المنافسة بين شاومي وآبل تلخص صعود الصين السريع وإخفاق العرقلة الأميركية
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
في منطقة غرب ألمانيا وفي ولاية رايلاند-بفالتس، تقع مرتفعات جبلية تحيط بها غابات كثيفة إحداها تسمى حلبة نوربورغرينغ، أو "الجحيم الأخضر" بسبب خطورتها.
وقد أخذت هذه الحلبة شهرتها من كونها مخصصة لاختبار أداء السيارات لشركات كبرى مثل "بي إم دبليو" ومرسيدس وبورش.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الكتابة الاستقصائية.. حين تمتزج الصحافة بالبحث العلميlist 2 of 2هل خسرت الحركات الإسلامية جيل زد؟end of list
وفي سباق 2025، شهدت الحلبة حدثا جديدا في اختبار أداء السيارات الكهربائية حيث استطاعت شاومي الصينية -التي صنعت أول سيارة لها قبل عام- أن تفوز بالسباق بعد أن قطعت المسار المخصص لذلك في 7 دقائق و5 ثوان، محطمة بذلك الرقم القياسي السابق الذي حققته بورش في 7 دقائق و7 ثوان.
وكان انتصار شاومي -المشتهرة أصلا بالهواتف والأجهزة المنزلية- في ميدان السباق العالمي الشهير لأداء السيارات رمزا لصعود الصين السريع والمفاجئ نحو هيمنة الطاقة النظيفة والتفوق التكنولوجي الهائل.
ويعكس صعود شركة شاومي الصينية -التي لا يصل عمرها إلى 20 عاما- منافستها الشرسة مع آبل الأميركية التي أوقفت العام الماضي مشاريع لتطوير السيارات الكهربائية بعد عقد من العمل عليها.
ويعني التنافس بين آبل وشاومي في الميادين التكنولوجية -واكتساح الشركة الصينية لأسواق المبيعات على حساب غريمتها الأميركية ذات العمر الطويل- جزءا بسيطا من النجاح الصيني في الصعود بمجال التصنيع، وهو نجاح لم تستطع الولايات المتحدة عرقلته.
وكان هذا الموضوع محورا لدراسة نشرها مركز رؤى للدراسات والبحوث بورقة تحمل عنوان "أسباب الصعود الصيني والإخفاق الأميركي في عرقلته أو إيقافه".
بين آبل وشاوميبدأت الدراسة في استعراض مسيرة شاومي لتبرهن على قوة صعودها وهيمنتها رغم حداثتها بالسوق، حيث أشارت إلى أنها تأسّست عام 2010 في بكين على يد المهندس ورائد الأعمال لي جون (Lei Jun) وعدد من المهندسين السابقين في غوغل وموتورولا، برؤية "ابتكار تكنولوجيا عالية الجودة بأسعار في متناول الجميع".
إعلانوخلال سنوات قليلة أصبحت شاومي العلامة رقم 1 في الصين، ثم توسعت إلى الهند، وأوروبا، والشرق الأوسط، وبحلول عام 2021، تفوقت على آبل لفترة قصيرة لتصبح العلامة رقم 2 عالميا في مبيعات الهواتف بعد سامسونغ.
وعام 2021، أعلنت شاومي رسميا دخول قطاع السيارات الكهربائية الذكية، وقد أطلقت عام 2024 أولى سياراتها "شاومي إس يو 7" (Xiaomi SU7) وهي المنافس الصيني المباشر لتسلا الأميركية، وحقّقت السيارة رقما قياسيّا في حلبة سباق نوربورغرينغ 2025 لتثبت قوتها في الأداء والهندسة.
أما شركة الحوسبة الأميركية العملاقة (آبل) فقد فكّرت عام 2014 في تطوير السيارات الكهربائية، وكان ذلك مناسبا لقدرتها المالية، إذ بلغت قيمتها السوقية ذلك الوقت 600 مليار دولار، ووصل احتياطها النقدي إلى 40 مليارا، مما يفوق بكثير الموارد المالية لشاومي.
ولكن الولايات المتحدة لا تمتلك نظام الطاقة أو القدرة التصنيعية للصين، لذلك لم تكن هناك بنية تحتية سهلة لآبل للاستفادة منها.
ونتيجة لذلك، وعام 2024، أوقف مجلس إدارة آبل تطوير السيارات الكهربائية الذي استمر عقدا من الزمان، وقامت بتسريح ثلث الفريق الذي تم تخصيصه للمشروع، ووجه الباقي لمجالات الذكاء الاصطناعي.
ونبّهت الدراسة إلى أن المنافسة بين آبل وشاومي في مجال السيارات الكهربائية يلخص قصة الصعود الصيني والتخبط الأميركي في مواجهته أو عرقلته، الأمر الذي يطرح تساؤلا حول مدى إمكانية الاستمرار الصيني في الصعود المذهل، وهل ستبقى الولايات المتحدة حائرة في كيفية عرقلته أو إيقافه؟
هنالك العديد من الأسباب التي جعلت النموذج الصيني في المجال التصنيعي يتزايد بوتيرة لافتة للانتباه السنوات الأخيرة رغم التفاؤل الكثير في الغرب بتباطؤ الاقتصاد الصيني وعجزه عن تجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، ومن أهم هذه الأسباب:
1- الاكتفاء الذاتي في التصنيع والتقدم التكنولوجي
تقف وراء هذا الهدف الإستراتيجي إرادة سياسية صارمة، ففي عام 2015 كشف المخططون في بكين عن خطة "صنع في الصين 2025" وهو برنامج طموح جدا لقيادة صناعات المستقبل.
وهدفت الخطة إلى تطوير التصنيع الصيني في قطاعات الطاقة والمواد عالية التقنية، كما هدفت إلى تقليل اعتماد البلاد على الواردات والشركات الأجنبية، وتحسين القدرة التنافسية للشركات الصينية بالأسواق العالمية.
وأكدت الحكومة الصينية هذه الرؤية بدعم مالي هائل، حيث أنفقت ما بين 1% و2% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا، لتنجح بسبب هذه الجهود في الهيمنة على سوق الطائرات المسيرة، ومجالات الأتمتة الصناعية.
2- الاستثمار بالبنية التحتية العميقة
ومن أبرز الأسباب التي جعلت النموذج الصيني يصعد بسرعة تركيز الدولة على الاستثمار في الأنظمة المادية الأساسية التي تُمكّن من الابتكار والإنتاج الفعّال، ويتكون جزء من هذه البنية التحتية من أنظمة النقل، مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ.
وفي الـ30 عاما الماضية، أنشأت الصين شبكة وطنية من الطرق السريعة يبلغ طولها ضعف طول شبكة الطرق السريعة بين الولايات الأميركية، وشبكة قطارات فائقة السرعة يبلغ طول مساراتها أميالا أكثر من بقية دول العالم مجتمعة، وشبكة هائلة من الموانئ أكبرها في شنغهاي التي ينقل منها من البضائع أكثر من جميع موانئ الولايات المتحدة.
إعلانوقارنت الدراسة بين شبكة الطرق السريعة وشبكات القطار فائق السرعة في الولايت المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، لتكشف أن الأخيرة لديها 190 ألف كيلومتر نهاية 2024، بينما لا تتجاوز الولايات المتحدة 78.7 ألف كيلومتر، والاتحاد الأوروبي 75 كيلومترا.
3- النجاح في تطوير الشبكة الرقمية
أصبحت للصين شبكة إنترنت محلية ربطت بسرعة جميع السكان تقريبا، وفي نفس الوقت تحكمت -أو حجبت- ما لا تريد لشعبها رؤيته من الخارج.
وقد مكن تطوير شبكة الإنترنت من تحقيق فوائد هائلة للقطاعات الصناعية في الصين، وإنشاء نظام بيئي عالي التقنية.
4- التقدم في المجال الكهربائي
أصبحت الكهرباء أساس البنية التحتية الصينية. وعلى مدار العقود الثلاثة الأخيرة، قادت الصين العالم في بناء محطات الطاقة، وتنتج الآن كهرباء سنويا أكثر مما تُنتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين.
وقد مكّن هذا الإمداد الوفير من الطاقة من النمو السريع لأنظمة النقل المعتمدة على الكهرباء، وتحديدا السكك الحديدية عالية السرعة والسيارات الكهربائية.
وبالإضافة للأسباب المذكورة هنالك عوامل أخرى مثل القوة العاملة الصناعية، والطموح المتزايد لرواد الأعمال، والخروج من عنق العقوبات والقيود الأميركية على تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي.
ولا تعني هذه الأسباب القوية أن البرامج والخطط الحكومية قد نجحت تماما، بل عانت من بعض النتائج السلبية للدعم الحكومي السخي الذي أدى لكثير من حالات الهدر والفساد الحكومي.
أسباب الإخفاق الأميركي في عرقلة الصعود الصينيومن أهم تلك الأسباب:
1- النظرة الدونية إلى الصين
لا يزال بعض القادة الأميركيين لديهم نفس الانطباعات والأفكار القديمة عن الصين وتخلفها الصناعي والتقني، وبالتالي يعيشون في غفلة عن التغيرات الهائلة التي حدثت فيها.
2- سيطرة الولايات المتحدة في المجال التكنولوجي
يعتبر تفوق الولايات المتحدة في العديد من المجالات المهمة، مثل البرمجيات، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى منظومة الابتكار التي تقودها الجامعات الأميركية، من أهم العوامل التي جعلت واشنطن لا تهتم بالصعود الصيني.
3- تخلف الولايات المتحدة بالبنية التحتية مقارنة مع الصين
لم تقم الولايات المتحدة بتجديد بنيتها التحتية التي تم تشييدها أواخر القرن الـ19 والنصف الأول من القرن العشرين، وازداد الأمر سوءا بأنها لم تُنشئ بنية تحتية عميقة كافية بالتحديات التكنولوجية الهائلة للقرن الحالي.
4- انكماش القطاع الصناعي الأميركي
ومن ضمن الأسباب الأساسية في الإخفاق الأميركي في عرقلة الصين أن القطاع الصناعي الأميركي يواصل انكماشه وسط تأخيرات في المنتجات، وتسريحات للعمال، وتراجع في جودة الإنتاج.
وبالإضافة لهذه الأسباب، فإن هنالك تحديات للشركات الأميركية تتمثل في توفير العمالة المنخفضة الأجر التي توجد في الصين والهند.
وأشارت الدراسة إلى أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير فرض رسوم جمركية على الصين تصل إلى 100%، إذ قد تترتب عليه آثار واسعة ومعقدة.
ورغم أن دوافع القرار تتركز في مواجهة السيطرة الصينية على المعادن النادرة وسلاسل التوريد الإستراتيجية، فإن أمامه عوائق وعوامل تُحدّ من فعاليته، مما يجعله يصب في نفس السياسات الارتجالية التي تحاول عرقلة الصعود الصيني، دون تصور متكامل، وجهود سياسية منسقة، وبالتالي لا يُتوقع أن يغير شيئا.
وخلصت الدراسة إلى أن واشنطن في الوقت الحالي مكتوفة الأيدي في وجه تقدم قطاعي التكنولوجيا والتصنيع في الصين، وتكتفي بعرقلته بدلا من التركيز على إيجاد بيئة مناسبة للابتكار والتصنيع، وإذا استمرت الولايات المتحدة في الانسحاب من النظام العالمي ومؤسساته فإن الصين لا محالة ستملأ ذلك الفراغ.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: شفافية غوث حريات دراسات دراسات السیارات الکهربائیة الولایات المتحدة الصعود الصینی الأمیرکی فی الصینی فی فی الصین إلى أن التی ت
إقرأ أيضاً:
تايوان في قلب الصراع الأمريكي ـ الصيني
مارفن بارك -ديفيد ساكس -
لم يخفِ القادة الصينيون رغبتهم في فرض سيطرتهم على تايوان، بالقوة إن لزم الأمر، وهم يذكرون محاوريهم الأمريكيين باستمرار بأن الجزيرة لا تزال القضية الأكثر حساسية وأهمية في العلاقات الأمريكية الصينية. لكن أي تعديل ـ ولو طفيفًا ـ- في السياسة الأمريكية باتجاه موقف بكين قد يزعزع استقرار المنطقة؛ فتايوان القوية والواثقة والمدعومة أمريكيًا تظل عنصرًا أساسيًا في الحفاظ على السلام الإقليمي؛ لذلك، ينبغي على ترامب أن يوظف نفوذ بلاده لردع التعديات الصينية وإعادة ترسيخ القواعد التي أثبتت فعاليتها في مضيق تايوان.
ترتكز مطالب بكين من الولايات المتحدة بشأن تايوان على الادعاء بأن تايوان وواشنطن ـ لا الصين ـ هما مصدر عدم الاستقرار الإقليمي. غير أن الواقع يثبت العكس تمامًا؛ فالتوترات الراهنة نتجت عن السلوك الصيني العدواني المتزايد، عسكريًا وسياسيًا على حد سواء. فقد شرعت بكين في توسع عسكري غير مسبوق في وقت السلم، هدفه الواضح هو امتلاك القدرة على السيطرة على تايوان بالقوة. كثّفت تدريباتها العسكرية وعمليات الإنزال البرمائية، ووسعت ترسانتها النووية بوتيرة متسارعة، وسعت في الوقت نفسه إلى عزل تايوان دوليًا والتدخل في شؤونها الداخلية.
وتزعم بكين أن خطواتها جاءت ردًا على الانتخابات التايوانية عام 2016 التي أوصلت إلى الحكم تساي إنغ ون، من الحزب الديمقراطي التقدمي المعروف بتشدده تجاه الصين. لكن الحقيقة أن التصعيد الصيني سبق تولّيها المنصب. فقد اتبع سلفها، ما يينج جيو من حزب الكومينتانج، نهجًا تصالحيًا تجاه بكين، وعمل على توثيق العلاقات عبر المضيق، ووقع معها نحو عشرين اتفاقية تتعلق بالتجارة والسياحة وغيرها. ومع ذلك، وعلى الرغم من مواقف ما الودية إزاء بكين وذلك التقارب التاريخي، واصلت الصين توسيع ترسانتها من الصواريخ الباليستية وأسطول مقاتلاتها المتمركزة في نطاق تايوان خلال فترة ولايته. في المقابل، ظل الإنفاق الدفاعي لتايوان راكدًا، بل شهد تراجعًا في معظم سنوات حكمه. وهكذا، حين وصلت تساي إلى السلطة، كان الإنفاق العسكري الصيني قد تجاوز نظيره التايواني بأكثر من أربعة عشر ضعفًا.
سعت تساي في البداية إلى تهدئة التوترات مع الصين، لكن بكين رفضت مبادراتها وزادت من ضغوطها بدلًا من ذلك. وفقد ما يُعرف بـ«توافق عام 1992» شعبيته في تايوان، وهو التفاهم الذي وضع أساس العلاقات عبر المضيق من خلال الإقرار بوجود «صين واحدة» مع السماح بتفسيرات متعددة لهذا المفهوم. ومع ذلك، أكدت تساي في خطاب تنصيبها احترامها لـ«الحقيقة التاريخية» لتفاهمات 1992، وقدمت صيغة مبتكرة تمثل إطارًا لـ«صين واحدة» يمكن أن يرضي ـ نظريًا ـ الحد الأدنى من مطالب بكين دون أن ينفّر الشعب التايواني. لكن القادة الصينيين رفضوا هذا الطرح، وفوتوا فرصة لتحسين العلاقات عبر المضيق، وألقوا باللوم على تساي متهمين إياها بعدم بذل جهد كافٍ.
منذ عام 2022، وبعد الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتي اعتبرتها بكين استفزازًا، بدأت الصين بانتهاك العديد من الأعراف الراسخة في مضيق تايوان. فقد كثفت من تحليق طائراتها العسكرية والطائرات المسيرة عبر خط الوسط الذي احترمه الجانبان لعقود، ونشرت سفنًا حربية وسفن خفر سواحل حول الجزيرة. كما أخذت تتحدى حدود المنطقة المتاخمة لتايوان، التي تمتد لمسافة 24 ميلًا بحريًا حولها، وتهدد بانتهاك مياهها الإقليمية البالغ عرضها 12 ميلًا بحريًا.
ولم تقتصر ضغوط الصين على الجانب العسكري؛ إذ لجأت أيضًا إلى وسائل اقتصادية ودبلوماسي. فقد ضغطت على الدول القليلة التي لا تزال تحتفظ بعلاقات رسمية مع تايبيه للاعتراف ببكين بدلًا منها، وفرضت عقوبات على الصادرات التايوانية، وشنت هجمات إلكترونية استهدفت البنية التحتية في تايوان.
وفي خضم حملة الضغط المتصاعدة من جانب بكين، ازداد غضب المواطنين التايوانيين تجاه الصين. وعندما اختار الناخبون في تايوان لاي تشينج تي، نائب الرئيس السابق تساي إنج ون، رئيسًا في يناير 2024، سارعت بكين إلى إعلان رفضها التعامل معه، واصفةً إياه بأنه «انفصالي خطير» يسعى إلى تدمير السلام عبر المضيق.
ورغم أن لاي اتخذ مواقف أكثر تشددًا من تساي تجاه الصين ـ إذ وصفها مثلًا بأنها «قوة أجنبية معادية»ـ فإن الرفض الصيني المسبق له ألغى أي حافز لديه لاعتماد نهج أكثر مرونة أو انفتاحًا.
وقد تطرح الصين مجموعة من المطالب تهدف إلى إعادة تشكيل السياسة الأمريكية تجاه تايوان، وقد تشمل هذه المطالب معارضة استقلال تايوان علنًا، والامتناع عن دعم مشاركتها في المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، أو حتى تقييد مبيعات الأسلحة إليها. غير أن الاستجابة لهذه المطالب ستصب في مصلحة بكين وتضر بالمصالح الأمريكية. فالموقف الأمريكي التقليدي تجاه تايوان ـ المستند إلى قانون العلاقات التايوانية لعام 1979، يقوم على قاعدة واضحة: واشنطن لا تؤيد استقلال تايوان، لكنها أيضًا لا تتخذ موقفًا من وضعها القانوني.
وإذا انحرف ترامب عن هذا الحياد الحذر وأعلن معارضته لاستقلال تايوان، فسيقلب التوازن الدقيق الذي حافظ على السلام في المضيق لعقود. وستحاول الصين استغلال هذا التحول لتصويره على أنه سحب للثقة من الرئيس لاي، مؤكدةً أن تايوان لا يمكنها الاعتماد على الولايات المتحدة، بل عليها السعي إلى «صفقة أفضل» مع بكين. والنتيجة ستكون زيادة الضغط على تايبيه لتقديم تنازلات، بدلًا من إلزام بكين بكبح عدوانها المتصاعد. وهكذا، ستجد تايوان نفسها في موقف حرج، فيما تشجع مثل هذه الخطوة الصين على المضي قدمًا في سياساتها العدوانية.
أي تراجع عن دعم مشاركة تايوان في المحافل الدولية سيعدّ انقلابًا على سياسة أمريكية مستقرة منذ تسعينيات القرن الماضي، وسيزيد من عزل الجزيرة جيوسياسيًا. فمنذ مراجعة بيل كلينتون عام 1994، دعمت واشنطن انخراط تايوان في المنظمات الدولية، وشاركت الأخيرة فعليًا خلال رئاسة ما يينغ جيو في هيئات مثل منظمة الصحة العالمية والطيران المدني الدولي. أما مطالبة الصين اليوم بوقف هذا الدعم، فتهدف إلى عزل الرئيس لاي والضغط عليه سياسيًا.
خفض التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وتايوان سيضعف قدرة الجزيرة على ردع أي حصار أو غزو صيني محتمل، إذ تعتمد تايوان كليًا على الدعم الأمريكي في تسليحها وتدريب جيشها. فواشنطن، التي وافقت على صفقات سلاح تفوق 65 مليار دولار خلال العقود الماضية، تمثل الضامن الأساسي لأمن تايوان. واستمرار هذا التعاون ضروري لردع بكين ومنح التايوانيين الثقة في قدرتهم على مواجهة التهديدات الصينية.
لكن تصرفات ترامب خلال السنة الأولى من ولايته الثانية أثارت قلقًا متزايدًا في تايبيه بشأن مدى استمرارية الدعم الأمريكي. فأي تنازلات إضافية لبكين ستعمق شكوك التايوانيين في جدوى الاستثمار في الردع والاستعداد للأزمات، وهي ما تصفه قيادتهم بـ»مرونة المجتمع بأكمله». كما أن هذا النهج سيقوّض ثقة حلفاء واشنطن وشركائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بمصداقيتها، وقد يدفع دولًا أخرى إلى التردد في توثيق علاقاتها مع تايبيه، مانحًا الصين فرصة إضافية لعزل تايوان وتقليص تعاونها الإقليمي.
يمكن للولايات المتحدة والصين التوصل إلى اتفاق يخفف التوتر في مضيق تايوان دون التخلي عن الجزيرة، عبر خطوات تدريجية تعيد الوضع إلى ما قبل أزمة زيارة بيلوسي عام 2022.على واشنطن أن تدفع بكين لسحب قواتها وسفنها من محيط تايوان وتقليص تدريباتها العسكرية، مقابل تخفيضات أمريكية متبادلة في الوجود العسكري الإقليمي. كما يمكن بدء المفاوضات بالتركيز على تقليص القدرات الهجومية؛ فالصين تسحب صواريخها الموجهة نحو تايوان وتحد من اقتراب قواتها من الجزيرة، في حين تسحب واشنطن أنظمتها الصاروخية البعيدة المدى من محيط الصين وتعيد توجيه تدريباتها نحو مهام دفاعية بحتة. من شأن هذه الترتيبات أن تقلل احتمالات التصعيد وتعيد قدرًا من الاستقرار إلى المضيق.
ويمكن للولايات المتحدة أيضًا أن تقترح إنشاء منطقة عازلة فعلية حول تايوان، لتقليل مخاطر الحوادث التي قد تتطور إلى صراع واسع. فمثل هذه المنطقة ستُعيد العمل بمؤشرات الإنذار المبكر التي تسهل على كل من بكين وواشنطن إرسال الإشارات الاستراتيجية وقراءتها بدقة، بما يسمح لهما بالتمييز بين التدريبات الروتينية والتحركات التصعيدية. وطالما أن الولايات المتحدة تحتفظ بقوات كافية في المنطقة لإظهار استعدادها لفرض الحدود، فإن إقامة المنطقة العازلة لن تقوض قدرتها وقدرة تايوان على ردع الصين بصورة مشتركة. وربما تكون بكين منفتحة على هذا الترتيب، إذ يبدو أن شي جين بينج لا يثق تمامًا بجيش التحرير الشعبي أو بقدرته على السيطرة على تايوان في المدى القريب.
ينبغي على القادة في الولايات المتحدة والصين أن يسعوا أيضًا إلى ضبط النفس المتبادل في الطريقة التي يتحدثون بها عن الوضع القانوني لتايوان. في السنوات الأخيرة، كثّفت الحكومة الصينية جهودها لفرض تفسيرٍ بديل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758، الصادر عام 1971، والذي نقل مقعد الصين في الأمم المتحدة من تايبيه إلى بكين. وتدعي الصين أن القرار 2758 ينص على أن تايوان جزء من جمهورية الصين الشعبية، وهو ادعاء يرفضه علماء القانون الغربيون على نطاق واسع، مما يثير مخاوف من أن بكين تسعى إلى ترسيخ الأساس القانوني لمهاجمة تايوان مستقبلًا. في المقابل، ترى بكين في رد الولايات المتحدة على موقفها من القرار 2758 محاولة لتكريس انفصال تايوان الدائم عن البر الرئيسي. لذلك، على الجانبين السعي إلى نوعٍ من «وقف إطلاق النار الكلامي»، يمتنع فيه كل طرف عن مناقشة الوضع القانوني لتايوان، كما كان الحال إلى حد كبير طوال العقود الماضية.
وعلى الرغم من محدودية هذه الخطوات، فإن أي تقدم تدريجي في مضيق تايوان سيعد إنجازًا كبيرًا. فبدلًا من الاكتفاء بردود الأفعال على مقترحات بكين، يمكن لواشنطن أن تبادر إلى تحديد أجندة خاصة بتايوان تسعى من خلالها إلى تحقيق الاستقرار في المضيق، الذي لا يزال الساحة الأكثر ترجيحًا لاندلاع حربٍ بين القوتين النوويتين. وإذا رفضت الصين المقترحات الأمريكية، فسيكشف ذلك بوضوح عن نواياها، ويُرسل في الوقت نفسه إشارة مهمة إلى دول المنطقة مفادها أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع في مضيق تايوان، بل تلتزم قولًا وفعلًا بمنع اندلاعه.