حمود بن علي الطوقي

 

في رحلةٍ جديدة من رحلات النور التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- تتجه البوصلة هذه المرة إلى مملكة إسبانيا، في زيارةٍ دولة تُضاف إلى سجلٍّ عامر باللقاءات والمباحثات الدولية التي بلغت حتى اليوم 26 محطةً حول العالم، حملت جميعها هدفًا واحدًا ساميًا: ترسيخ مكانة سلطنة عُمان في المشهد الدولي، وتعزيز حضورها في فضاء الدبلوماسية الاقتصادية الحديثة.

وتأتي هذه الزيارة امتدادًا لمسار الحكمة والرؤية العُمانية التي عُرفت بها البلاد منذ فجر نهضتها الحديثة، فكما أرسى المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- دعائم الدبلوماسية السياسية الهادئة التي بنت الثقة والمصداقية لعُمان في مختلف المحافل، فإنَّ جلالة السلطان هيثم بن طارق يُرسّخ اليوم مرحلةً جديدة تُعرف بالدبلوماسية الاقتصادية، تلك التي تجمع بين الرصانة السياسية وحيوية المصالح المشتركة، لتفتح الآفاق أمام شراكاتٍ استثمارية وسياحية وتجارية وثقافية، في زمنٍ أصبحت فيه العلاقات بين الدول تُقاس بعمق المصالح لا بكثرة الخطابات.

تحمل هذه الزيارة دلالاتٍ اقتصاديةً كبيرة؛ إذ تُعدّ إسبانيا واحدة من أبرز القوى الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، وتملك تجربةً عريقة في مجالات الطاقة المتجددة والسياحة والصناعات التحويلية والتعليم، وهي مجالات تتناغم مع تطلعات رؤية "عُمان 2040" لبناء اقتصادٍ متنوع ومستدام. وتشير الإحصاءات الحديثة إلى أن حجم التبادل التجاري بين سلطنة عُمان ومملكة إسبانيا بلغ أكثر من 94 مليون ريال عُماني بنهاية عام 2024؛ حيث صدّرت السلطنة إلى إسبانيا ما يقارب 34 مليون ريال من منتجات الألومنيوم والبلاستيك والأسماك المجمدة، في حين استوردت ما قيمته نحو 60 مليون ريال من السفن والسيارات والطائرات ومنتجات الحديد والذخائر. ورغم هذا التبادل إلّا أن المراقبين يرون أنَّ هذه الأرقام لا تعكس الطموح الحقيقي للشعبين الصديقين، وهو ما يجعل من زيارة جلالته فرصةً لإطلاق مرحلةٍ جديدة تُعيد التوازن وتفتح آفاقاً أوسع للتعاون.

ويرافق جلالته في هذه الزيارة وفدٌ رسمي رفيع المستوى إلى جانب وفدٍ تجاريٍ يمثل مختلف القطاعات الاقتصادية، في خطوةٍ تعكس التوجه العملي للزيارة. ومن المنتظر أن تُتوّج المباحثات بتوقيع حزمةٍ من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الطاقة النظيفة والسياحة والتعليم العالي والتعاون الثقافي والنقل والخدمات اللوجستية؛ مما يمهّد لبناء شراكةٍ استراتيجيةٍ راسخةٍ بين البلدين، ويحوّل الزخم السياسي إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع.

ولعلَّ من أجمل الرموز التي تُجسّد عمق العلاقة بين البلدين استحضر زيارتنا لاكسبو  إشبيلية عام 1992؛ حيث القبتان اللتان شاركت بهما سلطنة عُمان في هذا المعرض «إكسبو إشبيلية» واللتان تم نقلهما لاحقًا إلى مسقط لتُصبحا جزءًا من متحفٍ يحتفي بالهوية العُمانية والانفتاح الثقافي على العالم. هاتان القبتان تمثلان ذاكرةً معماريةً وثقافيةً خالدة، تربط بين ضفّتي المتوسط وتؤكد أن العلاقة بين عُمان وإسبانيا ليست وليدة اللحظة؛ بل تمتد جذورها إلى عمق التاريخ حين كانت الأندلس منارة العلم والفكر، وكان العُمانيون رواد بحرٍ وحضارةٍ وصلوا إلى أقصى الآفاق.

كما تُعد السياحة جسرًا متينًا يمكن أن يربط بين الشعبين؛ فإسبانيا تُعد من أكثر بلدان أوروبا ازدهارًا في هذا القطاع، وتستقبل سنويًا أكثر من ثمانين مليون سائح بفضل بنيتها التحتية المتقدمة وتجربتها الناجحة في تسويق المقومات الثقافية والطبيعية. ومن هنا يمكن لعُمان أن تستلهم من التجربة الإسبانية رؤيةً متميزةً لتطوير القطاع السياحي، خاصة وأن السلطنة تمتلك تنوعًا طبيعيًا وثقافيًا فريدًا يجعلها وجهةً عالميةً للسياحة الراقية التي تجمع بين الأصالة والهدوء والطبيعة الساحرة.

إنَّ زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- إلى مملكة إسبانيا تُعدّ محطةً مضيئة في مسار الدبلوماسية العُمانية الحديثة؛ فهي لا تقتصر على البروتوكولات الرسمية؛ بل ترسم ملامح مرحلةٍ جديدة من التعاون والشراكة المستدامة بين البلدين الصديقين. إنها زيارة تحمل عبق التاريخ وتطلعات المستقبل، وتؤكد أن الإمبراطورية العُمانية التي أبحرت يومًا إلى أقاصي البحار، تعود اليوم إلى الأندلس، لا بأساطيل السفن؛ بل بسفن الفكر والرؤية والاقتصاد، لتجدد حوار الحضارات وتكتب فصلًا جديدًا من التلاقي الإنساني العميق.

وهكذا، تمضي عُمان في ظل قائدها نحو آفاقٍ رحبة، توازن بين الحضور السياسي المتزن والفاعلية الاقتصادية الواعية، لتبقى كما كانت دائمًا… وطنًا يُحاور العالم بعقلٍ منيرٍ وقلبٍ كبير.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ريهام العادلي تكتب: المتحف المصري الكبير.. حين تعانق مصر ماضيها لتبهر العالم من جديد

لم يكن ما شاهده العالم في افتتاح المتحف المصري الكبير مجرد حدث ثقافي عابر، بل هو لحظة فخر واعتزاز وطني ستُخلّد في ذاكرة التاريخ ، فمن أمام أهرامات الجيزة، حيث يقف المتحف شامخًا كتحفة معمارية تروي قصة مصر القديمة بروحٍ عصرية، تأكد الجميع أن مصر تعيد كتابة مجدها من جديد، وأن العالم أجمع يصفق اليوم لعظمة الحضارة المصرية وقدرتها على التجدد عبر العصور.

هذا الافتتاح الأسطوري الذي جمع بين عبق الماضي وروعة الحاضر، وشهد حضورًا دوليًا مهيبًا من وفودٍ رفيعة المستوى من مختلف قارات العالم ، رؤساء، وملوك، وشخصيات عالمية مرموقة، حضروا ليشهدوا على عظمة مصر التي لا تخفت مهما مرّ الزمان ، كان المشهد مؤثرًا بكل تفاصيله، من فخامة التنظيم إلى الإبهار البصري والتقني الذي يليق بتاريخ يمتد لآلاف السنين.

ما يميز المتحف المصري الكبير أنه لم يكن مجرد مشروع معماري، بل حلم وطني بدأ بفكرة طموحة في التسعينيات، وتحول بمرور السنوات إلى صرح عالمي هو الأكبر من نوعه في التاريخ الحديث ، بدأت مراحل البناء الفعلية عام 2005، وقد استلهم المصممون فكرة الربط البصري بين المتحف والأهرامات، فجاء البناء وكأنه امتداد طبيعي للحضارة، لا يفصل بين الماضي والحاضر بل يربطهما في مشهد واحد متكامل.

تجلت عبقرية التصميم في كل ركنٍ من أركان المتحف ، من الواجهة الزجاجية العملاقة التي تسمح بدخول الضوء الطبيعي لتعانق الآثار المعروضة، إلى الجدار المصنوع من الألباستر المصري الذي يعكس وهج الصحراء وألوانها الذهبية ، أما الدرج العظيم الممتد في قلب المتحف، فيقود الزائر في رحلة رمزية نحو ذروة المجد المصري، حيث تطل الأهرامات في الأفق وكأنها تبتسم لهذا الإنجاز الجديد الذي يحمل توقيع أحفاد الفراعنة.

وراء هذه التفاصيل الباهرة، يقف مجهود ضخم استمر لعقود ، آلاف العاملين، من مهندسين ومصممين وعمال ترميم وحفظ، بذلوا الغالي والنفيس ليخرج المتحف بهذا الشكل المذهل الذي يُظهر مدى دقة المصريين وإصرارهم على الكمال ، وحتى القطع الأثرية التي يزيد عددها عن مائة ألف قطعة، تم نقلها وترميمها بأحدث التقنيات العالمية لتعرض أمام الزائرين في تجربة غير مسبوقة.

أما عن حفل الافتتاح، فكان بحق ملحمة حضارية نقلتها عدسات الإعلام إلى العالم أجمع ، كانت مصر في تلك الليلة نجمة الكون، وهي تعرض للعالم وجهاً من وجوه قوتها الناعمة، وتؤكد أنها ما زالت صاحبة الريادة الثقافية والتاريخية بلا منازع ، لقد رأينا الانبهار في عيون الحاضرين من مختلف الدول، وشعرنا جميعًا بأن هذا الحدث ليس مجرد افتتاح متحف، بل إعلان جديد عن ولادة مصر الحديثة بثوبها المهيب، وهي تحتفي بتراثها العظيم.

ونحن سيدات مصر العظيمات  نوجّه أسمى آيات الشكر والعرفان للرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي كان الداعم الأول لهذا المشروع الضخم، وأصرّ على أن يخرج إلى النور بأعلى المعايير العالمية ، مثبتاً أن الإيمان بالحضارة هو إيمان بالمستقبل، وأن الاستثمار في الثقافة هو أقوى رسالة يمكن أن تبعثها مصر إلى العالم ، وبفضل رؤيته الحكيمة ، لم يعد المتحف المصري الكبير مجرد مبنى، بل رمزًا للهوية والنهضة والقدرة المصرية على الإبداع والبناء.

إن افتتاح المتحف المصري الكبير هو لحظة التقت فيها الهوية بالتطور، والذاكرة بالحداثة، والتاريخ بالمستقبل ، فكما كانت مصر مهد الحضارة منذ فجر التاريخ، فهي اليوم تؤكد أنها قادرة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة في آنٍ واحد.

لقد نجحنا في أن نحول الرمال إلى صرح عالمي، والأحلام إلى واقع ملموس، والتاريخ إلى تجربة حيّة تنبض بالحياة.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد افتتاح… إنه إعلان جديد لعظمة مصر التي لا تنتهي .

طباعة شارك افتتاح المتحف المصري الكبير المتحف المصري الكبير أهرامات الجيزة

مقالات مشابهة

  • مراسمُ استقبال رسميّةٌ لجلالةِ السُّلطان المعظّم بمناسبة زيارته إسبانيا
  • 22 مشروعًا بـ20 مليون ريال لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في الوسطى
  • ما هى الكفارة التي تلزم المسلم إذا تسبب في قتل إنسان عن طريق الخطأ؟
  • ما هي السورة التي تهلك الظالم وتنصرك عليه؟.. لا يعرفها كثيرون
  • جلالةُ السُّلطان المُعظم يصل إسبانيا
  • جلالة السلطان يصل إلى مملكة إسبانيا.. ومراسم استقبالية ملكية غدًا في مدريد
  • جلالة السلطان يصل إلى مملكة إسبانيا الصديقة
  • ريهام العادلي تكتب: المتحف المصري الكبير.. حين تعانق مصر ماضيها لتبهر العالم من جديد
  • د. عطية لاشين يرد على دعاوى وقف الإنجاب بسبب الظروف الاقتصادية