علم السرد أو السرديات هو العلم الذي يدرس القصص، وقد علا شأنه وذاع صيته أواسط القرن العشرين، وسنَّ أعلامُه خُطَطًا وطرُقًا ومناهج عددًا بها يُمكن أن نُقَاربَ القصص وأن نضمن وسائلَ «علميَّة» لاستخراج خواصِّه واستنتاج قواعده العامّة والخاصّة، وقد بلغ هذا العلم أوْجَه مع المنهج البنيويّ والإنشائيّ ومع أعلام صنعوا مجْد الدراسة السرديّة مثل رولان بارط وتزفيتان تودوروف وجيرار جونات وغريماس وكلود بريمون وغيرهم من جيل المدرسة البنيويّة الإنشائيّة الفرنسيّة التي أسّست النوى الأصليّة للسرديّات أو لعلم السّرد، وبنت «إمبراطوريّة السّرد» على حدّ عبارة رافائيل باروني في مقالة له هامّة «إمبراطورية السرد: تحدياتها ونقائصها»، اعتمدها لبيان تهميش السرد داخل المؤسّسّات والذي أنزلها من عرشٍ تسيّدت عليه إلى حال من الركود والجمود، وبيّن أنّ علم السّرد بعد أن عاش «ساعته الذهبيّة» في الستينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين، صار اليوم في وضع يشبه الاحتضار، ونعى باروني السرديّات التي قبرتها المؤسّسة بتهميشها وتعميمها، وتحويلها إلى «صندوق أدوات» جاهز لمعالجة كل نصّ سرديّ، وهو يأمل في أن تستعيد السرديّات مكانتها ومنزلتها من خلال إصلاح معايبها ومن خلال استعادة المكانة المؤسساتية للسرديات وإنشاء كراسي بحث متخصّصة ومنح منظّري السرد حضورًا فاعلاً في أقسام الأدب، وتفعيل المجلاّت ومخابر البحث المتخصّصة.
ميزة أطروحة باروني أنّه مؤمن بالسرديّات علمًا وأداةً ونهجًا، ومؤمن بانحصار مجالها في الخطاب الأدبيّ، وهو يدعو إلى إصلاح السرديّات وإعادة بناء الإمبراطوريّة من هذا المدخل، في مراجعة من داخل المنظومة السرديّة، وتُقَابل ذلك أطروحات أخرى تؤسّس «لمنعطف سردي» ضروريّ انفتحت به السرديّات على علوم ومعارف أخرى، مع دعوة لإخراج السرديّات من احتكار أقسام الأدب وجعلها تخصّصا بذاته، لتدخل في التخصّصات البينية (السرد، الثقافات، المجتمعات)، وقد عمل مارك مارتي -على سبيل المثال- على مراقبة تطوّر علم السرد في الأنتروبولوجيا والتحليل النفسي والتاريخ، وما شخّصه رفائيل باروني من ضعف مؤسّساتي للسرديّات سبَّب تدهورها وتراجعها، هو في الآن ذاته -حسب مارك مارتي- علّة قوّة علم السرد، ولذلك فإنّ الدعوة إلى إعادة إدخال السرديّات إلى أقسام الأدب لا وجاهة لها، وإنّما الوجاهة حاصلة في الانفتاح والتخلّص من الإرث البنيوي ومن الانحباس داخل النصّ، ويرى أنّّ مصير السرد ماثل في مؤاخاته لتخصّصات خارج أدبيّة.
أرنو شميت، وهو من أهم الأصوات المنظّرة للسرديّات البينيّة، لا يرى أنّ تحوّل السرديّات إلى «صندوق أدوات» أمر سلبيّ (وأنا أشاركه الرأي تماما)، وإنّما هو سبيل لانفتاح السرديات على القارئ وعلى فعل القراءة، واصلاً فعل السّرد بالعرفان والإدراك، ومركّز نظره في دور السّرد في فعل القراءة الذي به تتكوّن عوالم الحكاية.
وبذلك فإنّ إمبراطوريّة السّرد لا تتحقّق في استعادة مجد الستينيّات الذي حقّقه الإرث البنيوي، وإنّما هو حاصل في قدرة السّرد على الانفتاح على تخصّصات أخرى، وعلى الدخول إلى مجالات قريبة أو بعيدة عن الأدب وعن القصّة في وجهها الأدبيّ، فالسّرد هو أداة التاريخ، وهو متحقّق في المصنّفات التاريخيّة، وهو المجال الذي توسّع فيه وأسّس له الفيلسوف بول ريكور، والسرد حاصل في علوم الإناسة، إذ تروي المجتمعات عاداتها وتقاليدها ومآثرها ومناقبها، وهو المجال الذي بعثه أيضًا بول ريكور الذي يرى أنّ الإنسان كائن حكّاء، وأنّ السّرد لا يُمكن أن يقيَّد بالفضاء الأدبيّ، وإنّما هو طريقة الإنسان في حكاية تجربته الزمنيّة والوجوديّة، وهي الأرضيّة التي ساهمت في بعث «الأنتروبولوجيا السرديّة»، التي عمّقتها أعمال جيروم برونر، وديفيد هرمان وريكاردو دونتون، في ما يُعرَف بالسرديّات العابرة للتخصّصات.
والسّرد متحقّق في التحليل النفسي الذي يرى أنّ اللاوعي يُمكن أن ينتج حكايته، وأنّ كلّ حكاية هي إعادة تمثيل للذات، وكلّ هذا التحوّل ناتج أساسا عن أعمالٍ في التحليل النفسي رائدة لفرويد ولاكان، غير أنّ الأرضيّة التحليليّة النفسيّة قد استُثمرت نقديّا في السرديّات ما بعد الكلاسيكيّة، فصارت الحكاية أداةً ومنهجيّة تعتَمد في مجال التحليل النفسي ذاته، وبرز في مجال الخطاب الأدبي توظيفًا للحكاية المعبّرة عن اللاوعي الفردي والجمعي منظّرون كان لهم جهازٌ اصطلاحيّ خاصّ ونهج دراسيّ خارج عن التروتسكيّة السرديّة البنيويّة مثل بيتر بروكس الذي يعتبر أنّ الحكاية مظهر من مظاهر التعبير عن الرغبة، وشوشانا فيلمان التي انصرفت إلى مدوّنات سرديّة خاصّة بمحكيّ الذات، مثل الاعتراف والشهادة والسيرة الذاتية واليوميات، والتي اعتبرت أنّ الذات تميل إلى عرض حكايتها من خلال خطابها اللّغوي الذي يعبّر عن فعل نفسيّ شافّ عن اللاوعي، إضافةً إلى تراكم أعمالٍ عديدة التقت مع السرديّات في محور جامع مفاده أنّ الإنسان حكّاء، وأنّه لا يحكي ليصف بل إنّما هو يحكي عوالم ممكنة ليستعيد توازنه في الوجود، وقس على ذلك انفتاح السرديّات على العرفانيّات تحوّلا من دراسة بنية الحكاية إلى بيان الوعي بالحكاية، حيث يصبح السّرد تمثيلاً ذهنيّا للعالم، ولعلّ الاسم الأبرز في عالم السرديّات العرفانيّة هو ديفيد هرمان في كتابه «منطق الحكاية: قضايا وإمكانات السرد»، وما فتّحه هذا المجال من خوضٍ في دراسة «العوالم الممكنة» التي أزهرت نظريّاتها مع لوبومير دولزيل وماري لور رايان، والتي بمقتضى أعمالهما تحوّل المنظور إلى السرد من الإرجاع إلى الإمكان، فكلّ خطاب قصصيّ هو منشئٌ لعالم ممكن له قوانينه الخاصّة، ويحصل تفاعل مميّز بين هذا العالم الممكن والعالم الواقعي داخل ذهن القارئ.
من كلّ هذه الأرضيّة التي أبَنت فيها إجمالا نقطتين مركزيتين، الأولى تحقّق ازدهار في الدراسة السرديّة مع البنيويّة، والثانية تجاوز البنيويّة إلى مجالٍ أصبح يُنعَت اليوم بالسرديّات ما بعد الكلاسيكيّة وهو مجالٌ وسيع جدّا لا تحتمل وسعه هذه المقالة، أردتُ أن أتساءل عن منزلة الجامعات العربيّة التي تؤخذ ببهرج النظريّة، وتتخذها علامةً تجاريّة تُسقطها على فضاء عربيّ له مقامه وسياقه، فكلّ هذه النظريّات تتفاعل مع واقعها السياسيّ والحضاري والعلمي، ولكنّها أيضًا مؤسّسة لمركزيّة أوروبيّة مقيتة، ولها الحقّ في ذلك، باعتبار عملها بمقولة الجاحظ «لكلّ مقام مقال».
اليوم لا أستطيع أن أجري السرديّات العرفانيّة أو الثقافيّة أو النسويّة أو اللاطبيعيّة أو الكويرية أو سرديّات ما بعد الصدمة إلاّ وأنا أعي تمامًا سياقات النظريّة ومقام تخيّرها وإنتاجها، وأتعامل معها بحقّ من حيث هي «صندوق أدوات»، كما يفتح الميكانيكي صندوق أدواته لإصلاح أعطاب السيّارة، فهل يأتي يوم لنُقيم سرديّة عربيّة تتمثّل الآخر وتمتصّ التاريخ وتتصنع صندوق أدواتها الخاص، وأن تكون لدينا إمبراطورية سرديّة يمكن زعزعتها والإطاحة بها وإعادة بنائها؟.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة السردی ة البنیوی ة علم الس الس رد وإن ما سردی ة ة التی
إقرأ أيضاً:
زواج آمال ماهر.. من هو الرجل الذي خطف قلبها في صمت؟
أعلن الإعلامي العربي ربيع هنيدي خبر زواج الفنانة آمال ماهر من رجل الأعمال المصري علي محجوب، مؤكداً أنهما يقضيان حالياً شهر العسل في باريس، تلك المدينة التي تشهد على فصل جديد في حياة النجمة المصرية.
ونشر هنيدي صورة جمعته بآمال عبر حسابه على "إنستجرام"، مهنئًا إياها ومتمنيًا لها دوام السعادة والأفراح، مشيرًا إلى عودتها القريبة لنشاطها الفني وحفلاتها المنتظرة في مصر والعالم العربي.
وبينما تمضي أيامها في أجواء الرومانسية، تتهيأ آمال ماهر خلال الفترة المقبلة لإطلاق أحدث أغنياتها بعنوان "خذلني"، من كلمات الشاعر أيمن بهجت قمر وألحان عزيز الشافعي، وتوزيع أحمد إبراهيم، فيما تولّى أمير محروس مهمة الميكس والماستر، لتضيف لمكتبتها الغنائية عملًا جديدًا يترقبه جمهورها بشغف.
كما حققت النجمة نجاحًا واسعًا في ألبومها الأخير "حاجة غير"، الذي صدر في صيف 2025 وتضمن عشر أغنيات صورت ثمانيًا منها بطريقة الفيديو كليب، فيما تصدرت أغنية "نسيت اسمي" قوائم الاستماع على المنصات الموسيقية وحققت ملايين المشاهدات عبر يوتيوب، لتؤكد مكانتها كإحدى أهم الأصوات على الساحة الغنائية.
ومن آخر إطلالاتها الفنية، تألقت آمال ماهر في احتفالية "مصر وطن السلام"، حيث قدّمت دويتو مميزًا جمعها بالفنان حمزة نمرة، نال إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء.
وتستعد الآن لإحياء حفل ضخم في قصر القبة يوم 29 نوفمبر بمشاركة الفنان بهاء سلطان، حيث ستقدم باقة من أجمل أغانيها إلى جانب العرض الأول لأغنيتها الجديدة "خذلني" التي ينتظرها جمهورها بفارغ الصبر.