لجريدة عمان:
2025-11-18@19:32:51 GMT

تسييس الثّقافة

تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT

الثّقافة كعنصر كلّي مركب مرتبط بحركة الاجتماع البشريّ، أي الثّقافة مرتبطة بالإنسان؛ فهي «الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع» كما يعرّفها ندين لإدوارد تايلور (ت: 1917م)، ولا يمكن إخراجها عن هذا المفهوم المتحرك، فجعلها في دائرة المغلق يعني قتل جماليّة التّنوع فيها، كما جعلها في دائرة المصالح السّياسيّة يعني إخراجها من دائرة التّدافع والتّثاقف الطّبيعيّ إلى دائرة الصّراع والتّنافر، فتضيق إذا أغلقت لاهوتيّا، وتتصارع إذا ربطت بالمنفعة السّياسيّة الآنيّة.

ارتباط الثّقافة بالإنسان أي ارتباطها بمطلق مبدأ الجمال، والجمال ليس على صورة واحدة، وكلّما تعدّدت صوره انعكس أثرة الإيجابيّ على الجنس البشريّ؛ فهذه الصّور المختلفة من الثّقافات كانت عرقيّة أم لغويّة أم دينيّة أم مذهبيّة أم فنيّة هي انعكاسات هذا الجمال. ولا يمكن بحال حصر الثّقافة في جغرافيّة محدودة؛ فهي عابرة للحدود الجغرافيّة لارتباطها بالإنسان، وفضاء الإنسان فكرا وثقافة لا يحدّ بحدود قطريّة لا تتجاوز غايتها حدّ التّنظيم، خصوصا في عالمنا الرّقميّ اليوم، فأصبح مشاعا للكلّ. ومحاولة تسييسه أو حدّه جغرافيا كمن يحاول حدّ مياه البحار الواسعة؛ فهو وإن جعل لها حدودا إقليميّة، إلّا أنّ ما في بطنها يسبح وينتقل من مكان لآخر دون تقيّد بهذه الحدود، كذلك فضاء الثّقافة اليوم في عالمنا الرّقميّ لا حدود تحدّها.

هناك فارق بين استثمار الثّقافة وبين تسييس الثّقافة. استثمارها يعني التّعامل معها إيجابا على درجة واحدة، وتفعيلها لتكون عنصرا يساهم في التّنمية، وفي التّنوع والاستقرار الوطنيّ. أمّا التّسييس فيتمّ عبر ربطها بعنصر المنفعة أو المصلحة الآنيّة، وأحيانا تكون السّياسة فاعلا في خلق الصّراع بين الإثنيات الثّقافيّة، ليُشغل المجتمع بالصّراعات الثّقافيّة؛ لأجل بقاء بعض الأفراد في السّلطة لفترة أكبر، وأحيانا الاتّكاء على ثقافة معيّنة لأسباب دينيّة أو مذهبيّة أو قبليّة أو اجتماعيّة؛ فيؤدّي هذا بالضّرورة إلى خلق تهميش متعمد لثقافات أخرى مشتركة في الحدود القطريّة ما يؤدّي إلى انقراض ثقافات بشريّة، أو إلى خلق صراع يظهر عند الضّعف السّياسيّ بشكل أكثر حدّة، فيخرجنا من تدافع الثّقافات واستثمارها إلى صراع الثّقافات وتنافرها.

وبما أنّ الثّقافة الأصل أن تكون في الدّولة الوطنيّة على درجة واحدة متساوية، لارتباط المواطنة في الدّولة الوطنيّة بالمساواة والعدالة من حيث الذّات، ومن حيث الانتماءات الثّقافيّة المرتبطة بهذه الذّات؛ فالثّقافة أوسع وأعلى من السّلطة؛ لأنّها انتماء وجوديّ في الوطن، والسّلطة عنصر تنظيميّ متحرك غايتها تحقيق كرامة الذّات، والحفاظ عليها ذاتا وانتماء، وتحقيق مبدأ المساواة والعدالة فيها، فإذا خرجت السّلطة من فاعليّتها التّنظيميّة إلى كونها عنصرا يعوق هذه المساواة الثّقافيّة فهنا يأتي دور المثقف ليكون راصدا وناقدا لهذه السّلطة؛ ليرجعها إلى الطّريق السّليم والأصلح وفق تدافع الثّقافات. هذا التّدافع شيء طبيعيّ منذ القدم، والثّقافات تتدافع وتتداخل وتتهذّب طبيعيّا، ومنها ما ينقرض، ومنها ما يتطوّر، ومنها ما يتشكلّ في أنماط ثقافيّة جديدة، والسّلطة يتحقّق حضورها وفق هذه الثّقافات المتعدّدة من خلال استثمارها لها إيجابا وفق قانون عادل ومنصف بينها يحفظ هذا التّدافع الطّبيعيّ.

والدّولة لا تُربط بثقافة معينة، ولا يمكن حمل النّاس على ثقافة واحدة تتبناها الدّولة، خصوصا في الدّول الّتي توجد فيها أنماط ثقافيّة مختلفة، وواضحة بشكل كبير، كالأنماط المذهبيّة أو العرقيّة أو اللّغويّة أو الاجتماعيّة، وهويّة الدّولة الجامعة واسعة بحيث تشمل جميع الهويّات والثّقافات الأخرى. وكلّما اتّسعت هويّة الدّولة، وانفتحت على الكلّ كانت أكثر استقرارا داخليّا، ويُبنى داخلها على عقليّة التّعايش الحقيقيّ الّذي يؤمن به الجميع، ولا يتوقف عند سلطة القانون فقط.

وإذا خرجنا من فضاء الدّولة إلى فضاء الإنسان الأوسع فنحن بحاجة في عالم الكوكبة اليوم إلى بناء عقليّات تتفاعل إيجابا مع جميع المكونات الثّقافيّة في العالم؛ فالثّقافة شيء انتمائيّ متعلّق بالبيئة، وعنصر الاستهجان من ثقافة الآخر سببه بيئيّ، ولا علاقة له بالجانب التّكوينيّ في الذّات الإنسانيّة. فالبيئة هي من جعلتك تكسب لغة ودينا ومذهبا ولباسا ومطعومات وفنونا معيّنة؛ فإيمانك بها في الغالب إيمان بيئيّ، واعتزازك بها واطمئنانك إليها يعود إلى السّبب البيئي ذاته، ولا علاقة له بالتّكوين الإنسانيّ المطلق، ولا بالحقيقة المطلقة. على هذا يجد الإنسان اليوم - بسبب الخلطة - تنوعا ثقافيّا بشكل أقرب ممّا كان بالأمس؛ لهذا المجتمعات اليوم بحاجة إلى التّعود على التّعايش الطّبيعيّ مع هذه الثّقافات المختلفة.

لمّا بدأت الصّحافة والمجلّات والشاشة الصّغيرة والسّينما حاول الإعلام الغربيّ تسييس الثّقافة، وإظهار الثّقافة الغربيّة، وأنّ التّقدّم الحضاريّ مربوط بهذه الثّقافة، ولكي تكون متقدّما حضاريّا عليك أن تظهر ذاتك بهويّة غربيّة روج لها الإعلام الغربيّ حينا من الزّمن، وأقصى بها ثقافات حتّى داخل بعض المجتمعات الغربيّة ذاتها، كما حدث عند ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، أو محاولة إقصاء ثقافات أمريكا اللّاتينيّة، خصوصا عند الدّول المناهضة للإمبرياليّة الأمريكيّة. هذا الأمر تلاشى اليوم لظهور قوى اقتصاديّة في العالم لها ثقافتاها الخاصّة بها، وأصبحت متقدّمة لا لأنّها تبنّت الثّقافة الغربيّة المسيّسة، وإنّما لإدراكها أنّ التّقدّم الحضاريّ، ومنه الاقتصاديّ والتّنمويّ مرتبط بسننيّة عوامل التّقدّم ذاته، ولا علاقة له بالانتماءات والخصوصيّات الثّقافيّة على أنّ التّقدّم الحضاريّ عند أمّة ما يسهم في إظهار ثقافتها للآخر بشكل طبيعيّ، كما تتهذّب به ثقافاتها في الدّاخل، وتتأثر به ثقافات أخرى وفق سنّة التّدافع لا الإقصاء المتعمد سياسيّا. هذا الأمر ذاته ينطبق على الدّولة القُطريّة -كما في غالب عالمنا العربيّ- عندما حاولت تسييس الثّقافة لسبب سيطرتها المطلقة على الإعلام المحلّيّ مكتوبا ومرئيّا ومسموعا، لكن تلاشى الأمر اليوم بسبب الطّفرة الرّقميّة المرتبطة بالأفراد والمؤسّسات الإعلاميّة المشاركة، فظهرت ثقافات متنوعة في الدّولة القطريّة قد تكون مهمّشة إعلاميّا في السّابق بسبب السّلطة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الد ولة الس لطة فی الد

إقرأ أيضاً:

تسييس الثّقافة

الثّقافة كعنصر كلّي مركب مرتبط بحركة الاجتماع البشريّ، أي الثّقافة مرتبطة بالإنسان؛ فهي «الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع» كما يعرّفها ندين لإدوارد تايلور (ت: 1917م)، ولا يمكن إخراجها عن هذا المفهوم المتحرك، فجعلها في دائرة المغلق يعني قتل جماليّة التّنوع فيها، كما جعلها في دائرة المصالح السّياسيّة يعني إخراجها من دائرة التّدافع والتّثاقف الطّبيعيّ إلى دائرة الصّراع والتّنافر، فتضيق إذا أغلقت لاهوتيّا، وتتصارع إذا ربطت بالمنفعة السّياسيّة الآنيّة.

ارتباط الثّقافة بالإنسان أي ارتباطها بمطلق مبدأ الجمال، والجمال ليس على صورة واحدة، وكلّما تعدّدت صوره انعكس أثرة الإيجابيّ على الجنس البشريّ؛ فهذه الصّور المختلفة من الثّقافات كانت عرقيّة أم لغويّة أم دينيّة أم مذهبيّة أم فنيّة هي انعكاسات هذا الجمال. ولا يمكن بحال حصر الثّقافة في جغرافيّة محدودة؛ فهي عابرة للحدود الجغرافيّة لارتباطها بالإنسان، وفضاء الإنسان فكرا وثقافة لا يحدّ بحدود قطريّة لا تتجاوز غايتها حدّ التّنظيم، خصوصا في عالمنا الرّقميّ اليوم، فأصبح مشاعا للكلّ. ومحاولة تسييسه أو حدّه جغرافيا كمن يحاول حدّ مياه البحار الواسعة؛ فهو وإن جعل لها حدودا إقليميّة، إلّا أنّ ما في بطنها يسبح وينتقل من مكان لآخر دون تقيّد بهذه الحدود، كذلك فضاء الثّقافة اليوم في عالمنا الرّقميّ لا حدود تحدّها.

هناك فارق بين استثمار الثّقافة وبين تسييس الثّقافة. استثمارها يعني التّعامل معها إيجابا على درجة واحدة، وتفعيلها لتكون عنصرا يساهم في التّنمية، وفي التّنوع والاستقرار الوطنيّ. أمّا التّسييس فيتمّ عبر ربطها بعنصر المنفعة أو المصلحة الآنيّة، وأحيانا تكون السّياسة فاعلا في خلق الصّراع بين الإثنيات الثّقافيّة، ليُشغل المجتمع بالصّراعات الثّقافيّة؛ لأجل بقاء بعض الأفراد في السّلطة لفترة أكبر، وأحيانا الاتّكاء على ثقافة معيّنة لأسباب دينيّة أو مذهبيّة أو قبليّة أو اجتماعيّة؛ فيؤدّي هذا بالضّرورة إلى خلق تهميش متعمد لثقافات أخرى مشتركة في الحدود القطريّة ما يؤدّي إلى انقراض ثقافات بشريّة، أو إلى خلق صراع يظهر عند الضّعف السّياسيّ بشكل أكثر حدّة، فيخرجنا من تدافع الثّقافات واستثمارها إلى صراع الثّقافات وتنافرها.

وبما أنّ الثّقافة الأصل أن تكون في الدّولة الوطنيّة على درجة واحدة متساوية، لارتباط المواطنة في الدّولة الوطنيّة بالمساواة والعدالة من حيث الذّات، ومن حيث الانتماءات الثّقافيّة المرتبطة بهذه الذّات؛ فالثّقافة أوسع وأعلى من السّلطة؛ لأنّها انتماء وجوديّ في الوطن، والسّلطة عنصر تنظيميّ متحرك غايتها تحقيق كرامة الذّات، والحفاظ عليها ذاتا وانتماء، وتحقيق مبدأ المساواة والعدالة فيها، فإذا خرجت السّلطة من فاعليّتها التّنظيميّة إلى كونها عنصرا يعوق هذه المساواة الثّقافيّة فهنا يأتي دور المثقف ليكون راصدا وناقدا لهذه السّلطة؛ ليرجعها إلى الطّريق السّليم والأصلح وفق تدافع الثّقافات. هذا التّدافع شيء طبيعيّ منذ القدم، والثّقافات تتدافع وتتداخل وتتهذّب طبيعيّا، ومنها ما ينقرض، ومنها ما يتطوّر، ومنها ما يتشكلّ في أنماط ثقافيّة جديدة، والسّلطة يتحقّق حضورها وفق هذه الثّقافات المتعدّدة من خلال استثمارها لها إيجابا وفق قانون عادل ومنصف بينها يحفظ هذا التّدافع الطّبيعيّ.

والدّولة لا تُربط بثقافة معينة، ولا يمكن حمل النّاس على ثقافة واحدة تتبناها الدّولة، خصوصا في الدّول الّتي توجد فيها أنماط ثقافيّة مختلفة، وواضحة بشكل كبير، كالأنماط المذهبيّة أو العرقيّة أو اللّغويّة أو الاجتماعيّة، وهويّة الدّولة الجامعة واسعة بحيث تشمل جميع الهويّات والثّقافات الأخرى. وكلّما اتّسعت هويّة الدّولة، وانفتحت على الكلّ كانت أكثر استقرارا داخليّا، ويُبنى داخلها على عقليّة التّعايش الحقيقيّ الّذي يؤمن به الجميع، ولا يتوقف عند سلطة القانون فقط.

وإذا خرجنا من فضاء الدّولة إلى فضاء الإنسان الأوسع فنحن بحاجة في عالم الكوكبة اليوم إلى بناء عقليّات تتفاعل إيجابا مع جميع المكونات الثّقافيّة في العالم؛ فالثّقافة شيء انتمائيّ متعلّق بالبيئة، وعنصر الاستهجان من ثقافة الآخر سببه بيئيّ، ولا علاقة له بالجانب التّكوينيّ في الذّات الإنسانيّة. فالبيئة هي من جعلتك تكسب لغة ودينا ومذهبا ولباسا ومطعومات وفنونا معيّنة؛ فإيمانك بها في الغالب إيمان بيئيّ، واعتزازك بها واطمئنانك إليها يعود إلى السّبب البيئي ذاته، ولا علاقة له بالتّكوين الإنسانيّ المطلق، ولا بالحقيقة المطلقة. على هذا يجد الإنسان اليوم - بسبب الخلطة - تنوعا ثقافيّا بشكل أقرب ممّا كان بالأمس؛ لهذا المجتمعات اليوم بحاجة إلى التّعود على التّعايش الطّبيعيّ مع هذه الثّقافات المختلفة.

لمّا بدأت الصّحافة والمجلّات والشاشة الصّغيرة والسّينما حاول الإعلام الغربيّ تسييس الثّقافة، وإظهار الثّقافة الغربيّة، وأنّ التّقدّم الحضاريّ مربوط بهذه الثّقافة، ولكي تكون متقدّما حضاريّا عليك أن تظهر ذاتك بهويّة غربيّة روج لها الإعلام الغربيّ حينا من الزّمن، وأقصى بها ثقافات حتّى داخل بعض المجتمعات الغربيّة ذاتها، كما حدث عند ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، أو محاولة إقصاء ثقافات أمريكا اللّاتينيّة، خصوصا عند الدّول المناهضة للإمبرياليّة الأمريكيّة. هذا الأمر تلاشى اليوم لظهور قوى اقتصاديّة في العالم لها ثقافتاها الخاصّة بها، وأصبحت متقدّمة لا لأنّها تبنّت الثّقافة الغربيّة المسيّسة، وإنّما لإدراكها أنّ التّقدّم الحضاريّ، ومنه الاقتصاديّ والتّنمويّ مرتبط بسننيّة عوامل التّقدّم ذاته، ولا علاقة له بالانتماءات والخصوصيّات الثّقافيّة على أنّ التّقدّم الحضاريّ عند أمّة ما يسهم في إظهار ثقافتها للآخر بشكل طبيعيّ، كما تتهذّب به ثقافاتها في الدّاخل، وتتأثر به ثقافات أخرى وفق سنّة التّدافع لا الإقصاء المتعمد سياسيّا. هذا الأمر ذاته ينطبق على الدّولة القُطريّة -كما في غالب عالمنا العربيّ- عندما حاولت تسييس الثّقافة لسبب سيطرتها المطلقة على الإعلام المحلّيّ مكتوبا ومرئيّا ومسموعا، لكن تلاشى الأمر اليوم بسبب الطّفرة الرّقميّة المرتبطة بالأفراد والمؤسّسات الإعلاميّة المشاركة، فظهرت ثقافات متنوعة في الدّولة القطريّة قد تكون مهمّشة إعلاميّا في السّابق بسبب السّلطة.

مقالات مشابهة