معظم رجال بنجلاديش منشغلون بالسياسة، نساء الأسر الريفية يمضين اليوم كله بين أعمال البيت والحقل، من أين لهن وقت للتفكير في شيء آخر؟ السياسة، كما الأدب، ترفٌ يخصّ الطبقة الوسطى في المدن في أوقات فراغها؛ به تُشبَع شهيّة عقولهم.
أما رجال القرى والبلدات الصغيرة فتدور أفكارهم السياسية حول الانتخابات. إنها هموم موسمية.
في الشوارع تجري العروض الاستعراضية. كل طرف يرى من واجبه أن يصرخ بأعلى صوته: أنا الصالح، والآخرون جميعا فاسدون. جماعات شتى تشخص أبصارها إلى مقعد السلطة، وتتورط في نزاعات الشركاء. تتطاير الكلمات من أفواههم كالألعاب النارية: مَن فيهم أكثر حبّا للشعب؟ ما إن تقترب الانتخابات حتى تفيض سلال حبّهم للشعب أمام الجماهير.
لقد اجتاح البلاد تسونامي سياسي في يوليو وأغسطس من العام الماضي، لكن الجميع كأنهم في طريقهم إلى نسيانه. لا أثر لتغيّر في لغة السياسة ولا في سلوك السياسيين. كل شيء يمضي كما كان: صدامات في الطرقات، تبادل للشتائم، وتشويه لسمعة الخصوم.
صحيح أن حراك يوليو قلب موازين السلطة رأسا على عقب، لكنه لم يستطع تغيير طبائع الناس. ما كان بالأمس هو نفسه ما نراه اليوم؛ لا توافق بين الأطراف المختلفة في أي مسألة تقريبا. إذا قال أحدهم: لنذهب شرقا، ردّ آخر: بل إلى الغرب نسير. ومع ذلك يصرخ الجميع بصوت واحد: نريد وحدة وطنية. أيُّ نوعٍ من المهزلة هذه؟
إذا لم تُنفذ المطالب الخمسة، وعلى رأسها تطبيق الميثاق الوطني ليوليو وتنظيم استفتاء في شهر نوفمبر، فإن جماعة الإسلام، والحركة الإسلامية، ومعهما ثمانية أحزاب، توعّدت بالاعتصام المفتوح أمام مقر كبير المستشارين. وقد صدر بالفعل تعميم حكومي بخصوص ميثاق يوليو، فصبّ شيئا من الماء على النار. لكن قرار إجراء الانتخابات والاستفتاء في اليوم نفسه أثار تبرّمهم. حزب بنجلاديش القومي (BNP) كان في البداية ضد الاستفتاء، ثم، بعد أن قرأ اتجاه الريح، اقترح إجراء الانتخابات والاستفتاء في اليوم ذاته. وهذا ما تبنّته الحكومة في تعميمها الرسمي، ولذلك ترى الجماعة الإسلامية في الأمر انتصارا لحزب بنجلاديش القومي.
الناس تتخيّل أن سلوك القضاة في البلاد لن يكون كسلوك عامة الناس، لكنهم في النهاية بشر أيضا، ولهم مطالبهم. في 18 نوفمبر تقدّمت جمعيتهم، «رابطة الخدمة القضائية في بنجلاديش»، بمطلبين اثنين: توفير قوات أمن في مساكن جميع القضاة في البلاد، وتأمين حركتهم وتنقّلهم. وحدّدوا مهلة زمنية للاستجابة. وأعلنوا أنه إذا لم تُلبَّ مطالبهم، فسوف يوقفون أقلامهم جميعا ويخوضون إضرابا عن العمل في المحاكم على مستوى البلاد.
هنا يبرز السؤال. مسؤولية الحكومة أن توفّر الأمن لكل إنسان في هذا البلد. إذا حظي الجميع بالأمن، فسيتحقق لهم ذلك أيضًا ضمنيًا. أمّا إذا طُرحت القضية بهذه الصورة الخاصة، فإنها تبدو أقرب إلى مطالب نقابة عمّالية منها إلى موقف يليق بالسلطة القضائية.
في 15 نوفمبر وقع حدث آخر. من مؤتمر «دولي» عُقد في دكا رُفعت المطالبة بإعلان جماعة الأحمدية (القاديانيين) المقيمة في بنجلاديش «غير مسلمين» بقرار رسمي من الدولة. عُقد المؤتمر بمبادرة من «مجلس حماية ختم النبوة الموحّد» وبرعاية «لجنة صون ختم النبوة - بنغلادش»، وشارك فيه كثير من العلماء من خمسة بلدان، من بينها بنغلادش.
خلال «المؤتمر الجماهيري الكبير» هذا أُعلن عن برنامج عمل يمتد طوال عام 2026 للمطالبة بإعلان الأحمديين غير مسلمين. يُذكر أنه تحت ضغط فئة من العلماء، أعلنت حكومة رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو عام 1974 الطائفةَ الأحمدية جماعةً غير مسلمة. وفي هذا المؤتمر في سُهروردِي أُوديان شوهد أيضًا بعض العلماء الباكستانيين. وقد وُجّهت اتهامات بأن هذه القضية تُستغل لإثارة القلق والاضطراب حول مسألة الأحمدية.
القوة الأكثر هشاشة اليوم هي جهاز الشرطة. في حراك يوليو 2024 أثار سلوكهم المتجاوز غضب الناس جميعًا تقريبًا. وقبل أن يهدأ هذا الغضب، أشعل مفوض شرطة دكا المتروبوليتان (DMP)، الشيخ محمد سَجّاد علي، مشكلة جديدة. ففي رسالة لاسلكية في 16 نوفمبر قال: إذا حاول شخص إشعال النار في مركبة أو إلقاء قنبلة «كوكتيل» بطريقة تعرّض الأرواح والممتلكات للخطر، فستطلق الشرطة النار لردعه.
في الآونة الأخيرة وقعت حوادث حرق متفرقة في أماكن مختلفة، كما جرت محاولات لأعمال تخريب.
كثيرون يقولون إن أنصار حزب الرابطةِ العَلمانية (الذي حُظرت أنشطته) هم الذين يقفون خلف هذه الأعمال. في هذا السياق وجّه مفوض شرطة دكا رسالته هذه، وشرح قائلا: «كل من يهاجم الناس أو أفراد الشرطة بقنابل كوكتيل ويشعل النار في المركبات، صدرت التعليمات بإطلاق النار عليهم وفقا للقانون».
مثل هذه التصريحات من مسؤول في هذا المستوى غيرُ مرغوب فيها. هو مطالب بأن يعمل في إطار القانون. لقد أطلقت حكومات سابقة النار عشوائيًا على الناس باسم مكافحة الإرهاب والتخريب، وهذا أمر غير مقبول.
نتذكّر أنه في عام 1972 قال رئيس الوزراء الشيخ مجيب الرحمن، في خطاب موجه إلى الشرطة وقوة «الراقشي باهِني»: «اضربوا الناكساليين بالرصاص ما إن تروهم». فاعترض المولانا بهشاني قائلاً: وهل يُكتب «ناكسالي» على جبين أحد؟
في 17 نوفمبر كان موعد صدور الحكم في قضايا الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة إبان انتفاضة يوليو الشعبية. في ذلك اليوم توجّهت مجموعة من المتظاهرين إلى منزل الشيخ مجيب الرحمن في رقم 32 بمنطقة دَهَنمُندي ومعهم حفّارتان كبيرتان لهدمه. الجيش والشرطة منعوهم، واندلعت هناك اشتباكات متكررة بين الجانبين. أرادوا أن يثبتوا ما في هدم هذا البيت من «بطولة» تتجاوز الوصف! لكن الشرطة والجيش، على طريقتهم الجافة، فرّقوهم وطردوهم.
مؤخرا وُجّهت بعض الاتهامات إلى قيادات في جماعة الإسلام، إذ قيل إنهم زعموا أن التصويت للجماعة في الانتخابات مرادف لدخول الجنة. أي سلاح سياسي أنجع من هذا لاستغلال مشاعر الناس البسطاء الدينية؟
في 22 مارس قال الأمين العام لحزب بنغلادش القومي (BNP)، ميرزا فخرول إسلام عالمغير: «يقولون إن قصّ تذكرة (صوت) للجماعة يعني قصّ تذكرة للجنة.
فليدلّني أحد أين ورد هذا، وليُرِني أين كُتب». ثم أشار إلى الجماعة قائلا: «قوة فاشية واحدة دمّرت مؤسسات الدولة كلها بوضع أتباعها في كل مفصل».
في المقابل، صرّح القيادي المركزي في الجماعة، شاهجاهان شودري، في 22 نوفمبر في شِتَّغُرام، مهدّدًا: «على كل واحد في دائرته الانتخابية أن يضع الإدارة تحت سيطرتنا. يجب أن تنهض وتجلس على كلمتنا، أن تعتقل بأمرنا وتفتح القضايا بتعليماتنا. على الشرطة أن تسير خلفك خطوة بخطوة. ضابط المركز (الأوسي) عليه أن يعرف برنامجك الصباحي ليمنحك «بروتوكولاً». وقد أصدرت «رابطة خدمة الشرطة في بنجلاديش» بيانًا احتجاجيًا على هذه التصريحات.
في 23 نوفمبر وقع اشتباك في تشَودّو غرام التابعة لكُمِللا بين كوادر حزب بنجلاديش القومي من جهة، وكوادر الجماعة و«شبيبِر» من جهة أخرى. أُصيب في الاشتباك ما لا يقل عن سبعة أشخاص من الطرفين، حالة ثلاثة من حزب بنجلاديش القومي وواحد من الجماعة خطيرة.
لم يمضِ على حراك يوليو 2024 عام وربع العام حتى بدأ البلد يعود إلى الطريق القديم نفسه. يبدو عدمُ العودة إلى ما قبل 5 أغسطس 2024، إلى الوضع السابق، فكرة تزداد ابتعادا حتى تكاد تبدو محضَ خيال طائش. وفي هذه الأثناء لا تكفّ رئيسة الوزراء المعزولة والهاربة، الشيخة حسينة، عن إطلاق الوعيد بأنها قد تعود في أي لحظة. لقد علقنا في متاهة حقيقية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی هذا
إقرأ أيضاً:
الدولار مقابل الشيكل.. أسعار صرف العملات في فلسطين اليوم السبت 29 نوفمبر
رام الله - صفا
جاءت أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الشيكل الإسرائيلي، اليوم السبت 29 نوفمبر/ تشرين ثانٍ 2025 على النحو التالي:
سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل 3.25 شيكل.
سعر صرف الدينار الأردني مقابل 4.59 شيكل.
سعر صرف اليورو الأوروبي مقابل 3.77 شيكل.
سعر صرف الجنيه المصري مقابل 0.068 شيكل.