بكري الجاك

لعل أنه من نافل القول تذكير الناس أن الحروب والعنف تعبران جزءاً أصيلاً في تركيبة البشر، وفي وتاريخ البشرية، بل إنه يمكن الزعم أن السلم والاستقرار والتعايش كان هو الأمر الطارئ والاستثنائي في مسيرة البشرية. ولكن المهم أنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تراكمت لدى العالم خبرات جمة تتعلق بأخلاق الحرب وقوانينها، ومسألة حماية المدنيين وكيفية التعامل مع أسرى الحرب باتت من حكم البديهيات في قوانين الحرب والسلام.

وبنفس القدر تراكمت خبرات كبيرة في مجال الوساطة وفض النزاعات لدى العديد من بيوت الخبرة، ومن خلال مشاركة لي فيما يعرف بـ “EU community of Practice: Peace Mediation” أي مجتمع الاتحاد الأوروبي لممارسة: وساطة السلام حيث تحدثت في جلسة نقاش فالـ 27 من أكتوبر المنصرم ببروكسل عن حرب السودان وتجارب صناعة السلام السابقة برفقة السيدة أنيت، ويبر مبعوثة الاتحاد الأوروبي لدى القرن الأفريقي والشابة السودانية الناشطة داليا يوسف طالبة الدكتوراة في جامعة ميونخ وبتيسير من السيدة سيلفيا تومسون، وكان من المفترض أن يكون برفقتنا السيد محمد بن شمباس رئيس الآلية الرفيعة لإسكات البنادق في السودان التابعة للاتحاد الأفريقي. وخلال مشاركتي لمدة يومين استمعت فيها إلى تحليل عن تحول صناعة السلام في العالم من القيم العليا Normative من عدالة حقوق إنسان وحكم رشيد إلى معادلة المصالح أو Transactional Approach وهنا تصبح عملية صناعة السلام تحقق مصالح الوسطاء بشكلٍ متساوٍ مع أطراف الصراع إن لم يكن بشكل أكبر، ولكن ما لفت نظري هو استمرار الجدل القديم الجديد عن كيفية التوفيق بين السلام والعدالة.

بغض النظر عن أسباب اندلاع الحروب والأحداث السابقة لاندلاعها المؤكد أنه ما أن تقوم الحرب حتى تصبح هناك تراكمات من المظالم لدى كل طرف، وهذه المظالم سواء كانت حقيقية في مجملها أم متصورة تصبح هي سردية الحرب لكل طرف من أطراف الحرب، والذي يحدث عادة هو أن تصبح هذه المظالم الحجة لرفض السلام باعتبار أن الحرب يجب أن تستمر ليس فقط لكف العدوان ومنعه في الأساس كما يبدو من ظاهر المنطق، ولكن الرغبة في الانتقام تصبح هي الدافع للحرب وفكرة الانتقام (القصاص) هي إحدى وسائل تحقيق العدالة في نظر المتحاربين، وحقيقة لم أُدهش حينما قال الفريق البرهان قبل أيام أن الحرب لن تتوقف إلى حين الاقتصاص للدماء التي سالت، وربما يٌستغرب مثل هذا القول من قائد الجيش؛ إذ إن هذا ما يجب أن يقول به العوام الذين تضرروا من الحرب والغضب يتملك بصيرتهم، والأجدى أن يتحدث القادة عن ما هي الأهداف السياسية التي يجب أن تحققها الحرب ولا يمكن أن تتحقق بسواها، التفاوض مثالا، سوءا كان ذلك إنهاء ظاهرة تعدد الجيوش أو إنهاء التمرد أو صد الغزو الخارجي كما يتحدث بعض دعاة الحرب لإلباس هذه الحرب لبوس أخلاقية وترفيعها إلى مقام مقدس يبرر استمرارها وتوسيع قاعدة الانخراط فيها.

ومن بين السرديات الداعمة لاستمرار الحرب، وفي كثير من الأحيان دون وعي أو قصد، هو خطاب المظالم أو الغضب مثل قول أنه كيف يمكن أن نصنع سلاما مع من نهب، وسرق واغتصب؟ ومنهم من يقول أن كيف نصنع سلاما مع غزاة وأجانب ومرتزقة؟ أو كيف نصنع سلاما مع فاشيين إسلاميين؟ ومنهم من يقول من الذي سيتحمل كلفة كل هذه الخسائر ولهؤلاء هناك من يروج كذبا أنه سيتم تعويض الناس كل ما خسروه من مال وذهب وممتلكات.

القاسم المشترك بين كل هذه الحجج هو ربط العدالة بالسلام، بل وبتقديمها عليه. فمن يقول إنه يجب أن نواصل الحرب لنقتص لمئات الآلاف الذين ماتوا ربما لا يدري أنه قد يسقط مئات الآلاف من الأحياء فقط من أجل القصاص لمن قتلوا في هذه الحرب. هنالك الكثير من البحوث والدراسات التي غاصت عميقا في جدلية العدالة والسلام، وكيف يمكن أن يكونا متكاملين، ليس متناقضين، أو أن ينظر إلى السلام وكأنه التخلي عن العدالة، أو أن التمسك بالعدالة وكأنه دعوة إلى حرب لا نهاية لها.

خلاصة القول إنه يجب أن نفهم أن الصدمة النفسية والذهول؛ مما حل بالناس في هذه الحرب في كل المواقع تركت حالة من الغضب تجعل من الرغبة في الانتقام تبدو وكأنها الأمر المنطقي الوحيد، وهذا السلوك ليس غريبا على تركيبة النفس البشرية، تفهم هذه المشاعر كما هي هو الخطوة الأولى لصناعة سردية للسلام.

وفي حقيقة الأمر أن السودانيين اليوم مقسمون ومنقسمون ولهم عشرات الأسباب التي تدفعهم للاستقطاب والخوف من بعضهم البعض وكراهية بعضهم بعضا. ولكن المهم أن استمرار الحرب بحجة القصاص أو لضمان عدم تكرار ما حدث (انتهاكات الدعم السريع والاغتصاب والإذلال من ناحية واستهداف طيران القوات المسلحة للمدنيين وصناعة الكباب من ناحية) حسب موقع الفرد من معادلة الاستقطاب لا يمكن أن تحقق عدالة لأي متظلم، بل أن استمرار الحرب يعني مزيدا من الضحايا والغضب، وستصبح ساقية الموت هذي تغذي نفسها بأدوات ومبررات الموت. أما الأهم فهو أن السلام هو بداية العدل، وأن الوصول إلى سلام لا يعني التخلي عن حقوق الضحايا، ولا يعني الإفلات من العقاب، بل إن هناك مقاربات نظرية وعملية يمكن أن تحقق السلام، وتؤسس لمشروع متكامل للعدالة والعدالة الانتقالية التي هي شرط ضرورة الآن لوضع لبنات لبرنامج تعاف اجتماعي ومصالحة وطنية تقود إلى عقد اجتماعي جديد يخرج من ركام هذا الموت والخراب.

السلام هو العدل والحل المتفاوض عليه يمكن أن يحقق الأهداف السياسية للحرب، وأن ينصف الضحايا، والمعادلة ليست صفرية كما يحاول أن يصورها دعاة الحرب، فالحرب خيار والسلام خيار، وقد أثبت الناس أنهم مع خيار السلام مرارا وتكرارا فهلا عقلنا لنوقف آلة الموت وأمامنا الآن فرصة هدنة الرباعية.

الوسومد. بكري الجاك

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: د بكري الجاك یمکن أن یجب أن

إقرأ أيضاً:

تفكيك!!

صباح محمد الحسن طيف أول: يانيل من ضفافك تنثال الحكايات كما يليق بالمدائن الشاهدة على عبور الضوء .. المجد اسمك!! ويبدو أن مايمسك قيادة الجيش عن إعلانها صراحة لقبول التفاوض الذي مازال يجري في سرية، لا تكمن في شروط الحوار أو موازين القوى، بل في كيفية التخلص من خطاب الحرب والكراهية الذي بات متجذرًا في الوعي الجمعي لدعاة الحرب هذا الخطاب، الذي صوّر الطرف الآخر كوحش يلتهم الأرواح ويهدد بقاء الدولة، قد لا يترك مساحة للمرونة أو لإعادة النظر في جدوى استمرار القتال. فبالرغم من أن الدعم السريع ارتكب جرائما مروعة ضد المواطن السوداني جعلته على صدارة المتسببين في انتهاكات الحرب إلا إن خطاب الكراهية الذي تم صبه في ذهنية المواطن لا يخدم سوى دعم استمرار الحرب و إطالة أمد الصراع، ويجعل خطوة التفاوض من قبل القيادة العسكرية كأنه خيانة أو ضعف. فأكثر مايجعل القيادة العسكرية تفضل سرية التفاوض هو أنها وجدت نفسها امام ورطة الوحش الذي قدمته كتهديد وجودي إن هذا التناقض يفرض عليها ضرورة تفكيك الخطاب التعبوي الذي غذّى الحرب، ومعركة إعادة تشكيل الوعي العام نحو قبول فكرة السلام. ولذلك، فإن الجيش وإن كان قد بدأ يدرك استحالة الحسم العسكري قد يحتاج الي مسرح مواز لعملية التفاوض ليلقن فيها عقلية دعم الحرب دروسًا تدريجية حول ضرورة التفاوض، ويعيد تعريف مفاهيم الوطنية والمصلحة العليا. فالتراجع عن خطاب الكراهية لا يتم ببيان رسمي، بل بخطوات مدروسة تعيد بناء الثقة وتفتح الباب أمام التسوية السياسية. إن السلام لا يُفرض، بل يُبنى، وخطوة البناء الأولى تبدأ من تفكيك أدوات التحريض، التي كانت جزءًا من آلة الحرب، وليست من أدوات الحل. ولأجل فتح الطريق نحو التفاوض بعتباره واقع الآن ، فلا بد من تخفيف حدة لغة الكراهية المتغلغلة في الخطاب العسكري، واستبداله تدريجيًا بخطاب إنساني يعترف بآلام الجميع ويؤسس لفكرة أن السلام ليس تنازلًا، بل مسؤولية وطنية فالخطاب الإنساني لا يعني التنازل عن المبادئ، بل يعني الاعتراف بأن الحرب تقتل الجميع، وأن الوطن لا يُبنى على أنقاض الكراهية. لهذا فإنه من المهم هو أن تبدأ القيادة العسكرية بإعادة صياغة رسائلها الإعلامية لتُظهر أن السلام لا يتطلب إذلالًا، بل يتطلب شجاعة أخلاقية للاعتراف بالواقع، وجرأة سياسية لتجاوز الصور النمطية التي غذّتها آلة الحرب. فالتحول من خطاب الكراهية إلى خطاب إنساني هو الخطوة الأولى نحو بناء الثقة، وتهيئة الأرضية النفسية لقبول التفاوض، ليس فقط داخل المؤسسة العسكرية، بل في وجدان مؤيديها أيضًا. كما أن رفض فلول النظام البائد للسلام يبرز البُعد السياسي للحرب كعامل حاسم. فهؤلاء يدركون أن نهاية الحرب لا تعني فقط وقف إطلاق النار، بل تعني عودة المسار المدني، وهو ما يُعد انتصارًا سياسيًا غير مباشر للثورة. هذا التحول يُعيد الاعتبار لمطالب الشعب، ويُضعف منطق الحكم العسكري الذي كان مظلة لسلطتهم لعقود. إن قبول السلام في هذا السياق يعني الاعتراف بانتصار مشروع الثورة، وهذا ما يجعل الفلول يتشبثون باستمرار الحرب، ليس دفاعًا عن الوطن، بل دفاعًا عن امتيازاتهم السياسية والاقتصادية التي تهددها المدنية. فالحرب بالنسبة لهم ليست معركة وجود، بل وسيلة لتعطيل التحول الديمقراطي، وتأجيل المحاسبة، ومنع إعادة تشكيل الدولة على أسس العدالة والشفافية. لذلك، فإن مقاومة السلام من قبلهم ليست موقفًا عسكريًا، بل مناورة سياسية تهدف إلى إطالة عمر النفوذ القديم، وعرقلة أي مسار يعيد السلطة إلى الشعب فالاستمرار للتفاوض بين الطرفين بواشطن والذي يناقش الآن مقترح هدنة إنسانية لمدة تسعة أشهر، يتم خلالها فتح الممرات الإنسانية لتوصيل المساعدات للنازحين والمحتاجين، ويمكن من خلاله التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار في أيام قادمات يؤكد أن رفض الهدنة هو خطاب ميداني تقتضيه ظروف الميدان فالبرهان كما ذكرنا سيظل يتحدث عن رفض الهدنة الي ساعة التوقيع عليها لذلك ذهبنا بالحديث الي ضرورة تصدير خطاب السلام بدلا من اعادة خطاب الحرب حتى يستطيع أن يتقدم بجرأة. طيف أخير: .أعلن وزير الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية ، معتصم آدم صالح، أن نسبة الفقر في البلاد قد شهدت ارتفاعًا هائلاً لتصل إلى 71% من إجمالي السكان، أي ما يعادل حوالي 23 مليون شخص لسان اعتراف حكومي بعد إنكار مستمر. الوسومصباح محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • عباس شومان: الإسلام دين سلام.. ونرفض إساءة تأويل آيات القتال في القرآن لتشويه صورته
  • معركة السـلام في السودان: الوعي في مواجهة الانـزلاق
  • السودان لا يركع .. والعدالة قادمة
  • تفكيك!!
  • نتنياهو يطالب بتشكيل لجنة تحقيق متوازنة في أحداث 7 أكتوبر.. ويلوّح بـ قوة السلام
  • نتنياهو في ردّه على تشكيل لجنة تحقيق رسمية: "المعركة لم تنتهِ"
  • إلى أي مدى يمثل الإسلاميون معضلة سلام في السودان؟
  • تسريبات أولية من نتائج تحقيق جيش الاحتلال في إخفاقه أمام حماس بـهجوم الطوفان
  • تحقيق في تهديد إرهابي مرتبط بأحد منفذي هجمات باريس 2015