اليوم العالمي للتسامح والتجربة العُمانية
تاريخ النشر: 18th, November 2025 GMT
لم أنسَ ذلك الصباح البعيد عندما وصلت إلى عُمان لأول مرة في عام 2004 للعمل في جامعة السلطان قابوس. كنت أقود سيارة مستأجرة في طريق ما زلت أتعرف عليه. فوجئت أثناء محاولة الوقوف في إشارة للمرور بحدوث احتكاك بسيط مع سيارة أخرى. في بلدان كثيرة عشتُ فيها أو زرتها؛ كنت أتوقع ردود فعل سريعة وغاضبة من قائد السيارة الأخرى: أصوات ترتفع، ملامح تتجهم، واتهامات تُلقى قبل أن يُفهم أصل المشكلة.
لم يتجهم وجهه، لم يُظهر ضجرًا، لم يعاتبني، ولم يرفع صوته. وقفنا نتبادل حديثًا وديًا بقدر من الألفة لم أكن معتادًا عليه في مواقف مشابهة بينما ننتظر شرطي المرور، وكأننا نقف في استراحة لا في موقع حادث.
ذلك الموقف كان نافذتي الأولى لفهم جوهر الشخصية العُمانية: هدوء في الأزمات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، وإدراك واع بأن الانفعال لا يحل مشكلة، ورغبة دائمة في حفظ الكرامة الإنسانية للطرف الآخر.
يومها أدركت أن التسامح في عُمان ليس شعارًا اجتماعيًا أو سياسة رسمية فقط، بل ممارسة يومية تظهر في طريقة قيادة السيارة، وفي أسلوب الحديث، وفي ردود الفعل التلقائية تجاه المواقف الصعبة.
أتذكر هذه القصة كلما حل اليوم العالمي للتسامح في السادس عشر من نوفمبر ذلك اليوم الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1996 بعد عام من اعتماد منظمة اليونسكو «إعلان مبادئ التسامح». في ذلك العام كان العالم يموج بتغييرات سياسية وفكرية عميقة، وظن الجميع أننا ندخل عصرًا جديدًا من الانفتاح بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وانتهاء الحرب الباردة، وتحوّل الإنترنت إلى وسيلة اتصال جماهيرية.
ومع هذه التحولات ظهرت أطروحات فكرية كبرى أبرزها أطروحة «فرانسيس فوكوياما» عن نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية وانتهاء الصراع الأيديولوجي الذي حكم القرن العشرين، كما ظهرت مفاهيم ووسائل جديدة مثل العولمة، ووسائل الاتصال والإعلام الجديدة.
كان المتوقع أن تفتح تلك التطورات الأبواب أمام تواصل أكبر بين الشعوب والثقافات والدول وبالتالي تحقيق المزيد من التسامح غير أن الواقع سار في اتجاه مختلف تماما وربما أكثر قسوة بعد أن اكتشفنا أن العالم رغم تقدمه التكنولوجي لا يزال عاجزًا عن تجاوز الكثير من صور وأنماط الكراهية، وأن الانقسام الإنساني يزداد رسوخا وبأشكال أكثر تعقيدًا مما كان في السابق.
بعد ثلاثين عاما من إقرار اليوم العالمي للتسامح تبدو الصورة قاتمة للغاية؛ إذ يواجه العالم موجات متلاحقة من الاستقطاب الحاد نتج عنها انتشار خطاب الكراهية، وعودة التعصب القومي والديني، وتراجع قبول الآخر المختلف لصالح التصعيد والتحريض. التكنولوجيا التي صممت لتقريب البشر تحولت اليوم إلى منصات لإعادة إنتاج الخلاف، ونشر خطاب الكراهية.
أما خوارزميات التواصل الاجتماعي فتركز مدفوعة بالرغبة في تحقيق الربح على نشر المحتوى المثير للصراعات على حساب المحتوى الداعي للحوار والتسامح. كل ذلك جعل ملايين البشر محاصرين داخل فقاعات اتصالية لا يسمعون فيها إلا صوت من يشبههم، وتحول الاتصال الإنساني إلى صدام، والرأي المخالف إلى خطر يواجه أحيانا بالقتل والاعتقال، والفكرة الجديدة إلى تهديد.
لم تكن المنطقة العربية بمعزل عن هذا الاستقطاب. وتؤكد التجارب المريرة التي مرت وما زالت تمر بها بعض الدول العربية خلال العقدين الماضيين أن العرب كانوا من أكثر الشعوب التي اكتوت بنار الكراهية وغياب التسامح. فعندما سقطت لغة الحوار اندلعت صراعات طائفية ومذهبية وسياسية مزّقت دولًا بكاملها بعد أن تحول الاختلاف إلى عداء. وأصبح غياب التسامح يمثل تهديدًا مباشرًا للسلم الأهلي والتنمية والاستقرار. وهو تحول يدفع الجميع أثمانا باهظة له حتى اليوم.
وسط مشاهد الحروب الأهلية العربية تبدو التجربة العُمانية أحد النماذج المضيئة القادرة على تقديم معنى عملي للتسامح. في تقديري أن التسامح في سلطنة عمان لا يمثل سياسة جديدة جاءت لتتوافق مع اليوم العالمي للتسامح، بل هو جزء من هوية ثقافية واجتماعية تشكلت عبر قرون من الزمن، وقامت على التواصل مع شعوب الشرق والغرب، والتعدد المذهبي الذي لم يتحول يومًا إلى صراع.
لقد عرف المجتمع العماني مبكرًا أن التنوع ثروة، وأن احترام الآخر شرط للحفاظ على الوحدة الوطنية، وأن الهدوء فضيلة اجتماعية تُبنى عليها علاقات الناس. لهذا السبب؛ فإن السلوك البسيط الذي شهدته في ذلك الصباح البعيد لم يكن استثناءً، بل تجسيدًا لثقافة أوسع.
نجح النموذج العُماني في التسامح في مقاومة موجات الاستقطاب العالمي. ولعل هذا النجاح هو ما يجعلنا نشدد على ضرورة الحفاظ على هذا النجاح عبر تعزيز شخصية العُماني المتسامح مع نفسه ومع العالم، خاصة في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ البشرية التي تتغير فيها أدوات التأثير، وتتشكل فيها العقول من خلال منصات رقمية عابرة للحدود قادرة على إدخال قيم غريبة على المجتمعات، وتضخيم الخلافات، ونشر خطاب الكراهية بسهولة وسرعة مذهلة. ويحتاج الحفاظ على هذه الشخصية المتفردة إلى تعزيز الوعي التربوي والإعلامي والثقافي بها، والتعامل معها باعتبارها حائط صد منيع لمواجهة التحديات المتزايدة القادمة من الفضاء الرقمي.
في تقديري أن التسامح لا يعني القبول السلبي للآخر المختلف معنا. التسامح كما تعلمنا التجربة العُمانية هو القدرة الواعية على إدارة الخلاف، وهو في الوقت نفسه مهارة يمكن تعلمها وتعزيزها. ويبدأ هذا التعلم من الأسرة والمدرسة التي يجب أن تربي أبناءها على احترام التنوع، والإيمان بأن الاختلاف بين البشر سنة من سنن الله في الكون. ثم يأتي دور وسائل الإعلام الوطنية التي تمثل المدرسة المستمرة للشعوب.
هنا ينبغي أن تتحمل هذه الوسائل مسؤولياتها وأدوارها، وعلى رأسها تعزيز قيم التسامح عبر مقاومة إغراء الإثارة في تناول الموضوعات المختلف عليها، ومنح النقاش العام الرشيد مساحة للظهور، ودعم المؤسسات السياسية والمجتمعية التي تعزز قيم التسامح والمشاركة، وتضمن حقوق الناس، وتحمي المجتمع من صراع الهويات.
لا شك أن للتسامح أبعادا اقتصادية أيضا؛ فالدول التي تحتفي بالتنوع، وتدير اختلافاتها بطريقة سلمية هي الأكثر جذبًا للاستثمار والمواهب والقوى العاملة الماهرة. المجتمعات المتسامحة تنتج بيئات عمل صحية، وتخلق الثقة الضرورية لتطور اقتصاد المعرفة. وهكذا يتحول التسامح من قيمة إنسانية إلى مصلحة وطنية.
إن الوقوف أمام اليوم العالمي للتسامح يمثل فرصة لمراجعة أسلوب حياتنا، وقدرتنا على العيش المشترك، وكيف ندير خلافاتنا اليومية، وكيف نحمي أبناءنا من خطاب الكراهية الذي يتسلل إلى الهواتف قبل العقول.
علينا أن نعيد التفكير في طبيعة الفضاء الرقمي الذي أصبح امتدادًا لحياتنا، وفي ضرورة امتلاك مهارات جديدة للتهدئة، وللتحقق من المعلومات، ولإدارة الحوار بطريقة لا تجعلنا وقودًا لصراعات الآخرين.
إن الدرس الذي تعلمته في الطريق إلى عملي في أول يوم لي في عُمان وما زال يرافقني بعد عقدين تقريبًا هو أن التسامح في عُمان ممارسة وليس مجرد شعار، وهو اختيار شعبي عام أكثر من كونه سياسة دولة. هذا الاختيار هو ما يحتاجه العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ فإذا كان العالم يتجه نحو مزيد من الانقسام فإن قيمًا مثل تلك التي رأيتها في تلك اللحظة العابرة قادرة على إعادة بناء الثقة، وعلى تذكير الإنسان بأنه أكبر من خلافاته، وأن إنسانيته لا تنتقص عندما يختار الحوار على الصدام، ويقدم التسامح على الكراهية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الیوم العالمی للتسامح خطاب الکراهیة أن التسامح التسامح فی الع مانیة
إقرأ أيضاً:
أمل مبدي: التسامح ليس شعارًا… بل قوة تصنع الإنسان والمجتمع
قالت المهندسة أمل مبدى، رئيس الاتحاد المصري للإعاقات الذهنية والرئيس التنفيذي لاحتفالية قادرون باختلاف وأمين أمانة ذوي الإعاقة بحزب مستقبل وطن، إن اليوم العالمي للتسامح الذي يحتفل به العالم اليوم هو مناسبة إنسانية جديرة بالإحياء، لأنه يفتح الباب واسعًا أمام تجديد قيم قبول الآخر، والمساواة، ونبذ التعصب والكراهية بكل صورها.
وأكدت أن هذا اليوم يمثل تذكيرًا عالميًا برسالة السلام باعتبارها رؤية وقيمة وأسلوب حياة، وبوابة ضرورية للتعايش بين الشعوب، مشددة على أن التسامح ليس مجرد مبدأ اجتماعي، بل فريضة أخلاقية تدعم التواصل بين البشر، وتمنح المجتمعات قوة حقيقية في مواجهة الانقسام والخلاف.
وأوضحت المهندسة أمل مبدى أن الاحتفالية الرئاسية «قادرون باختلاف» كان لها دور بارز وملموس في ترسيخ قيم التسامح، وتقبّل الآخر، ورفع الوعي المجتمعي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. فهذه الاحتفالية التي تُقام برعاية ودعم القيادة السياسية أصبحت منصة سنوية تُعلّم الناس معنى الإنسانية الحقيقية، وتُغيّر ثقافة المجتمع تجاه الاختلاف، وتؤكد أن التنوع قوة وليس عبئًا.
وأضافت أن قادرون باختلاف نجحت في جمع المصريين حول رسالة واحدة: الاحترام، المساواة، ومساندة كل إنسان دون تمييز، وهو ما خلق تأثيرًا اجتماعيًا واسعًا، ورسّخ قيم التعاطف والتفاهم، وعزز من رؤية مصر كدولة تقود نهجًا حضاريًا في تمكين أصحاب الهمم وتغيير نظرة المجتمع إليهم إيجابيًا.
وأضافت مبدى أن الاحتفال باليوم العالمي للتسامح هو فرصة لإحياء القيم الحميدة، واستدعاء روح التفاهم والتقارب، والبحث الدائم عن نقاط الاتفاق المشترك بين الأديان والثقافات، بما يضمن سلامًا عادلًا يحفظ كرامة الإنسان، ويحمي الأرواح، ويصون مقدرات الشعوب، ويضمن للجميع حق العيش الكريم على أرض آمنة.
وأشارت إلى أن إعلان الجمعية العامة لليونسكو عام 1995 لاعتماد يوم 16 نوفمبر يومًا عالميًا للتسامح، وما تبع ذلك من إعلان مبادئ وخطة عمل لتعزيز ثقافة اللاعنف، يؤكد مسؤولية الدول والمؤسسات والمجتمعات في نشر هذه القيم عبر التعليم، والثقافة، والإعلام، والبرامج الموجهة لجميع الفئات، بما فيهم الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يمثلون ركيزة أصيلة في بناء مجتمع متسامح وشامل.
واختتمت المهندسة أمل مبدى تصريحاتها بالتأكيد على أن مصر تقدّم نموذجًا ملهمًا في احترام الاختلاف وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، وأن تعزيز ثقافة التسامح سيظل أحد أهم الدعامات لبناء مجتمع قوي، متماسك، وقادر على مواجهة التحديات بروح إنسانية حقيقية.