من على بعد أميال قليلة غربي القاهرة، بواجهة تطل على الأهرامات، شهد العالم افتتاح أحد أعظم المشروعات الحضارية في التاريخ الحديث، المتحف المصري الكبير، وثيقة الهوية والمصالحة مع الزمن، تبدو جدرانه المهيبة كـ«شاشات عرض» ضخمة يعرض عليها المصري الحديث سيرته الأولى، يستعرض شريط حياة ماضيه البعيد في رحلة بحث عن معنى حاضره، وفهم ذاته، من خلال "بوابات حجرية" كخط زمني يصل الماضي بالحاضر بالمستقبل، يستدعي الذاكرة على أوراق البردي من أجل غد "مضيء ومفهوم"، عبر جدرانه نعود إلى جذورنا الحقيقية، إلى من علّموا العالم وألهموه أوائل الأشياء بأوائل اللغات والأفكار، وبتدشين المتحف الكبير نحاول جاهدين أن نستدعي الخلود في أزمنة الفناء.

ومثلما يستدعي المتحف أرواح الملوك القدماء، ربما تحاول السينما، أيضاً، أن تحول الكاميرا إلى "آلة زمن" تضع عدساتها مكان عين "رع"، أو "حورس"، لتراقب وتعاود حكي الحكايات القديمة بروح جديدة، فمثل تلك الحكايات كالأحجار النادرة، تزيد قيمتها بمرور الزمن، وطالما حاول الفن السابع أن يرتمي في أحضان الحضارة القديمة، باحثاً عن صورة مصر في مراياها العتيقة، المرصعة بالعظمة، ليظل صوت الذاكرة يجلجل بفخر: "عظماء نحن، حتى تحترق النجوم، وتفنى العوالم"!

على شاشات السينما، ظلت محاولة العودة للماضي السحيق، أحد طقوس البحث عن المعنى، ولا يمكن الحديث عن "مصر القديمة في السينما" دون أن نبدأ بالفيلم رقم "3" في قائمة أفضل مائة فيلم مصري، تحفة شادي عبد السلام، "المومياء"، 1969، ليس مجرد شريط سينما، ولكنه نشيد بصري فلسفي يفتش عن معنى الهوية، عبر لقطات أشبه بـ"لوحة جنائزية"، أو بردية متحركة نتأمل نقوشها مع كل كادر، تحت عنوان لم يكن يعني "جثة محنطة"، وإنما رمزا لذاكرة الأجداد التي يسرقها الأحفاد، وبين الظلال والضوء، والغموض والمكاشفة، يسير البطل حائراً يبحث عن إجابة للسؤال الوجودي الأشهر: "من أنا؟".

قبل "المومياء" بعامين، وبالتحديد 1967، رقصت فرقة "رضا" للفنون الشعبية، أمام معابد الأقصر، وأطلقت حينذاك أول معنى لمصطلح "الهوية البصرية" قبل أن يعرفه العالم، في فيلم "غرام في الكرنك"، فظهرت استعراضاته كاحتفال بصري بالحياة من قلب التاريخ، ليصبح الرقص "فعلاً حضارياً" على حافة الزمن، يعيد صياغة العلاقة بين الجسد والمكان، بين الماضي والحاضر، وسط الأعمدة الشامخة، والتماثيل التي كادت ترقص بعفوية، لاستعادة البهجة المقدسة التي عرفها المصري القديم في طقوس يومه.

في 1963، قدم فيلم "عروس النيل"، الأسطورة القديمة التي تزعم تقديم فتاة قرباناً للنيل، ولكن السينما هنا قرأت الأسطورة بلغة العصر، بشكل رومانسي أنيق يمزج الرقة بالخيال، وتحدث الفيلم عن أنوثة مصر القديمة، ومواجهة المرأة لقدرها بكل حب، كرسالة للأجيال الجديدة، أن يفهموا ماضيهم أولاً، قبل أن يفكروا في المستقبل، ومع تجسيد الصراع بين العلم والأسطورة، يُعاد طرح السؤال الحائر: هل يمكن أن تتعايش الحداثة والأسطورة معاً دون أن يبتلع أحدهما الآخر؟

محاولات سينمائية أخرى استمدت من الحضارة القديمة، مادة خصبة للسخرية اللاذعة، كطريق شبابي خفيف نحو الوعي، يناسب جيل الألفية الثالثة، ففي 2008، قدم فيلم "ورقة شفرة" كوميديا ذكية تمزج اللغز التاريخي بالحس الساخر، في رحلة الثلاثي "أحمد فهمي، هشام ماجد، وشيكو"، إلى الماضي السحيق، عبر مغامرات تعيد للتراث بريقه المنطفئ، وتخلط بين الأكشن والرمز، والبحث عن الذات، ومواجهة لعنة الهوية المفقودة.

وقرر نفس الثلاثي، تفكيك هيبة الرموز التاريخية، بشكل أكثر سخرية، في فيلم "الحرب العالمية الثالثة"، 2014، مع التماثيل التي عادت للحياة، واكتشفت أنها لم تعد محتفظة بوقارها، وأن الشباب لا يقدّرون قيمتها، بينما ما زال العالم مهووساً بها، في كوميديا عبثية تختبئ خلفها صرخة مدوّية، بأننا "ابتعدنا عن أجدادنا أكثر مما يجب"!

وعلى مدار عامي "2017/2019"، عبر جزءين، ظهرت ملحمة "الكنز" التي تصل بين الأزمنة، وتمتد من الماضي البعيد حتى حاضرنا المرتبك، كتجسيد عميق لفكرة الحوار بين القديم والجديد، والتمسك بالهوية، من خلال حكايات متوازية عن الحب والسلطة والحرية، والبحث عن الحقيقة، ولم يكن الكنز مجرد "صندوق ذهب"، وإنما سردية استعادة المعنى، وحكايات تجاوزت التاريخ، من "حتشبسوت"، و"كهنة فرعون"، و"علي الزيبق"، حتى عصرنا الحالي، لتضعنا أمام مرآة مبهرة الضوء، فنسأل أنفسنا: كيف يمكننا فهم الحاضر دون وعي بحقيقة الذات، ودون أن نصغي لأرواحنا القديمة؟، وكان عملاً يليق بـ"عصر المتحف الكبير": حيث الوعي النقدي الساعي نحو الفهم الحقيقي، دون سخرية أو تقديس.

كانت كل هذه الأعمال السينمائية، برغم اختلاف أشكالها بين الرقص والسخرية والرمز، والمأساة، ليست سوى وجوه مختلفة تبحث عن الذات الأولى، لاستعادة الجذور من خلال الفن، فالسينما حينما عادت إلى الحضارة القديمة، لم تنقب عن الآثار ولم تحفر في المقابر، وإنما ظلت تنبش في الذاكرة، تحفر في الوجدان، تستدعي أرواحنا القديمة عبر آلة الزمن، لنعرف من نكون!

ولأن السينما العالمية لا تعبأ بمفهوم "الهوية"، ولا يعنيها رحلة "البحث عن الذات"، تعاملت مع الحضارة القديمة من "زاوية سرد الآخر"، كمادة بصرية غريبة، وليس كحضارة فكرية، فإما ترويها كأساطير مثيرة، أو فولكلور غامض، أو حتى "لعنة أبدية"، عشرات الأعمال السينمائية العالمية منذ فيلم "The Mummy/ المومياء"، الذي أعيد إنتاجه مرتين في ثلاثينيات وتسعينيات القرن الماضي، وفيلم "Gods Of Kings/ آلهة الملوك"، وفيلم "Land Of The Pharaos/ أرض الفراعنة"، وفيلم "The Egyptian/ المصري"، وفيلم "The Pyramid/ الهرم"، والفيلم البولندي الشهير "Pharaoh/ الفرعون"، والفيلم الفانتازي "Night At The Museum/ ليلة في المتحف"، المأخوذ عنه الفيلم المصري "الحرب العالمية الثالثة".

ورغم روعة التقنيات وملايين الدولارات، ظل "الفرعون" في هوليوود مجرد «ديكور مبهر»، وليس «شخصية مصر»، وبرغم ندرة المحاولات المصرية، وضعف ميزانياتها، إلا أنها ظلت أكثر اقتراباً من طين الأرض، ومياه النيل، وروح الإنسان المصري القديم، وبرغم أنف العالمين، يظل المصري أول من كتب السيناريو في التاريخ، ونقش نصوص الحوار على جدران المعابد.

اقرأ أيضاً«المومياء» بمسرح 23 يوليو بالمحلة في احتفال الثقافة بالفنان شادي عبد السلام

بعد قرن على اكتشافها.. كنوز «توت عنخ آمون» تتألق من جديد في المتحف المصري الكبير

على مدى 100 عام.. توت عنخ آمون يستقبل أشهر ملوك وزعماء العالم ويعيد حفل الاستقبال بمقره الملكي الجديد

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: المتحف المصري الكبير التاريخ الحديث المومياء الحضارة القدیمة

إقرأ أيضاً:

احتفال الجالية المصرية في جنيف بافتتاح المتحف المصري الكبير يجمع الدبلوماسيين بمقر البعثة

أعلن جمال حماد، رئيس بيت العائلة المصرية في جنيف بسويسرا، عن تنظيم احتفال خاص بافتتاح المتحف المصري الكبير في مقر البعثة المصرية، بحضور عدد من سفراء الدول العربية والأوروبية وأعضاء الجالية المصرية.

وقال حماد، للوفد، إن الحدث "تعبير عن تقدير العالم لمصر، صاحبة أقدم حضارة عرفتها الإنسانية"، مؤكدًا أن الدبلوماسية المصرية تواصل تقديم وجه الوطن المشرق في كل العواصم الأوروبية.

وأكد جمال حماد أن هذا الحدث يمثل رسالة خالدة من مصر إلى العالم، مفادها أن "الحضارة لا تموت، وأن نور مصر لا ينطفئ"، مشيرًا إلى أن المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح أثري، بل هو رمز للهوية المصرية وللقدرة على وصل الماضي بالحاضر في أبهى صور الإبداع والعظمة.

وأضاف أن الحفل سيشهد حضور عدد من سفراء الدول العربية والأوروبية، إلى جانب أعضاء الجالية المصرية في سويسرا، تعبيرًا عن التقدير العالمي لما تمثله مصر من عمق حضاري وإنساني متجذر في وجدان البشرية.

واختتم حماد تصريحه بتوجيه الشكر إلى الدبلوماسية المصرية التي تواصل تقديم وجه مصر المشرق في كل العواصم الأوروبية، مؤكدًا أن “تحيا مصر… وطن الحضارة والخلود”.

مصر على موعد مع التاريخ في افتتاح المتحف المصري الكبير 

 

- بدأت مصر تخطط لإنشاء أكبر متحف للآثار في العالم منذ أكثر من عشرين عامًا ويجمع بين عبق الماضي وروح الحاضر.

 

- وضع حجر الأساس للمتحف المصري الكبير عند سفح أهرامات الجيزة، في موقع فريد يجمع بين أعظم رموز التاريخ الإنساني في عام 2002

 

- مر المشروع بعدة مراحل من البناء والتصميم، شارك فيها مئات الخبراء والمهندسين من مصر والعالم، حتى تحول  الحلم إلى حقيقة ملموسة على أرض الجيزة.

 

- واجه المشروع تحديات كثيرة، لكن الإرادة المصرية لم تتراجع لحظة واحدة وفي كل عام، كانت تقترب الخطوة أكثر من الافتتاح الكبير.

 

- يقف المتحف المصري الكبير جاهزًا ليستقبل زواره من كل أنحاء العالم، واجهة زجاجية ضخمة تطل على الأهرامات، وقاعات عرض مجهزة بأحدث تقنيات الإضاءة والحفظ والعرض المتحفي.

 

- أكثر من خمسين ألف قطعة أثرية تعرض داخل هذا الصرح، من بينها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون لأول مرة في التاريخ، داخل قاعة مصممة لتأخذ الزائر في رحلة إلى قلب مصر القديمة.

 

- من أهم مقتنيات توت عنخ آمون التي ستعرض في المتحف ( التابوت الذهبي- قناع الملك- كرسي العرش- والخنجر).

 

- يضم المتحف تمثال الملك رمسيس الثاني الذي استقر في موقعه المهيب داخل البهو العظيم.

 

- في الأول من نوفمبر، تفتتح مصر أبواب المتحف المصري الكبير للعالم أجمع، افتتاح يعد صفحة جديدة في تاريخ الحضارة، واحتفاء بجهود أجيال عملت على صون تراث لا مثيل له.

 

- المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى بل رسالة من مصر إلى العالم، بأن الحضارة التي بدأت هنا لا تزال تنبض بالحياة.

 

المتحف المصري الكبير

الفراعنة

مصر

العالم

الحضارة

توت عنخ امون 

الرئيس السيسي 

موكب الملوك 

الجيزة

الأهرامات

 

مقالات مشابهة

  • صور.. ملكة الدنمارك أمام سحر الحضارة المصرية القديمة
  • برلماني: افتتاح المتحف المصري الكبير يؤكد عظمة الحضارة المصرية
  • حماة الوطن: المتحف الكبير يعكس عظمة الحضارة المصرية القديمة ونجاحات الحاضر والمستقبل
  • احتفالًا بافتتاح المتحف المصري الكبير.. إضاءة المسلات المصرية بمختلف أنحاء العالم
  • رئيس جمعية الحضارة المصرية: افتتاح المتحف المصري الكبير لحظة خالدة تعيد مجد الأجداد
  • العاملين بالبترول: المتحف الكبير تجسيدٌ لعظمة الحضارة المصرية القديمة
  • خبير سياحي: المتحف المصري الكبير سيبهر العالم ويمزج الحضارة القديمة بالحديثة
  • قبل افتتاح المتحف المصري الكبير.. أفلام جسدت عظمة الفراعنة وروائع الحضارة المصرية
  • احتفال الجالية المصرية في جنيف بافتتاح المتحف المصري الكبير يجمع الدبلوماسيين بمقر البعثة