منذ عام 1982 عقدت اليونيسكو المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة، الذي كان من بين أبرز نتائجه هو التعريف الشامل للثقافة، الذي يدفعنا إلى التفكير في الثقافة باعتبارها (مجمل السمات المميِّزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية)، فهي لا تقتصر على التراث أو الآداب أو الفنون بل تشمل أنماط حياة المجتمعات ومنظومتها القيمية، الأمر الذي دفع العالم إلى تعزيز مكانة الثقافة وربطها بالتنمية المجتمعية المستدامة.

ومع تزايد هذا الاهتمام وتسارع التغيرات في العالم، خاصة على مستوى التحولات الرقمية وقدرة القطاع الثقافي على الاستفادة منها في الاقتصاد الإبداعي، وتعزيز التنوُّع بأشكاله المختلفة، إضافة إلى التحديات المرتبطة بصون التراث الثقافي في البيئة الرقمية، فإن الحاجة إلى ترسيخ مفاهيم السياسات الثقافية وحوكمة القطاع أصبحت ضرورة أساسية من أجل تحديد أولويات الثقافة في كل مجتمع، وقدرتها على مواكبة المتغيرات وتعظيم فوائدها وعوائدها الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى الرغم من أن الدعوة إلى مواءمة السياسات الثقافية مع التطلعات التنموية بدأت باكرًا جدًا، إلاَّ أنها ظلت ضمن مفاهيم الثقافة المجتمعية لتعبُر منها إلى إمكانات إدماجها في السياسات الإنمائية؛ بحيث تكون الثقافة رافعة تنموية تسهم في تعزيز قدرة المجتمعات على الصمود في وجه المتغيرات من ناحية، وتضمن رفاهيتها من ناحية أخرى.

إن الثقافة في علاقتها بالقطاعات التنموية والتنمية المستدامة ظلت ضمن نطاق منهجيات الإدماج وشمولية النظر إليها باعتبارها عنصرا مهمًا وفاعلًا من عناصر التنمية في كافة القطاعات، الأمر الذي حال دون استقلاليتها التامة بوصفها قطاعا دافعًا للتنمية وممكِّنًا للمبدعين.

ولقد ظلَّت الثقافة كذلك حتى عندما أرادت اليونسكو إدماجها في خطة التنمية المستدامة 2030؛ إذ لم تظهر صراحة سوى خلال غايتين ضمن الهدفين الرابع والحادي عشر، وقد كانت الحجة أنها حاضرة ومؤثرة في أهداف الخطة كلها، حيث تشكِّل الأساس الذي تنطلق منه الأبعاد الاجتماعية والبيئية والاقتصادية؛ ذلك لأن صون التراث الثقافي وتعزيز النظم الإبداعية ودعم التنوُّع الثقافي تمثِّل الأُسس التي يعتمد عليها المجتمع لمواجهة التحديات العالمية، خاصة تلك المتعلِّقة بالعمل المناخي، والقضاء على الفقر، والعدالة الرقمية.

إن شمولية الثقافة وإدماجها في خطة التنمية المستدامة وأهدافها، جعل العالم يتنبه إلى تلك النتائج التي يمكن أن تحرزها إذا ما تم التركيز عليها من خلال السياسات الداعمة لها، ودعم تطلعاتها وتحقيق أهدافها التنموية؛ فبدلا من التركيز عليها من خلال القطاعات الأخرى، يكون العمل انطلاقًا من الأهداف التنموية الخاصة بالقطاع الثقافي نفسه والدفع به نحو مستويات متقدمة من التحوُّل التنموي المنطلِق من المبدع باعتباره الأساس الجوهري لدعم هذا القطاع.

وكنتيجة لتلك الأطروحات والمساجلات التي طالما أشغلت القائمين على الثقافة، أصدرت اليونيسكو قبل أيام قليلة تقريرها الأول بشأن السياسات الثقافية (الثقافة.. الحلقة المفقودة في أهداف التنمية المستدامة) ـ الذي عنونَّا به هذا المقال ـ ، استجابة للاتفاق الذي تم الإعلان عنه في مؤتمر اليونيسكو العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة لعام 2022، بحيث يكون هناك تقرير عالمي شامل يصدر كل أربع سنوات. وعليه، كان هذا الإصدار بمثابة اللبنة الأولى لإرساء الرؤية العالمية المشتركة والإطار المتكامل لحوكمة الثقافة للعقود المقبلة.

ينطلق التقرير من أهمية الاعتراف بالثقافة باعتبارها ركيزة مستقلة من ركائز التنمية المستدامة؛ حيث يستعرض المشهد العالمي للسياسات الثقافية الذي يصفه بأنه (مفكك، ومهمش، ومعزول، وثانوي)، واضعًا تصورًا جديدًا يمكن أن يمثِّل تحوُّلا نحو (سياسة ثقافية متكاملة، وعابرة للقطاعات، وتطلعيَّة على مستوى العالم)، الأمر الذي يمهد الطريق أمام الثقافة ليكون لها هدف مستقل في خطة التنمية المستدامة لما بعد 2030، مما سيُسهم في تعزيز مكانتها في المجتمعات ودعم الاستثمار في مجالاتها المختلفة.

لقد أسهم إدماج الثقافة في السياسات الإنمائية إلى ضمها في عمليات التخطيط والتشريع والتنفيذ، إضافة إلى النظر إليها باعتبارها ركيزة تنموية مؤثرة على المستوى الوطني، إلاَّ أن ذلك ظل قاصرًا ولا يحقِّق لقطاع الثقافة أهدافه المرجوُّة خاصة على المستوى الاقتصادي والبيئي؛ فقد كشف تقرير اليونيسكو أنه على الرغم من أن 93% من الدول تنظر إلى الثقافة باعتبارها عنصرًا رئيسًا في استراتيجياتها التنموية، إلاَّ أن 80% منها فقط تعترف بمساهمة الصناعات الثقافية والإبداعية على المستوى العام، و77% لمساهمتها في الإبداع والابتكار، مما يكشف عن فجوة واضحة بين الاعتراف بالثقافة وقدرتها التنموية وبين فعلية هذه القدرة ومدى مساهمتها اقتصاديا.

فالاعتراف بدور الثقافة، بوصفها محركًا للتحوُّل الاقتصادي والتقني، يوجب الاهتمام بها باعتبارها أولوية وطنية شديدة الخطورة؛ فنحن إذ نجد أن الثقافة في عُمان مثلا تحظى باهتمام كبير، بدءا بالسياسات الداعمة لها منذ النظام الأساسي للدولة، وكذلك التشريعات واللوائح المنظمة والـ«رؤية الوطنية 2040»، التي أفردت لهذا القطاع أولوية وأهداف تنموية مستقلة، ثم الاستراتيجية الثقافية وغير ذلك، فإن هذا الاعتراف وذلك الاهتمام يجب أن ينعكس على القطاع من خلال المردود الاقتصادي وأعداد المشروعات، والخدمات والأدوات الثقافية التي تنتجها.

والحال أن الاستثمار في الثقافة والصناعات الإبداعية لا يزال يحتاج إلى الكثير من الدعم خاصة من ناحية السياسات المنظمة والحوكمة باعتباره قطاعا يربط بين الاقتصاد والثقافة، فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تُبذل في القطاع من قبل المعنين، إضافة إلى القدرات البشرية الإبداعية المتميِّزة، إلاَّ أن تعظيم الاستفادة من مجالاته الإبداعية الواعدة يحتاج إلى رؤية واضحة تقود التطلعات وتنطلق من المبدعين أنفسهم إلى الاستثمار في إبداعاتهم باعتبارها فرصا تحتاج إلى التمكين.

إن الثقافة باعتبارها محركا اقتصاديا لا تقوم سوى بتمكين القطاع الثقافي، وتأسيس برنامج وطني متخصص في الاستثمار في الثقافة، لا أن يكون ذلك من خلال برامج استثمارية تعتبر أن تمكين البيئة الثقافية استثمار؛ فالثقافة بمجالاتها المتعددة وقدراتها وإمكاناتها الفكرية والإبداعية تنطلق من شموليتها نحو الاتساع، فتستفيد من التقنيات والإمكانات البيئية والاقتصادية وغيرها مما تتميز به الدولة، وتأخذ من التطورات المتسارعة لتقدِّم نفسها باعتبارها جوهر التنمية وأفقها المتطلِّع نحو التكامل.

لقد أثبتت التجارب في العالم ما يمكن أن يقدمه الاستثمار في الثقافة عمومًا والصناعات الإبداعية بشكل خاص من فرص واعدة على مستوى الوظائف الإبداعية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى تمكين الشباب والنساء، ودعم التطلعات الاقتصادية وتحقيق الرفاه الاجتماعي للمبدعين؛ ولهذا فقد آن الأوان للنظر إلى هذا القطاع باعتباره فرصًا استثمارية قادرة على النمو والتطوُّر من خلال مراجعة السياسات الداعمة للاستثمار فيه من ناحية، ودفع التحول الرقمي الإبداعي في مجالاته المختلفة، إضافة إلى أهمية إيجاد شراكة حقيقية بينه وبين قطاع التجارة والاستثمار من ناحية أخرى.

إن الثقافة هي الحلقة الواصلة لقطاعات التنمية المستدامة؛ إذ لا يمكن أن تقوم المجتمعات دونما ثقافة ماكنة قادرة على النهوض بالأفراد والجماعات، محركة للقطاعات التنموية، وداعمة للأهداف الوطنية، وشاملة للتنمية المجتمعية، ومتكاملة مع تطلعاتها، إلاَّ أن ذلك لن يتحقق سوى بتمكين هذا القطاع اقتصاديًا، والدفع به ليكون من أوائل القطاعات الداعمة للتنويع الاقتصادي.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التنمیة المستدامة الاستثمار فی فی الثقافة الثقافة فی هذا القطاع ع الثقافی إضافة إلى القطاع ا من ناحیة یمکن أن من خلال

إقرأ أيضاً:

رئيس الوزراء: أشكر المواطن المصري الذي تحمّل مع الدولة جهود التنمية

شهد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، حفلًا تاريخيًا لإطلاق خطة التنمية المتكاملة لمنطقة الساحل الشمالي الغربي.

 مؤكدًا أن الدولة وضعت هذه المنطقة على رأس أولوياتها التنموية، في خطوة تستهدف تعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق نقلة نوعية في مختلف القطاعات.

مدبولي يشهد توقيع صفقة استثمارية بـ29.7 مليار دولار لتطوير منطقتي سملا وعلم الروممدبولي يشهد توقيع عقد شراكة استثمارية مصرية - قطرية لتنمية سملا وعلم الرومشكر وتقدير للرؤساء القادة

أعرب مدبولي خلال كلمته عن خالص شكره للرئيس عبد الفتاح السيسي وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مشيرًا إلى أن توجيهاتهم المستمرة كانت وراء تحقيق هذه الإنجازات، وهو ما ساهم في جذب استثمارات ضخمة وفتح آفاق جديدة للتنمية المتكاملة في المنطقة.

دعم القطاعات الاقتصادية المختلفة

أكد رئيس الوزراء أن الدولة ركزت على تنشيط كافة القطاعات الاقتصادية، خاصة الصناعة والاتصالات والزراعة، مع تعزيز التصدير، مشيرًا إلى الأرقام الكبيرة التي تحققت في الصادرات الزراعية والمشروعات العملاقة التي نفذتها الدولة خلال الفترة الماضية.

وأشار  إلى افتتاح مصنعين كبيرين، معبرًا عن شكره للمواطن المصري الذي تحمّل مع الدولة جهود التنمية، مشيرًا إلى أن هذه المشروعات ستسهم في دفع عجلة الاقتصاد الوطني وتوفير فرص عمل جديدة.

مستقبل المنطقة: 50 مشروعًا جديدًا

أعلن مدبولي أن يوم الأحد المقبل سيشهد توقيع 50 مشروعًا جديدًا في إطار خطة التنمية المتكاملة لمنطقة الساحل الشمالي الغربي، وهو ما يمثل دفعة قوية للاقتصاد ويعكس التزام الدولة بتحويل المنطقة إلى نموذج عالمي للتنمية المستدامة، مع مراعاة توفير بنية تحتية متطورة ومناطق سياحية وخدمية متكاملة.

طباعة شارك الدكتور مصطفى مدبولي مدبولي أمير دولة قطر الشيخ

مقالات مشابهة

  • انطلاق معرض ومؤتمر الصناعة والنقل معا لتحقيق التنمية المستدامة.. غداً
  • خبراء لـ«الاتحاد»: الأسرة في صميم التنمية المستدامة بالإمارات
  • اتحاد مصارف الإمارات: حلول التمويل المبتكرة هي ضرورة لتطوير التجارة العالمية وتعزيز التنمية المستدامة
  • هاني: الشراكة مع كندا نموذج لتعزيز التنمية الزراعية المستدامة
  • إعلان الدوحة يدعو العالم لتوفير 4 تريليونات دولار لتحقيق التنمية المستدامة
  • “الأمم المتحدة الإنمائي”: مستعدون لتعزيز دعم التنمية المستدامة في ليبيا
  • رئيس الوزراء: أشكر المواطن المصري الذي تحمّل مع الدولة جهود التنمية
  • اجتماع لمتابعة خطوات تحقيق أهداف التنمية المستدامة برئاسة وزير التخطيط
  • الإمارات تشارك في اجتماع مجموعة «العمل الثقافية» بجنوب أفريقيا