل أن يصبح مواطنا أميركيا وشاهدا على انتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت أثناء فض هذه التظاهرات في الصين في حديثه مع "أسوشيتد برس" أن الحكومة الأميركية تتجاهل مساعدة الشركات لبكين في مراقبة شعبها وفرض الرقابة عليه.
ووقف فنغسو أمام الكونغرس الأميركي في عام 2024 طالبا من الحكومة الأميركية التحقيق في دور الشركات الأميركية في بناء أنظمة المراقبة الصينية، وهو الأمر الذي عززه تقرير منفصل نشرته "أسوشيتد برس" في سبتمبر/أيلول الماضي حول دور الشركات الأميركية في بناء أنظمة المراقبة الصينية.
وقال فنغسو واصفا هذا التغافل: "إنه مدفوع بالربح، ولهذا السبب أسكتت المناقشات الإستراتيجية أو أجلت.. أشعر بخيبة أمل شديدة.. هذا فشل إستراتيجي للولايات المتحدة".
ويذكر التقرير تعاون "إنتل" السابق مع شركة صينية لجمع بصمات أصابع المواطنين خلال الأعوام الماضية دون الكشف عن تفاصيل هذا التعاون للحكومة الأميركية.
ومن جانبها، أوضحت "إنفيديا" أن شرائحها لا تستخدم في بناء أنظمة المراقبة أو برمجياتها، كما أنها غير مصممة للتعامل مع هذه البرمجيات ولا تتعاون الشركة مع السلطات القانونية في الصين.
ثغرة الخدمات السحابيةتستطيع الكيانات الصينية سواء كانت شركات أو هيئات حكومية الوصول إلى أحدث الشرائح المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والاستفادة من قدراتها الهائلة دون حتى أن تشتري الشرائح أو تحصل عليها من أي شركة.
وذلك بفضل مراكز الحوسبة السحابية والخدمات المرتبطة بها مثل "مايكروسوفت أزور" أو "إيه دبليو إس"، ويشير التقرير إلى أن هذه الشركات لا ترفض تخزين مقاطع المراقبة أو حتى استخدام أنظمتها في المراقبة.
ويذكر تقرير "أسوشيتد برس" أن شركة "إس دي آي سي كونتك" (SDIC Contech) وهي شركة تقنية مملوكة للحكومة الصينية وتعمل مع الذكاء الاصطناعي حاولت الوصول إلى خدمات "إيه دبليو إس" و"أزور" عبر تعاقد خارجي.
كما سعى معهد "شنغهاي تشي تشي" (Shanghai Qi Zhi) وهو معهد بحثي مدعوم من الحكومة الصينية ويعمل على تقنيات حساسة عديدة مثل التشفير إلى الحصول على خدمات سحابية بقيمة تتجاوز 280 ألف دولار من "أزور" أملا في الاستفادة من شرائح "أوبن إيه آي" الموجودة بمراكز بياناتها.
وينطبق الأمر كذلك على "داهوا" (Dahua) و"هيكفيجن" (HikVision) البارزتين في قطاع كاميرات المراقبة، وكلاهما يشير إلى استخدام خدمات "أمازون" السحابية في مواقعهم الرسمية.
إعلانومن جانبها، أنكرت "مايكروسوفت" تقديمها لهذه الخدمات السحابية لأي شركة صينية تعمل في قطاع المراقبة، كما أن "أوبن إيه آي" أكدت أنها ملتزمة بمعايير وقوانين "مايكروسوفت" في الخدمات السحابية ولا تعمل مع الشركات الصينية.
قوانين عفا عليها الزمناستغلت الشركات الصينية أيضا مجموعة من الثغرات الموجودة في القوانين التي أقرتها الحكومة الأميركية بعد مجزرة "تيانامين"، إذ لم تكن تغطي هذه القوانين تقنيات المراقبة الحديثة التي تتضمن كاميرات المراقبة الحديثة وأنظمة التعرف على الوجه وحتى برمجيات المراقبة.
ولكن حاول المشرعون في 5 مرات مختلفة في الفترة بين عام 2006 وعام 2013 إغلاق هذه الثغرات دون طائل بسبب العقبات البيروقراطية.
وتعد محاولة وزارة التجارة في عام 2008 لتحديث قوانين العقوبات حتى تشمل أجهزة الاستشعار الحيوي أبرز الأمثلة على هذه العقبات البيروقراطية، إذ تعطل الطلب حتى جاءت إدارة جديدة لاحقا.
ويرى رون وايدن السيناتور الديمقراطي من ولاية أوريغون أن جميع الشركات التقنية تملك ثروة طائلة، وهو القاسم المشترك بينها جميعا والسبب الرئيسي في توقف كافة المحاولات لتحديث قوانين الصادرات.