ماذا عن الفقراء؟ التماثيل التي ليس لها متحف؟
تاريخ النشر: 3rd, November 2025 GMT
عند فتحة الأبواب الضخمة للمتحف المصري الكبير، يوم السبت الماضي، كانت أضواء الكاميرات تتسابق لالتقاط ضوء الذهب والأحجار القديمة، بظلالها الفخمة على ضفاف النيل بجوار المعمار التاريخي العظيم والضخم؛ الأهرامات. في ذلك المشهد الصاخب، وقف، كعادته مثلما فعل منذ سنوات عند حفل نقل المومياوات، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي متألقا بين شخصيات من كل حدب وصوب، يردّد بحماس مفردات "النهضة التاريخية" و"إرث الحضارات"، ويؤكد أن مصر تثبت للعالم عظمة أم الدنيا.
هناك حيث تختفي الأضواء، ينهض المصريٌّ في أول الضحى ليبدأ يومه المنهك في لقاء الذل المعيشي من أجل حياة بسيطة، وبينما تتسابق الوفود العالمية خلف نُصب تحتمس الثالث وكنوز الملك توت عنخ آمون، يعجز هذا المواطن عن توفير بديل صحي يناسب أولاده، وعن تسديد فاتورة طاقة جعلتها القرارات الاقتصادية فوق طاقة الفقراء، ناهيك عن الطوابير الطويلة على الخبز المدعم أو الأدوية من المستشفيات العامة، وشكوى النساء المُثقلة بمشقة العيش فوق رؤوسهن؛ كل ذلك لا وجود له على شاشات هذا الحفل الباذخ، شاشات السُلطوية.
إنها سخرية الاستبداد: التماثيل الملمعة لها متحفٌ فاخر، في حين أن الشعب المصري لا يجد متحفا يؤويه من عِفار الحياة. هذا ليس مجرد تشبيهٍ شعبيٍّ مأثور، بل حقيقة نراها بأم العين يوميا. فالمتحف الجديد انتقل به الحاكم المصري القديم، الفرعون المُتجدد، من مملكة الرمال إلى قصرٍ من زجاجٍ ذهبي، بينما بقي المصري المعاصر محشورا بين تذاكر الأتوبيس اليومية وأقساط المدارس، وأتربة المعمار المُهدَّم، يبحث عن كرامة تكفل له حياة لائقة. في بلدٍ يفتخر تاريخه الحجري القديم، بات العيش اليومي وعبء المعيشة مثقلين بنفقاتٍ تفوق قدرات أصحاب الأجور الثابتة، فهم بالكاد يجدون قوتهم شبه محسوم للعجز كما نقرأ في سجلات الاقتصاد، ومعدلات الفقر التي تزداد عاما بعد آخر.
الأمر ليس هنا فقط؛ فكلما أعلنت الحكومة عن منتدى استثماري جديد أو احتفاء بإطلاق مشروع قومي، تتردّد في الشوارع حكايات عن مصاعب حقيقية. رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء، وتعويم الجنيه، وارتفاع أسعار السلع الأساسية كان له صدى بعيد في بيوت المصريين. خبرٌ هنا عن زيادة مفاجئة في فواتير الكهرباء تثير القلق، وهناك قرارٌ بإلغاء دعمٍ غذائيٍ أو دوائيٍ دون أن يشعر المواطن بأي مراعاة لظروفه، وبينما نسجت الكاميرات قصة إنجاز الحضارة القديمة، ظلت قصة المواطن نفسه تقتات على مزيجٍ من الكلمات الرنانة والإحصائيات الرسمية.
المفارقةُ أن السُلطة حين تبني هذا الصرح الفخم لتراثنا هي تبني أيضا سورا عازلا بينها وبين المواطن؛ تماثيل الملكة نفرتيتي أو إيزيس تبدو في المتحف بأبهى حلةٍ، وقد أُحيطت بعنايةٍ استثنائية، بينما يبقى المصري الذي جاهد ونافح من أجله التاريخ هو الغائب الأكبر والتمثال الصامت. وكم هو مُؤلم أن نسمع كلام القيادة عن "تثبيت الاقتصاد" و"تعزيز التضامن الاجتماعي" في وسائل الإعلام، فيما ترى جموع لا تجد الحرية في اقتناء أبسط سلعها. صحيح أن بعض الأرقام الرسمية قد تُشير إلى انتعاشٍ نسبي أو تراجعٍ متواضعٍ في التضخّم، لكن ربات البيوت في الأسواق وحَمَلة الشهادات العاطلين في محطات النقل يتحدثون بلغة أخرى: لغة الحجر الذي يحتضن التاريخ أكثر من الجسد البشري اليوم.
هناك أيضا مَن يذكّرُ -وربما بسخريةٍ خفيفة- بأنه في العصر الفرعوني كان العمال يُدفنون مع فرعونهم عظمة وحلوى حرير، بينما في هذا الزمن يكافح العمال للوصول إلى نهاية الشهر دون أن تسلخ الكرامة عن نفوسهم. نتباهى في هذه الليلة الدولية بمخزونٍ من التاريخ يُبهِج الناظرين إلى عظمة الأسلاف، لكن هل حقا فاض قلبنا بالفخر أم أنه غُشيَ به فلم يعترف بأبناء هذا الحاضر؟ تتهاوى بعض الردود الشعبية الساخرة على مواقع التواصل: التماثيل اليوم تُعالَج بحبٍّ واحتفاءٍ في متحف يُحاكي القصور، أمّا المواطن فلا يجد له سوى وعدٍ لا يتحقق، وحتى لم يعد الوعد يتردد.
الليلة لم يكن الحديث عن شوارعٍ مضاءة أو مدارسٍ جديدة، بل عن صالة عرض للماضي الزاهي، ماضٍ تُحب سُلطوية السيسي استرجاعه، وإعادة إحيائه، بهدف خدمة بقائها ولمعان صورتها بالإنجازات القومية والحضارية؛ من قناة السويس إلى نقل المومياوات وصولا إلى المتحف المصري الكبير. ربما لا يزال البعض يصدق أن ضخ مشروع فخم كهذا سينشط السياحة ويرد رصيدنا الأجنبي، لكن السؤال يبقى: ما قيمة غنائم الذاكرة إن فقدنا أحباءنا في خضم المعاناة اليومية؟ إن نحتَ الأحجار وضخ الدماء في معبدٍ من إسمنتٍ وألوان، لن يُعيد الرونق لعيونٍ غرقت بالغُبار والجوع والاشتياق للحرية. إذا كان المتحف يجسّد عمق ماضينا، فإنّ الشعب يحلم بمستقبلٍ لا أفق له، مستقبل فُقِد الأمل في تحقيق وجوده.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المصري التاريخي المواطنين الفقر المتحف مصر فقر تاريخ متحف مواطن قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
المتحف المصري الكبير.. درّة الحضارة المصرية على الخريطة العالمية
فتحت مصر أبوابها للعالم بافتتاح المتحف المصري الكبير في احتفال مهيب حضره الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدد من رؤساء وقادة الدول، ليكون هذا الصرح الحضاري الجديد درّة المتاحف العالمية والإفريقية وأكبرها من حيث الحجم والأهمية التاريخية والفنية.
يضم المتحف كنوز الحضارة المصرية القديمة، ليصبح شاهدًا على عظمة التاريخ المصري وعبقريته، ويجسد مشروعًا وطنيًا طموحًا يبرز رؤية الدولة في حفظ تراثها العريق وتقديمه للعالم بواجهة معاصرة تعكس مكانتها وريادتها الثقافية والفنية على المستويين الإقليمي والدولي.
ويمثل المتحف المصري الكبير علامة فارقة في الثقافة الإفريقية والدولية، حيث يسلط الضوء على قدرة إفريقيا على أن تكون حاضنة للحضارات والثقافات والتاريخ، ويعيد رسم ملامح دور القارة في الساحة الثقافية العالمية، كأكبر مشروع حضاري وثقافي في إفريقيا.
متاحف إفريقيا بين التاريخ والفن والتراثتتنوع المتاحف الإفريقية بين الأثرية والفنية والعلمية، وتشمل أمثلة بارزة:
ليبيا:
متحف أبولونيا الأثري (سوسة): يضم منحوتات ليبية وبطلمية قديمة، وفنونًا جنائزية، وخزفيات وأدوات منزلية، بالإضافة إلى آثار يونانية ورومانية.
متحف قورينا الأثري (شحات): يحتوي على تماثيل وفُسيفساء من مدينة قورينا القديمة.
متحف القلعة الحمراء الوطني: يغطي خمسة آلاف عام من التاريخ الإريتري، بالتعاون مع "يونسكو".
المغرب:
متحف دار الجامعي (مكناس): يقع في قصر يعود للقرن التاسع عشر، ويضم قطعًا أثرية من مكناس والمناطق المحيطة، تشمل الخزف والمجوهرات والخشب والتطريز.
متحف مراكش: يعرض قطعًا تاريخية وفنية معاصرة من مختلف مناطق المغرب، كما يستضيف فعاليات ثقافية وموسيقية.
الجزائر:
متحف الفن الحديث (الجزائر العاصمة): مركز للفن الجزائري والإفريقي المعاصر، يضم معارض متنوعة.
المتحف الوطني (شرشال): يضم آثارًا رومانية ويونانية، وأواني وشواهد فنية بيزنطية، بالإضافة إلى فسيفساء دقيقة.
متحف الثورة: يروي تاريخ حرب الاستقلال الجزائرية عبر أكثر من 50 نموذجًا لمعارك وحصون وأحداث تاريخية.
أنجولا:
المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي: يضم أقسامًا للإثنوغرافيا، وعلم الحيوان والنبات، والجيولوجيا، والفن، ويعرض ثروة حيوانية متنوعة.
المتحف الوطني للأنثروبولوجيا: يحتوي على أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية، تشمل أدوات زراعية ومعدات صيد وفخار ومجوهرات وآلات موسيقية.
إفريقيا الوسطى وجزر القمر وجيبوتي:
إفريقيا الوسطى: متحف بوغندا الوطني، يعرض الفخار والعملات والأقنعة والآلات الموسيقية التقليدية.
جزر القمر: المتحف الوطني في موروني، يحتوي على معروضات في التاريخ والفن والدين وعلم البراكين والعلوم الطبيعية.
جيبوتي: قصر الشعب، نصب تذكاري يروي كفاح الشعب الجيبوتي من أجل الحرية.
الكاميرون:
متحف بابونجو الفني والثقافي: يعرض آلاف القطع الفنية التي تعكس الحياة الاجتماعية والتراث الفني للمنطقة.
متحف باندجون: يضم أكثر من مئة قطعة رئيسية من التراث الثقافي والفني لبابونجو.
إريتريا:
متحف شمال البحر الأحمر الإقليمي (مصوع): يهتم بحفظ التراث الثقافي وعرضه.
المتحف الوطني (أسمرا): يروج للتاريخ الإريتري محليًا ودوليًا.
متحف جنوب البحر الأحمر الوطني: يعرض تاريخ إريتريا في مجالات الحياة البحرية والتطور البشري وحرب التحرير.
غانا:
المتحف الوطني: يعرض مجموعات في علم الآثار والإثنوغرافيا والفن.
متحف قلعة القديس جورج: يروي تاريخ القلعة ويحافظ على التراث الثقافي.
متحف العلوم والتكنولوجيا: يعرض تطور الأدوات والآلات منذ ما قبل الاستعمار وحتى العصر الحديث.
كينيا:
متحف السلام المجتمعي (أباسوبا): يعزز الوعي بالفن الصخري ويشجع السياحة.
متحف ماشوجا (نيروبي): يغطي تاريخ كينيا المبكر وشعبها والحروب والاستقلال.
متحف أيمبو للسلام: مشروع بحثي حول السلام والتراث الثقافي لشعب أيمبو.
موريتانيا:
متحف وادان المحلي: يشمل عناصر من العصر الحجري الحديث حتى الفترة الاستعمارية، مع مخطوطات وخزفيات وأدوات تقليدية.
المتحف الوطني: يعرض مجموعات أثرية وإثنوغرافية، ويضم المكتبة الوطنية والمعهد الموريتاني للبحث العلمي.
يفتح المتحف المصري الكبير اليوم صفحة جديدة في السياحة الثقافية والفنية، ويؤكد مكانة مصر كواجهة حضارية عالمية تعكس تاريخها العريق وإشعاعها الثقافي والفني.
اقرأ أيضاًافتتاح المتحف المصري الكبير.. رسائل مصر الحضارية إلى العالم
أسعار تذاكر المتحف المصري الكبير وموعد الافتتاح للجمهور
المتحف المصري الكبير.. كيف سيعيد رسم خريطة السياحة في مصر؟