حكمة الأجداد: البحث عن الخلود
تاريخ النشر: 1st, November 2025 GMT
إيهاب الملاح -
(1)
تنشر هذه الحلقة من (مرفأ قراءة) بالتزامن مع الحدث الثقافي والحضاري والإنساني الأهم والأكبر في السنوات الأخيرة؛ أقصد افتتاح المتحف المصري الكبير بجوار هضبة الأهرامات؛ البقعة الأقدم والأكثر إثارة وسحرا وغموضا في تاريخ الإنسانية...
مئات الملايين في أنحاء المعمورة من أقصاها إلى أقصاها يتابعون الحدث الكبير؛ ليس بوصفه حدثا يخص مصر والعالم العربي فقط بل يخص الإنسانية كلها، حيث تتجه الأنظار جميعها صوب التحفة المعمارية الأكبر والأوسع في العالم التي تضم أكبر قدر ممكن عرفته البشرية من القطع الأثرية التي لا تقدر بمال أو ثمن أو قيمة، بل وأغزرها وأندرها وأجملها في العالم أجمع.
وقد استدعى هذا الحدث الكبير والمهيب (أكرر ليس في مصر فقط والعالم العربي بل في العالم أجمع من مشرقه إلى مغربه) البحث عن أسرار وعجائب الحضارة المصرية القديمة، الغالبية العظمى تتجه إلى المعابد والمسلات والمقابر الأثرية والتماثيل.. إلخ، وقليلون من يتجهون إلى الحكمة والأدب والنصوص والقصص والأساطير!
(2)
طغى الاهتمام بالأدب اليوناني القديم، والأساطير اليونانية والرومانية، في مطلع النهضة الحديثة، على غيرها من الآداب والفنون التي تنتمي إلى حضارات أخرى وثقافات مغايرة (المصرية والفارسية والعراقية والصينية.. إلخ)، ربما كان يعود ذلك -بشكل أو بآخر- إلى عدم اكتمال معرفتنا بما خلفته حضارة مصر القديمة من نصوص وآداب وحكم ومواعظ، ولم تكن الاكتشافات الأثرية قد منحتنا ما نستطيع أن ندرسه ونقيمه ونكتب عنه.. إلى أن قيض الله لهذا الأمر جيل رائد عظيم من رواد البحث الأثري والمتخصصين في الحضارة المصرية القديمة استطاعوا بجهدهم ودأبهم أن يتعلموا اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) ويتقنوها، وأن يتمكنوا من قراءة النصوص المحفورة على جدران المعابد وجوانب المسلات الشاهقة، وعلى التوابيت، وكذلك قراءة ما حوته أوراق البردي التي أخذت تكتشف تباعًا.
فطوال خمسة آلاف سنة، أو يزيد، لم تخلُ أرض مصر من حاملي "الكنوز" وصانعي الكنوز؛ أنتجت الحضارة المصرية القديمة كل أنواع الكنوز؛ أدبًا وفكرًا وفنًا ورسمًا ونقشًا ونحتًا ومركبا وصندلا وقصة و"بردية" وحكمة ومثلًا.. وشخصيات خيالية عاشت في وجدان البشرية قبل أبطالها الخياليين الآخرين بآلاف السنين!
(3)
وتداعت عشرات الصور والأغلفة والكتب والأسماء؛ واكتشفت أن من كنوزنا المخفية الأدب المصري القديم؛ بكل ما قدمه من حكم وأمثال وقصص وحكايات شعبية، سجلت على جدران المعابد وأسقف المقابر وأوراق البردي؛ وتذكرت السفر العظيم جدًا الذي كتبه شيخ شيوخ علم المصريات والآثار المصرية القديمة «الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة» في جزئين، وهو الذي ألحقه بموسوعته الفذة الضخمة العظيمة «مصر القديمة» في 18 مجلدًا.
لكن ظهوره الأول (بالنسبة لي)، مستقلا في جزئين، كان في سلسلة (كتاب أخبار اليوم) التي كان يشرف عليها ويرأس تحريرها آنذاك المرحوم جمال الغيطاني.
في هذا الكتاب قرأت لأول مرة عن قصص وحكايات وشكاوى الفلاح الفصيح، وسنوحي المصري، وعرفت أقوال وحكم الحكماء المصريين القدماء العظيمة التي توصي بالرحمة والانتماء إلى الوطن والأسرة والتكافل الاجتماعي وتقديس الأم وحب الحياة وتقدير القيمة.. إلخ. أحببت الأدب المصري، وأدركت عظمته، وأنه سبق في الأدب والفنون، مثلما سبق في كل مناحي الحياة والحضارة. وانفتحت الشهية على آخرها لقراءة كل ما يتيسر من كتب ودراسات ومتون عن الأدب المصري القديم، والحياة المصرية القديمة، وهنا لا بد من الاعتراف بأنه لولا مشروع (مكتبة الأسرة) والسلسلة الرائعة العظيمة (المصريات) التي كانت تصدر ضمن سلاسلها الباهرة القيمة، ما كان تيسر لي ولا لغيري عشرات الآلاف، أن يقرأوا تاريخ مصر القديمة، وجوانب الحضارة المصرية القديمة، وأن يعرفوا الكثير ليس فقط عن تاريخ الأسرات، والآثار المشهورة مثل الأهرامات وأبو الهول، بل أيضًا عن الجوانب المختلفة من الحياة اليومية المصرية، وعن الفن، والطب، والمرأة، والفنون، والفلك، والتحنيط، والرسم، والمسلات... وكل ما يتصل بهذه الحضارة العامرة الخالدة..
(4)
وتوالت الكتب والمؤلفات التي تعرض لهذا الجانب الرائع من الحضارة المصرية القديمة؛ الأدب والحكمة والمواعظ والقصص والأمثال، لكن ظل كتاب سليم حسن (الأدب المصري القديم) بجزئيه فريدا في بابه، غنيا بنصوصه، مستوعبا لموضوعاته.. لكن غزارة المادة واتساعها وتعدد مصادرها القديمة فضلا على حجم الكتاب الكبير نسبيا استدعت تاليا أن يقوم سليم حسن بتقديم موجز مختصر في حجم الجيب يضم نصوصا مختارة بعناية فائقة لتمثيل كافة جوانب الأدب المصري القديم؛ شعرا ونثرا، وحكمة وموعظة، وقصة ومثلا.. إلخ.
هكذا ظهر إلى النور هذا الكتيب الرائع النادر «حكمة المصريين القدماء» الذي صدر في طبعة أنيقة عن دار الكرمة بالقاهرة (قبل سنوات قليلة) في إطار سلسلتها الممتازة (تراثيات الكرمة). وقد احتوى هذا الكتاب القيم، صغير الحجم (إذ لا يتجاوز الـ 136 صفحة من قطع الجيب) العظيم في قيمته، على أهم نصوص الحكمة والأمثال والنصائح والتعاليم المصرية القديمة التي جمعها ورتبها وترجمها عن الهيروغليفية مباشرة الرائد الأثري الكبير سليم حسن (1893-1961)؛ عميد الأثريين المصريين والعرب، وشيخهم المبرز، وصاحب الاكتشافات الأثرية المذهلة، والمؤلفات والكتب المهمة والدراسات غير المسبوقة وعلى رأسها موسوعته الضخمة المعجزة «مصر القديمة» في ستة عشر جزءا يصل حجم الجزء الواحد منها إلى ما يزيد على خمسمائة صفحة وقد تصل في بعض الأجزاء إلى سبعمائة صفحة!
(5)
وسأكتفي بإيراد بعض النماذج الدالة على رقي ورفعة هذه النصوص (حكم، مواعظ، أمثال.. إلخ) سواء في مضمونها الإنساني والأخلاقي الرفيع، أو في مغزاها الفلسفي والتأملي بعيد الغور، والذي يصلها بنظائرها وأشباهها في الحضارات القديمة والثقافات العريقة...
- «لم أقتل، لم آمر بقتل أحد، لم أشته زوجة جاري، لم أدنس نفسي، لم أكذب، لم أسرق، لم أشهد زورا، لم أملأ قلبي حقداً، لم أكن سببا في دموع إنسان، لم أكن سببا في شقاء حيوان، لم أعذب نباتا بأن نسيت أن أسقيه ماء، أطعمت الجائع ورويت العطشان وكسوت العريان، كنت عينا للأعمى، ويدا للمشلول ورجلا للكسيح، لم ألوث ماء النيل، ملأت قلبي "بماعت" الحق والعدل والاستقامة».
(من مدونة تعاليم الحكيم قاقمنا)
- «لا تشتبكن في جدال مع أحمق. ولا تجرحه بالألفاظ. تأن أمام متطفل، وأعرض عمن يهاجم. ونم ليلة قبل التكلم. لأن العاصفة تهب مثل النار في الهشيم والرجل الأحمق في ساعة غضبه يجب أن تنسحب من أمامه واتركه لمكايده (أو سامحه فيها) والله يعلم كيف يجزيه.. وإذا أمضيت حياتك واعيًا هذه الأشياء في قلبك فإن أولادك سيبصرونها».
- «إذا أصبحت عظيمًا بعد أن كنتَ صغيرَ القدر، وصرتَ صاحبَ ثروةٍ بعد أن كنتَ محتاجًا... فلا تنسينَّ كيف كانت حالك في الزمن الماضي، ولا تتغنَّ بثروتك التي أتت إليك منحةً من الإله (الملك)، فإنك لستَ بأحسن من أقرانك الذين حلَّ بهم ذلك (أي الفقر)».
(من حكم بتاح حتب)
- «إذا كنتَ تبحث عن أخلاق مَن تريد مصاحبته فلا تسألنه، ولكن اقترب منه وكُنْ معه وامتحن قلبه بالمحادثة، فإذا أفشى شيئًا قد رآه، أو أتى أمرًا يجعلك تخجل له؛ فاحذر عندئذٍ حتى من أن تجيبه».
(من حكم بتاح حتب)
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحضارة المصریة القدیمة مصر القدیمة
إقرأ أيضاً:
باحث برازيلي لـ صدى البلد: المتحف المصري الكبير ولادة جديدة لحضارة علمت العالم معنى الخلود
مع اقتراب الافتتاح الرسمي المنتظر للمتحف المصري الكبير، أحد أضخم المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين، تتجه أنظار العالم نحو مصر من جديد، حيث يلتقي التاريخ العريق بالتكنولوجيا الحديثة في صرح يُجسّد عبقرية الحضارة المصرية القديمة بروح معاصرة.
وفي هذا السياق، أجرى صدى البلد حوارا خاصا مع الباحث البرازيلي في علم المصريات هيكتور إلياهو، الذي يدرس حاليًا في جامعة برشلونة المستقلة، ويُعد من أبرز الوجوه الشابة المهتمة بتاريخ مصر القديم وعلاقاته بالحضارات المجاورة.
يتحدث إلياهو في هذا الحوار عن جذوره المصرية التي شكّلت وعيه الأكاديمي، وعن التطور المذهل الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة في دراسة التاريخ المصري، كما يكشف رؤيته لأهمية المتحف المصري الكبير في تعزيز الهوية الثقافية لدى الأجيال الجديدة، ودوره في تقديم مصر إلى العالم بصورة تليق بعظمتها الحضارية.
كيف بدأت علاقتك بعلم المصريات، ومتى اكتشفت شغفك بالحضارة المصرية القديمة؟
بدأ اهتمامي بمصر القديمة منذ الطفولة، حين أهداني والدَي لعبة إلكترونية تُسمّى فرعون تدور حول بناء المدن في مصر القديمة. كانت تلك اللعبة الشرارة الأولى التي أشعلت فضولي تجاه التاريخ المصري، ثم تحوّل هذا الفضول إلى شغف حقيقي استمرّ معي حتى اليوم.
هل كان لأصولك العائلية المصرية تأثير في ارتباطك بالحضارة المصرية؟
بالتأكيد. فجدي وجدّتي وُلدا في الإسكندرية، وأشعر دائمًا أن مصر جزء من تكويني الشخصي والثقافي. جذوري العائلية جعلتني أنظر إلى مصر ليس فقط كحضارة عظيمة، بل كوطن روحي أرتبط به وجدانيا.
رغم أنك تعمل محاميا في البرازيل، فإنك اخترت دراسة علم المصريات أكاديميًا. كيف جمعت بين المجالين؟
درست القانون في جامعة Faculdades Metropolitanas Unidas (FMU) وأعمل حاليًا محاميًا، لكن شغفي بالتاريخ لم يتوقف. حصلت على دبلوم دراسات عليا في التاريخ القديم والوسيط من جامعة ولاية ريو دي جانيرو، ثم التحقت بدراسة الماجستير في علم المصريات بجامعة برشلونة المستقلة. أرى أن دراسة الماضي تمنحنا نظرة أعمق إلى الحاضر، حتى في مجالات تبدو بعيدة مثل القانون والسياسة.
في رأيك إلى أي مدى غيرت التكنولوجيا الحديثة طرق دراسة التاريخ المصري القديم؟
التكنولوجيا غيّرت كل شيء. اليوم نستطيع اكتشاف مواقع أثرية جديدة وتحليل المواد باستخدام تقنيات متقدمة مثل التأريخ الرقمي والمسح ثلاثي الأبعاد. كما تمكّنا من إعادة بناء المعابد والمقابر ووجوه المومياوات رقمياً، وهو ما منحنا فهمًا أكثر دقة لتفاصيل الحياة في مصر القديمة. التكنولوجيا جعلت علم المصريات أكثر حيوية من أي وقت مضى.
ما الجانب الأكثر إثارة بالنسبة لك في الحضارة المصرية القديمة؟
أكثر ما يثير إعجابي هو قدرة المصريين القدماء على التوازن بين الأصالة والانفتاح. رغم احتكاكهم المتواصل بثقافات أخرى، ظلّوا محافظين على هويتهم الخاصة، يطورونها دون أن يفقدوها. كذلك يدهشني الفكر الديني والفلسفي العميق الذي قادهم لبناء مفهوم الخلود، وهو ما جعل حضارتهم باقية حتى اليوم.
كيف تنظر إلى افتتاح المتحف المصري الكبير وما الذي يمثله بالنسبة لمصر والعالم؟
أراه حدثًا حضاريًا عالميًا بكل المقاييس. المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان لعرض القطع الأثرية، بل مشروع وطني وإنساني يُعيد تقديم مصر للعالم من منظور جديد. هو جسر يربط الماضي بالمستقبل، ويعبّر عن رؤية مصر الحديثة في الحفاظ على تراثها وتقديمه بروح علمية ومعاصرة.
في رأيك، كيف يمكن للمتحف أن يؤثر على الأجيال الجديدة داخل مصر وخارجها؟
سيمنح المتحف الأجيال الجديدة فرصة فريدة للتفاعل مع التاريخ بطريقة قريبة وحية. الأطفال والطلاب الذين يزورونه لن يروا فقط التماثيل والمومياوات، بل سيشعرون بعظمة من صنعوها. هذه التجربة قادرة على بناء وعي ثقافي وفخر وطني حقيقي، وهو ما تحتاجه الشعوب لتصون هويتها.
ما أبرز المفاهيم الخاطئة التي تراها منتشرة حول الحضارة المصرية القديمة؟
من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعا فكرة أن المصريين القدماء كانوا غامضين أو غارقين في الخرافة. الحقيقة أنهم كانوا عقلانيين للغاية، أصحاب فكر هندسي وعلمي متقدم سبق عصرهم بقرون. كما أن صورتهم في الثقافة الغربية تأثرت كثيرًا بالخيال السينمائي، لا بالحقائق العلمية.
هل ترى أن هناك اهتماما متزايدا من الشباب حول العالم بدراسة علم المصريات؟
نعم، الاهتمام يتزايد بشكل واضح، خاصة بعد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في تبسيط التاريخ ونشر الاكتشافات الأثرية لحظة بلحظة. الشباب اليوم يريد أن يفهم الحضارة المصرية بلغته وبأدواته، وهذا ما يجعلنا أمام جيل جديد من الباحثين أكثر تفاعلًا وانفتاحا.
أخيرا، ما الرسالة التي تود توجيهها للمهتمين بالحضارة المصرية؟
أن يتعاملوا معها بروح الباحث لا السائح. مصر ليست فقط معابد وتماثيل، بل فكر وإنسان وحضارة إنسانية عميقة. كل من يدرسها بصدق سيجد نفسه أمام مرآة للحياة، لا للتاريخ فقط.